الجمعة 27 سبتمبر 2024

لبنان تحت الاحتلال العثماني: إبادة وفقر وصراعات

فن1-11-2020 | 20:46

إبادة، تجويع، حصار، سخرة، بث الفتن الطائفية، قمع، الاستعانة بالمرتزقة، أوبئة وأمراض؛ هذه ليست أوصاف ما يجري في إحدى الدول العربية في عصرنا الحالي، بل هذه أقل ما توصف به فترة الاحتلال العثماني للبنان التي استمرت طيلة 500 عام تقريبًا انتهت بتسليم العثمانيين لبنان للدولة الفرنسية لتبدأ مرحلة الانتداب، والمؤسف محاولة العديد من الكتاب والصحفيين الذين يروجون لعكس هذا ضمن خطة عمل الآلة الإعلامية الإخوانية والتى كانت آخر تجلياتها ما كتبه الصحفي الإخواني أحمد منصور من أن (إهراءات) قمح بيروت بنيت خلال الفترة العثمانية.


ولعل الطريقة العثمانية البائدة لم تغب عن الدولة العثمانية - الأردوغانية الحديثة، فكل الدول التي تطمح تركيا بالدخول إليها والسيطرة عليها تشهد انقسامات مجتمعية حادة يليها الصراع الطائفي الذي يصل إلى مرحلة الصدامات المسلحة الدامية، بالإضافة طبعا إلى الانهيار الاقتصادي وحالة العوز والتجويع لإحكام السيطرة تحت ستارة المنقذ الكبير، وهو ما تجلى بزيارة نائب الرئيس التركي الذي زار بيروت بعيد الانفجار معلنا بكل وقاحة منح الجنسية التركية لكل من ينحدر من أصول تركية أو تركمانية من اللبنانيين.


وأستغرب وأتأسف على زمرة من اللبنانيين والعرب الذي لا يزالون يقفون إلى جانب السفاح الذي سفك دماء أجدادهم، وجوع جيل بأكمله، فلا يوجد عائلة لبنانية إلا وأصابها الضرر من الاحتلال العثماني، منها من فقد عزيزًا، ومنها من فقد الأرزاق، منها من جاع، وكم من جدة باعت جسدها مقابل كسرة خبز لتطعم طفلها، وكم من جد باع أرضه مقابل برتقالة، التاريخ لا يموت ولا تموت ذكرى الشهداء، ونفس التاريخ لن ينسى خيانتكم العظمى.

*تأجيج الفتن والصراعات

منذ بداية الاحتلال العثماني للبنان في العام 1516 تم استغلال التنوع الطائفي والمذهبي لهذا البلد، فقام الولاة العثمانيون ببث التفرقة بينهم استغلالًا لمبدأ فرق تسد، فقامت العديد من الأحداث الدموية التي قتل وجرح وشرد بسببها المئات من اللبنانيين، والتي أسست بطريقة أو بأخرى للصراع الطائفي المستمر في لبنان إلى الآن، بالإضافة إلى تصعيد طوائف دون أخرى في الوظائف الحكومية وتمكينها من اتخاذ القرار، كأحداث العنف التي اجتاحت جبل لبنان في الأعوام 1842، وبعدها في العام 1860، والتي تم خلالها إحداث الشق الكبير بين الدروز والمسلمين من جهة وبين الموارنة والكاثوليك من جهة أخرى، وتم إحداث فرز ديموغرافي طائفي لا يزال موجودًا إلى الآن، وذلك في وقت كانت الدولة العثمانية قد أعلنت خط كلخانة في العام 1939 المتعلق بتطبيق المساواة بين رعايا الدولة العثمانية إلا أنها ظلت حبرا على ورق لا أكثر.


وتلاعب العثمانيين أيضا بديموغرافية لبنان من خلال استقدام آلاف العناصر المسلحة المرتزقة بحجة حماية الشواطئ من هجمات الأساطيل البحرية الغربية، حيث تحولت هذه المجموعات إلى مجموعات استوطنت في العديد من المناطق اللبنانية مما أحدث خللا بالتوزيع الجغرافي والطائفي لتطويق المناطق التي قد تخرج عن سيطرة العثمانيين وليس فقط المسيحية بل حتى المسلمة أيضا، وبقيت هذه المجموعات إلى الآن في لبنان واندمجدت في المجتمع اللبناني، وليس بصدفة أو سر بأن هذه العائلات نفسها تتعاون في الوقت الحالي مع الجمعيات التركية والسفارة التركية لبسط السيطرة على الأرض مقابل أموال وامتيازات كثيرة منها الحصول على الجنسية التركية ومنح تعليم داخلية وخارجية في الجامعات التركية.


*المجاعة - الإبادة 

بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914 قام جنود الدولة العثمانية بمصادرة جميع محاصيل القمح والمواشي، وكل ما وجد في بيوت اللبنانيين من معادن وذهب وفضة، وبدا شبح الجوع يلوح بالأفق، إلى أن قام الحاكم العسكري العثماني جمال باشا بفرض حصار مطبق على لبنان الذي كانت تسميته وقتها متصرفية جبل لبنان، فمات جوعا ما لا يقل عن 200 ألف لبناني عام 1915، من أصل 414 ألف كانوا يشكلون تعداد لبنان وقتها بواقعة وصفت بأنها إبادة جماعية بكل معنى الكلمة تضاف إلى جرائم الدولة العثمانية في تلك الفترة كالإبادة الأرمنية والمجازر بحق اليونانيين، أي أن نصف اللبنانيين ماتوا جوعا، وينسب إلى وزير الحربية التركية أنور باشا قوله آنذك "إن الحكومة لا يمكنها استعادة حريتها وشرفها إلا عندما يتم تنظيف الإمبراطورية التركية من الأرمن.. واللبنانيين الأوائل دمرناهم بالسيف، أما الآخرون فسنميتهم جوعا"، ولجمال باشا السفاح مقوله الشهيرة "أنا لا أريد إدخال السلع الغذائية لجبل لبنان لأن اللبنانيين موالون للفرنسيين، وهو ما سيؤدي إلى سقوطها في أيدي الفرنسيين"، وتناول العديد من المؤرخين والكتاب هذه المرحلة والتي وصفت الحالة المرعبة التي سادت، من أكل للحوم الكلاب والقطط وكل ما يتحرك، ومشاهد القتلى على الطرقات، وانتشار البغاء مقابل قطعة خبز، وربما أبرز وصف ما ورد بمجلة الفنون عام 1917، ولاحقا بكتاب "العواصف" للكاتب اللبناني جبران خليل جبران "ماتوا صامتين لأن آذان البشريّة قد أغلقت دون صراخهم، ماتوا لأنهم لم يحبوا أعداءهم كالجبناء ولم يكرهوا محبّيهم، ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين، ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين، ماتوا لأنهم كانوا مسالمين، ماتوا جوعًا في الأرض التي تدرّ عسلا. ماتوا لأن الثعبان الجهنمي التهم كل ما في حقولهم من المواشي وما في أحراجهم من الأقوات". 


وخلال تلك الفترة (1914 - 1918) اعتمد الأتراك في لبنان على استنزاف كل المقومات، فبعد سرقة الأموال والمعادن الثمينة، تم فرض الضرائب الباهظة على العائلات الغنية التي وصلت إلى خط الفقر وتم التشدد على فرض، وجباية الجزية لغير المسلمين، وتم فرض أعمال السخرة لصالح الجيش التركي ومشاريعه خصوصا حفر الطرقات لتسهيل انتقالات الجنود، وفرضت الخدمة الإلزامية لكل الذكور من عمر 15 عاما وحتى الـ45، بمعنى أنه تم إفراغ لبنان من اليد العاملة والذي كان يعتمد وقتها بشكل أساسي على الأراضي الزراعية، ولابد من الإشارة إلى أن الحصار البري الذي فرض من قبل العثمانيين على لبنان بهدف التجويع والتركيع، يندرج ضمن جرائم الإبادة التي نص عليها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في التاسع من شهر ديسمبر / كانون الأول من العام 1949، والذي نص على تعرف ماهية الإبادة وكل ما يتعلق بها، فألا يستحق الشعب اللبناني الاعتراف بإبادته من قبل العثمانيين على غرار الاعتراف بالإبادة الأرمنية؟...


*الثقافة تفضح والسياسة تتستر 

وعن الحراك الثقافي في فترة الاحتلال العثماني للبنان يمكن القول إن اللامع منها أتى من الخارج، أي من لبنانيي المهجر الذين أحدثوا فارقا ثقافيا لا تزال آثاره باقية إلى اليوم، ونفس الأمر بالنسبة إلى الصحافة، وذلك عائد بالدرجة الأولى إلى العزلة التي فرضت على المنطقة العربية خلال فترة الاحتلال العثماني حتى أصيبت المنطقة بصدمة حضاية بكل معنى الكلمة عندما بدأت الحملة الفرنسية في العام 1798، إلا أن العديد من المؤلفات التي تلت هذا الاحتلال تناولت هذه الفترة والويلات التي عرفها الشعب اللبناني خلالها، يبرز منهم على سبيل المثال لا الحصر أمين معلوف بأكثر من عمل، وإسكندر نجار خصوصا بروايته "بيروت"، وربيع جابر بروايته "بيروت مدينة العالم"، وفاتن المر بروايتها "غبار 1918"، وربما أقربها إلى الواقع ما كتبه الكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد بكتابه "الخبز" الذي صدر لأول مرة في العام 1939 تحت عنوان "الرغيف" والذي ضمنه العديد من مشاهداته لتلك الفترة وأبرزها: "امرأة شعثاء مستلقية على ظهرها رأسها مائل، غزا القمل جسدها، تعلق بها رضيع ذو عيون كبيرة، ومن صدرها برز ثدي ملأته الخدوش يعصره الرضيع بأصابعه الصغيرة وبشفتيه المتلهفتين ليهجره باكيا يائسا من ظهور الحليب..."، ولعبت مسألة خجل العائلات من أحداث تلك الفترة دورها في ندرة أو توفر المعلومات، خصوصا ما يتعلق بتصرفات الضباط الأتراك مع مئات العائلات ولجوئها إلى تصرفات لا يتم اللجوء إليها حتى في حالات الكوارث، ومختصر القول إنه تم دفن هذه الذكريات لدفن تلك الفترة بكل سوادها.


وبينما كشفت الثقافة فصلا أسودا من تاريخ الدولة العثمانية واحتلالها للبنان، تتستر السياسة عن هذا الأمر، فقضية مقتل 200 ألف لبناني أو أكثر غائبة عن أي اعتراف رسمي، ويسود حولها جدل كبير، وحول المسؤول الحقيقي وراء هذه الإبادة، في حين استطاعت تركيا ومن خلال نفوذها المتعاظم في لبنان من محو هذه الواقعة بل استطاعت أيضا استبدالها بمجموعة من الأكاذيب والمعلومات المضللة عن الفوائد والمكاسب التي جناها لبنان من الاحتلال العثماني، ويشارك في هذا التضليل مجموعة من رجال الدين وكتاب وصحفيين، لكن تبقى الوقائع سيدة الأدلة على إجرام العثمانيين. 

ورغم التعتيم السياسي على مجازر العثمانيين في لبنان، إلا أن لبنان يحتفل كل عام بذكرى عيد الشهداء الذي يصادف السادس من شهر مايو / أيار، والذي أعدمت فيه الدولة العثمانية في العام 1916 مجموعة من اللبنانيين المسلمين والمسيحيين بقلب بيروت في ساحة كانت تسمى بساحة المدفع واستبدلت بتسمية ساحة الشهداء ولا تزال إلى الآن شاهدة على تلك الواقعة التي كانت شرارة التخلص من نير الحكم العثماني، وتعتبر هذه الساحة حاليا رمزا للثورة اللبنانية التي انطلقت بتاريخ السابع عشر من شهر أكتوبر من العام 2019، وأصبحت ملاذا لكل التحركات المطلبية الشعبية.


وربما تكون قضية شهداء السادس من أيار عادية أو حدثا تاريخيا عند البعض، لكنها بحد ذاتها كانت ثورة ضد الأتراك والتتريك امتدت شراراتها إلى المحيط العربي، فمن تم إعدامهم في ذلك الوقت كانوا ينتمون لجمعية بيروت الإصلاحية التي قاومت العثمانيين وتحركت بكل الاتجاهات المحلية والأجنبية للتخلص من الأتراك، وتشكلت يومها مناصفة بين المسيحيين والمسلمين وضمت اثنين من يهود لبنان أيضا، لكن أسماؤهم انكشفت فصدرت أحكاما بحق 40 شخصا تضمنت إعدامات ونفي، ومن شنقوا في ساحة الشهداء في بيروت كانوا 14 من وجهاء المدينة، وأشرف وقتها جمال باشا السفاح شخصيا على عملية الشنق.


جميعنا نتناول لبنان حديثا أو كتابة بإشارة إلى الجمال والانفتاح والتحرر والحرية، لكن قلة يعرفون هذه الفترة السوداء القاحلة من تاريخ هذا البلد بسبب الاحتلال التركي الغاشم، وربما من الإنصاف القول إن لبنان لم يشهد بتاريخه سوادا كهذا، حتى خلال الاحتلال الإسرائيلي لبعض أراضيه، ومحاولة الأتراك الأردوغانيين إعادة سيطرتهم على لبنان يجب أن تواجه بكل الوسائل المتاحة والإضاءة عليها بشكل تام إعلاميا وثقافيا وسياسيا، لأن لبنان لا ينقصه الآن العودة أكثر إلى الوراء فما حصل ويحصل فيه يكفيه ويكفي أبنائه.