الخميس 27 يونيو 2024

شبابيك.. عندما ذهبت مع الأبنودى إلى أبنود

فن2-11-2020 | 19:49

فى السابع من ديسمبر سنة 2007 سافرت إلى أبنود فى أقصى صعيد مصر مع عبد الرحمن الأبنودى. كان من المفترض أن يكون معنا أصدقاء منعتهم ظروفهم من السفر. وعن نفسى أنا فأى سفر للصعيد أرحب به جداً. لأننى رغم أصولى التى تعود لجرجا فى أسيوط. فقد ولدت فى بحرى وتربيت ونشأت وترعرعت بحرى. ويظل الصعيد بالنسبة لى كالجنة المفقودة.

أبدأ الرحلة من نهايتها. قلت لنفسى فى آخرها.

لو كنت مكان عبد الرحمن الأبنودى. لاخترت الإقامة الأبدية هناك. فى الصعيد. بالتحديد فى قرية أبنود القريبة من قنا. والاختيار لا تفرضه اعتبارات الحياة فى المدينة وما يفرقها عن القرية. ولا انطلاقاً مما أؤمن به من أن القرية خلقها الله والمدن بناها البشر. ولا الوقت الذى يفيض عن حاجة الناس هناك. ولا لبعدهم عن الجحيم اليومى الذى نعيش فيه الذى اسمه القاهرة.

ولكن بسبب هذه الجماهيرية الكاسحة التى يتمتع بها الأبنودى هناك. قد تقول لى أن هذه الجماهيرية متحققة فى كل مكان من مصر. مدنه وقراه. كفوره ونجوعه. بنادره وعواصمه. بل وخارج مصر أيضاً. سبق لجابر عصفور أن كتب عنها فى مقال له عن زيارة له مع الأبنودى إلى تونس. كان يكتب بالتحديد عن ظاهرة ثقافية اسمها الأبنودى.

لكن الأمر فى الصعيد يختلف تماماً. ليست جماهيرية العلاقات العامة. ثمة صلة إنسانية بينه وبين أى إنسان عادى. وهم هناك لا ينادونه بإسمه الأول عبد الرحمن ولا بنقبه الذى عرف به: الأبنودى. ولكنهم يعرفونه بكلمة واحدة هى: يا خال. بشر عاديين. سائقوا تكاسى. عمال فنادق. رجال شرطة. جنود وأمناء وضباط. رجال ونساء. كبار وصغار. شيوخ وأطفال. لا يكتفون بالسلام والتحية. ولا التصوير معه حتى لو كان وجهه فقط الذى يبدو من نافذة السيارة.

وبعد اختراع المحمول والتصوير به وتسجيل الصوت بواسطته. أصبح يتم فى كل لحظة. وكل دقيقة. من قبل كان يتعذر وجود الكاميرا مع من يريد التقاط صورة. لكن التليفون المحمول بكل يد. والمحمول "أبو كاميرا"مع الجميع. كنا فى طريقنا لجامعة جنوب الوادى. ليقيم الأبنودى أمسية شعرية ضمن برنامج العودة للجذور. ولكن قبل قنا بمسافة قصيرة. قرأت لافتة على الطريق مكتوب عليها:

      وزارة الثقافة..

      قطاع الفنون التشكيلية.

      الإدارة المركزية للمتاحف والمعارض.

      متحف السيرة الهلالية.

      ومكتبة أبنود.

      إعلانات جريدة منبر الصعيد.

00966573042

مدخل مميز متفرع من طريق الأقصر قنا. تولاه الأهالى ورصفه عادل لبيب عندما كان محافظاً لقنا. وأناره. وزرعه بالورد الجميل مجدى أيوب. وهو من جاء بعده. نسير فى الطريق. نخترق أبنود. بعد أن نعبر شريط السكة الحديد. أول ما يطالعنا من أبنود محلات بيع الحديد والأسمنت. إنهم الذين طاردوا البيت اللبن القديم الذى كان جزءاً من حياة البيئة الريفية المصرية. وجعلوا من القرية المصرية. غابة من الحديد والطوب الأحمر والأسمنت.

ومكتبة أبنود ومتحف السيرة الهلالية. متجاوران. قل المبنى واحد. مقام على مساحة 720 متراً. ربعها للمتحف وثلاثة أرباعها للمكتبة. مكتوب على المبنى: إهداء من صندوق التنمية الثقافية. وأهم ما فى هذا المشروع - من وجهة نظرى - هو تعيين 25 شاب من بينهم خمس فتيات من أهالى أبنود. من ينتمى لقرية مثلى. يدرك ضخامة حجم مشكلة البطالة التى تأكل أرواح الشباب. سيعرف معنى عمل 25 شاباً فى هذا المشروع.

لقد حماهم العمل من الغرق فى مصر قبل الرحيل وراء وهم العمل فى أوروبا. ثم يغرقون مرة أخرى فى مياه الأبيض المتوسط. طبعاً المتحف سيحمى السيرة الهلالية من النسيان. سيخلدها على مر الزمان. والمكتبة ستشغل وقت الشباب والشابات بكل ما هو مفيد. ستأخذهم من الفراغ القاتل. والأوهام الرهيبة إلى نشاط قد يكون مفيداً لكل واحد حسب استعداداته. الدور الأول من المكتبة عبارة عن قاعة لاطلاع الأطفال. وقاعة محاضرات. وفى الدور الثانى قاعة لاطلاع الشباب فيها ستة آلاف كتاب. ومركز للكمبيوتر.

أما المتحف وهو من دور واحد. ويفصله عن المكتبة صالة مفتوحة. فهو عبارة عن قاعة المتحف معلق على حوائطها الأربعة صور. الصورة بالأبيض والأسود هى لجابر أبو حسين. وحسن أبو حسين. وهما من رواة السيرة الشعبية ومن أبناء أخميم. أما الصورة الملونة فهى لسيد الضوى. ابن قوص وأحد رواد رواية السيرة الشعبية. ومن يتأمل الصور. يدرك أنها تحكى قصة 30 سنة قضاها الأبنودى فى جمع هذه السيرة الشعبية. والجديد فى هذا المتحف هو غرفة مكيفة ومجهزة بدولابين وسريرين. للباحثين والدارسين. الذين يمكن أن يحضروا من كل مكان من العالم. ومن الوطن العربى. ومن الأمة الإسلامية. ومن أنحاء مصر. من أجل عمل دراسات جديدة. عن السيرة وصعوبات جمعها وتدوينها.

إن هذا الذى يجرى هو عملية مقاومة للنسيان. من قبل كانت هذه الأصوات تموت مع موت أصحابها. محنة مصر التى علمت الدنيا الأبدية. أنه لا حراس لأحد ولا إبداع أحد بعد رحيله عن هذا العالم. عبد الرحمن الخطيب. شاب فى عمر الزهور. مدير المتحف قال لى يومها أن الأمور جاهزة فى المتحف للافتتاح الذى لم يتحدد موعده. بسبب ارتباطات وزير الثقافة - فى ذلك الوقت - الفنان فاروق حسنى. صاحب قرار بناء المتحف وتنفيذه.

ولأن الافتتاح لم يتم. فهناك العديد من الوثائق الخطية. والتسجيلات الصوتية. لم تصل بعد إلى المكان. يحتفظ بها عبد الرحمن الأبنودى. لتسلم وتصبح عهدة من سيكون مسئولاً عن المتحف. فهى ليست تاريخه الشخصى فقط. ولا تحكى جهوده فى جمع السيرة الهلالية. ولكنها عرق من شاركوه من الذين رحلوا عن هذا العالم. مثل جابر أبو حسين. والسيد الضوى. آخر رواد السيرة الهلالية فى هذا العالم.

عندما كنت أخرج من أبنود. وأطفال المدرسة الابتدائية يلتفون حول الأبنودى فى أحد الحقول لالتقاط صورة معه. كنت أسأل نفسى لماذا لا تمتلئ مصر بمثل هذه المتاحف؟ لماذا لا يكون هناك متحف لأدهم الشرقاوى فى قريته زبيدة مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة؟ لماذا لا يصبح متحف دنشواى متحفاً حقيقياً؟ لماذا لا يكون متحف عرابى بالشرقية ناطقاً هكذا بالصوت والصورة؟ لو حدث هذا لأصبحنا بلد الألف متحف. ربما تعدى الرقم الألف. المهم أن نبدأ.

تركنا أبنود واتجهنا إلى قنا. وفى جامعة جنوب الوادى. بالتحديد فى كلية الآداب. أقام الأبنودى أمسيته الشعرية. التى حضرها أكثر من ألف وخمسمائة طالب وطالبة. قدمه عميد الكلية الدكتور محمد أبو الفضل بدران. واستقبل بعاصفة من التصفيق. وقد لفت نظرى أن الطلبة والطالبات كانوا يطالبون الأبنودى بإلقاء بعض القصائد. مثل قصيدة الخواجة لمبو. وقصيدة حراجى القط. وكنا قد مررنا على قرية الحراجات التى خرج منها حراجى القط. ليسافر إلى السد العالى.

وقبل أن يلقى عبد الرحمن القصيدة إلقاءاً تمثيليلاً. أضاف لها الكثير. حكى عن تجربته الشخصية مع حراكى. الذى عرفه وجايله وصادقه. وكان قريباً من رحلته إلى السد العالى. طالبوا عبد الرحمن كذلك بقصيدته عن القدس. وتفاعلهم معها. واستماعهم إليها يؤكد أن بعد المكان لم يؤثر أبداً فى وصول القضايا القومية المصيرية بطزاجتها الكاملة. وحضورها المتوهج.

إضافة إلى ما دونته فى يومياتى عن الرحلة وقتها. أكتب الآن: لماذا لا يصبح متحف السيرة الذاتية فى أبنود متحفاً لعبد الرحمن الأبنودى للفنون الشعبية وفى مقدمتهم السيرة الهلالية؟ لماذا لا نفكر فى هذا؟ ربما لم يكن من حقى طرح هذا التصور. وقد يكون من حق زوجته السيدة نهال كمال وابنتيه آية ونور. ولكنه اقتراح أكتبه لعله يجد استجابة من مصر الآن.