تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية" للكاتب الصحفي محمد الباز، والذي جاء تحت عنوان "الشريك المخالف.. كيف أعاد السادات صياغتى؟، ونقرأ فيه:
"رأيت السادات أول مرة فى المحكمة، متهما بإغتيال أمين عثمان، كان ذلك فى يناير 1948، ثم رأيته وجها لوجه بعد عامين فى بيت يوسف رشاد المطل على النيل بالجيزة، كنت ضيفا على العشاء مع آخرين، وذهبت مبكرا بعض الشئ حتى أسمع من يوسف رشاد بعض ما يجرى، وعندما دخلت وجدته جالسا مع شخص عرفت ملامحه على الفور من متابعة وقائع محاكمة قتلة أمين عثمان، ومع ذلك فإن يوسف رشاد قدمه لى باسمه وتبادلنا حديثا عابرا، ثم استأذن هو وانصرف.
ثم قابلت السادات فى مقر الفرقة الأولى مشاة فى رفح، وقضيت يوما كاملا معه.
أصر على دعوتى للغداء، ويومها عرض على كتاباته لأرى ما إذا كان يمكن نشرها فى مجلة "آخر ساعة" التى كنت أرأس تحريرها فى ذلك الوقت.
كانت الكتابات التى قدمها إلى فى ذلك اليوم مجموعة من القصص القصيرة تملأ دفترا كبيرا مكتوبة كلها بخطه، ثم قدم لى رواية طويلة عنوانها " أمير الجزيرة" ظللت محتفظا بها ولم تنشر أبدا.
(2)
يوم وفاة عبد الناصر كنت وزيرا للإعلام، طلب منى أنور السادات أن أذيع البيان على الناس.
قلت: لا... لابد أن يشعر الناس بأن هناك تغييرا قد تم بالفعل بوفاة الزعيم، وبالتالى الأمر يقتضى أن تذيع أنت البيان بصوتك.
كلمت عبد الملك عودة أن يطلب من الإذاعة وقف البرامج العادية، ويذيعون القرآن الكريم، وأخذت الرئيس السادات فى سيارة نصر 128 ملك الأهرام كما هى عادتى، فحين كنت وزيرا لم استعمل سيارات الوزارة، وجلسنا فى المقعد خلف سائقى ساتى، فى الطريق إلى التليفزيون.
فجأة صاح الرئيس السادات: إيه السيارة الخردة اللى انت راكبها دى يا محمد، انت لازم تغير السيارة دى بقى.
لم أتكلم، فوجه الرئيس السادات حديثه إلى ساتى: انت يا أخينا... بكره يا أسطى تيجى تاخد منى السيارة اللى تعجبك، كاديلاك أو شيفروليه، اختار اللى تعجبك.
لم يرد ساتى فقد كنت أشاهد دموعه على خده وهو يسير بنا إلى الإذاعة، وكرر الرئيس مرة أخرى: يا أسطى سامعنى.
انفجر فيه ساتى باكيا: يا أستاذ الرجل كبير البلد مات... إحنا فى إيه ولا فى إيه.
بعد أن نزل الرئيس السادات وفى طريق عودتنا إلى الأهرام، قلت لساتى: إنت عملت كده ليه، الراجل بيضحك معاك، أنت عارف الراجل ده مين؟
قال لى: واحد بيهزر... هو ده وقت هزار.
قلت: ده رئيس مصر الآن... ده الرئيس محمد أنور السادات.
(3)
قبل أن يستقر السادات رئيسا لمصر، قررت أن أتخلص من عبء العمل السياسى، قررت أن أخلص للصحافة وحدها من جديد، قررت أن أستقيل، وكتبت له.
سيادة رئيس الجمهورية بالنيابة
الأخ والصديق أنور السادات
الآن وقد استقر جثمانه الطاهر فى ثرى مصر الخالدة، فإنى أتقدم إليك راجيا أن تأذن بإعفائى من العمل فى وزارة الإرشاد القومى.
إن وصولى إلى القرار الذى يدفعنى إلى التقدم بهذا الرجاء إليك، لم يصدر عن إحساس بلوعة عاطفية، مع أنه لدى منها أكثر مما يتصور أحد، ولكنه يصدر أيضا عن اعتبارات عديدة إنسانية وفكرية وعملية أجملها فيما يلى:
أولا: إن الكل يعلم أننى حاولت طوال عمرى أن أبتعد عن المناصب الرسمية تمسكا بمهنة اعتقدت وما زلت أعتقد أن حياتى فيها.
ثانيا: إننى خرجت عن هذه القاعدة نزولا على أمر كريم منه، عندما شاء أن يكلفنى بالتعبيير الرسمى عنه، فى فترة النضال بالغة الحساسية، وكان هذا من جانبه اختيارا شخصيا، ومن بعده، فإننى لا أملك هذا الحق بالنسبة لغيره، كما أننى لا أستطيع أن أبقى على رأس وزارة الإرشاد القومى تعبيرا عن نفسى، فمكان ذلك الصحيح هو الأهرام وحده، وليس أى مكان آخر غيره.
ثالثا: إن جزءا كبيرا من مهمة إعادة تنظيم وزارة الإرشاد القومى قد تم بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون العربى، وبالدراسات المعدة للبث فى شأن الهيئة العامة للاستعلامات وغيرها من مؤسسات الوزارة، ومع أن عملية إعادة التنظيم لم تظهر آثارها بعد أمام الناس، فإنى أتوقع – مع بداية سنة 1971 بمشيئة الله – أن تكون هذه الآثار أمام الجميع مرئية ومسموعة.
رابعا: إننى لم أعد أستطيع بكل ما أحس به الآن التوفيق بين وزارة الإرشاد وبين الأهرام، وكنت قد استطعت ذلك بجهد جهيد لبضعة شهور، لكننى الآن أجد أن ذلك سوف يكون مستحيلا بالنسبة لى، وإذا كان لى أن أختار – والخيرة لله – فإننى أؤثر أن أبقى فى المكان الذى أسهمت مع آلاف من أبنائه فى تحويله إلى إطلالة مصرية على العصر الحديث، وكان ذلك، ولكى أكون منصفا للتاريخ، بتشجيع معنوى كبير منه، وبإلهام مضئ.
خامسا: إننى أعتقد إلى جانب ذلك، أن على مسئولية أتحملها أمام الأجيال، فلقد اقتربت من فكره وعمله ولابد أن أعيد ترتيب أوراقى وذكرياتى عنه، لأننا نحن الذين عرفناه عن قرب وشرفنا بالوقوف، حيث تمكنا من رؤيته وهو يحلم ويناضل ويحقق – لا نملك وحدنا قصة حياته، فهذه القصة ملك لشعبنا ولأمتنا العربية وللإنسانية.
ولعلك تذكر مرة أيها الصديق الكريم، وكنا معا أخيرا فى فندق هيلتون – أثناء أزمة الأردن التى كانت آخر معاركه المنتصرة – أننا تحدثنا عن التاريخ وكيف سيروى حكاية هذا العصر، وتذكر أنه أمامك، وأمام السيدين حسين الشافعى وعلى صبرى، أشار إلى وقال" إنه هو المسئول عن ذلك، لقد كان يعرف كل شئ، وهو يتحدث دائما عن الإحساس بالتاريخ والكتابة صناعته".
ومن جانبى أيها الأخ الكريم، فإننى أعتبر تلك وصية يسألنى عنها ضميرى، وسوف يسألنى عنها الضمير العام لأمتى.
وليس معنى ذلك أننى أفكر فى النشر العاجل، فأنا أول من يقدر أن هناك أشياء لم يحن بعد أوانها، ولكنى بأمانة المسئولية أمام ذكراه الغالية لا أستطيع أن أترك شيئا للضياع أو النسيان.
إننى أرجوك ملحا ومن كل قلبى ألا تعتبر هذا تخليا منى فى وقت عصيب.
إنك تعلم أن ذلك لا يمكن أن يخطر لى ببال، فأنت الرجل الذى اختاره هو بنفسه له فى وقت علم فيه أنه معرض لمخاطر مؤامرات خطط لها الذين تصدى طوال عمره لمطامعهم وسيطرتهم على مقدرات أمته.
وذلك الاختيار يكفى، ليس بالنسبة لى وحدى ، وإنما بالنسبة لكل الذين تراودهم اليوم أعظم الآمال بأن يستمر الخط الذى رسمه لأمتنا سواء لمرحلة النصر أو لما بعد النصر بإذن الله.
إننى أناشدك أن تغفر لى ما أستأذنك فيه الآن إذا كان رأيك فيه مخالفا لرأيى، وأتمنى على الله وعليك أن يكون غفرانك من فهمك لموقفى وظروفى ومشاعرى.
وأريدك أن تعرف فى النهاية أن قلبى معك، وأن عقلى معك بكل ما أستطيع دفاعا عن مبادئه، وعن سياسات أجراها نابعة من تلك المبادئ، ولك الدعاء خالصا وصادقا أن يعينك الله على ما تحملت أمانته، ولك التحية والمحبة.
جاءنى رده سريعا ومكثفا.
عزيزى الأستاذ محمد حسنين هيكل وزير الإرشاد القومى.
تحية الإسلام مباركة طيبة وبعد..
تلقيت كتابك وقرأته بكل عناية وتقدير، فليس أحب إلى فى هذه الحياة من معنى مثل معنى الوفاء فى كل صوره وألوانه، من أجل ذلك فإنه لا يسعنى إلا أن أجيبك إلى طلبك أيها الصديق، واثقا أن جهدك وقلمك سوف يظلان كما عودت زعيمنا الراحل أن يكون فى مكانهما، من معركتنا المقدسة، شاكرا لك ما بذلته من جهد خلال توليك الوزارة، داعيا لك المولى عزوجل أن يوفقك فى مكانك الذى اخترته بإرادتك، وأن يمنحك الصحة وموفور السعادة، والله أسأل أن يسددنا جميعا بتوفيقه.
والسلام عليكم ورحمة الله.
أنور السادات.
عندما تقابلنا فى المساء " من السابعة إلى الثالثة بعد منتصف الليل"، فتح لى أنور السادات قلبه بعير تحفظات صريحا مع نفسه ومع الحقيقة ومع الظروف والملابسات، وخرجت من قصر العروبة أستقبل نسمات فجر 3 أكتوبر 1970 شبه مقتنع بأنه ليس وقت الإنصراف من الساحة، مستأذنا أو بغير استئذان، فقد وافق الرئيس المرشح أور السادات على ما طلبت بشان الوزارة وكان يعرف قبل غيره أنها تكليف مؤقت لمهمة معينة ولأجل محدد – سنة لا تزيد – فى ظرف رآه جمال عبد الناصر مهيأ لإختراق سياسى يتوازى مع الذروة فى حرب الاستنزاف.
وافق أنور السادات على نص استقالتى، لكنه اشترط بقائى فى مجلس وزراءه إلى ما بعد الاستفتاء على رئاسته حتى لا يقول الناس " إن أقرب أصدقاء جمال عبد الناصر لم يطق الصبر يوما عليه"، وكان الرجل فى ذلك سمحا محبا ومقبلا.
(4)
ما حدث فى 13 و14 مايو من العام 1971 لم يكن انقلابا.
كان صراعا على السلطة بين فريقين، وأنا لا أتنصل من موقفى، بالعكس أنا راض عنه، حقيقة أنا لا أريد أن أسيئ إلى أحد وتربطنى صداقات وزمالات بحكم العمل ببعضهم، ولكن من نسميهم بعناصر 13 مايو، جميعهم وبدون استثناء وتقريبا من الضباط السابقين، وليس لى موقف ضدهم، فدورهم الوطنى عظيم فى مجال تخصصهم، ولكن لا أتصور أنهم فجأة وفى خلال عشر سنوات وبدون أن يسبق لأحدهم ممارسة العمل السياسى فجأة ينتقلون إلى العمل برئاسة الجمهورية والحزب " الاتحاد الاشتراكى العربى".
لم يكن هؤلاء جميعا فى معسكر واحد، بل كانوا 3 مجموعات مختلفة، وقد قبلوا بالسادات رئيسا للجمهورية، متصورين أنهم جاءوا بالأضعف وكل مجموعة تأمل فى استغلاله لمصلحتها.
أنا لم أكن أبدا جزءا من مجموعة أو تنظيم أو حزب، للأسف الشديد وكنت لا زلت فردا وحيدا، وقد قلت لبعضهم عندما اتفقوا جميعا على اختيار السادات، أنتم ترتكبون خطأ له سابقة فى تاريخ مصر، فبعد وفاة سعد باشا أختير مصطفى النحاس بدلا من فتح الله بركات، متصورين أن النحاس هو الأضعف، ولكن النحاس عصف بهم جميعا.
الكل كان يناور على رقعة الشطرنج.
كل يريد أن يأكل الملك.
الفارق بينهم وبين السادات، أنه كان رجلا مسيسا يمكن أن تتفاهم معه، وقبل أن يضع فى برنامجه قضية الديمقراطية، بينما الآخرون ضباط سابقين يمكن أن يتورطوا فى إجراءات تحسب على الناصرية، ولا علاقة لها بالناصرية.
توافرت أمامى دلائل على أن هذه المجموعات التى دخلت مع السادات فى صراع سلطة خطرت لها فكرة ونية استخدام القوات المسلحة فى هذا الصدام وهذا شئ خطير.
اعتبرت نفسى مسئولا عن المشاركة مع السادات فى مواجهة مراكز القوى، ولكنى لم أكن مسئولا عما حدث بعد ذلك فى محاكمتهم.
كان رأيى أن خروجهم من السلطة كاف بعد ذلك، وأما المحاكمة وتوجيه تهمة الخيانة العظمى إليهم، فلم أكن متحمسا له، بل إننى رفضت دعوة للشهادة وجهها إلى المدعى الإشتراكى الذى أشرف على التحقيق وقتها، وهو الأستاذ مصطفى أبوزيد فهمى، وأبلغت رأيى للرئيس السادات الذى اتصل بالمدعى الاشتراكى وطلب إليه صرف النظر عن استدعائى للشهادة.
(5)
ظهر يوم 10 نوفمبر 1972 اتصل بى الرئيس السادات هائجا.
قال لى " إنه لم يعد يطيق صبرا على شنودة"، فهو فى رأيه يتصرف وكأن الدولة غير موجودة، أوكأنه يريد أن يصبح دولة فوق الدولة، وهو بذلك سوف يقود البلد إلى فتنة طائفية، وقد قرر هو أن يتحمل مسئوليته وأن يضع شنودة فى حجمه الطبيعى، ولذلك فسوف يذهب أول الأسبوع القادم إلى مجلس الشعب ويفجر الموضوع الطائفى، ويطلب إلى المجلس أن يتحمل مسئوليته وأن يتخذ من الإجراءات ما يكفل وضع الأمور فى نصابها، والبلد مقبل على معركة، ثم طلب الرئيس السادات منى أن أكتب له الخطاب الذى يعرض به الموضوع على مجلس الشعب وأن أضمنه ما اقترح أن يتخذه المجلس من إجراءات أشار إلى بعضها.
رجوته أن يتمهل فذلك موضوع لا يعالج بالحدة، ثم إنه لا يعالج بالإجراءات.
احتد الرئيس قائلا إنه لا يستطيع أن يجلس على كرسيه وتحته لغم موقوت كما كان يفعل جمال.
واستطرد: جمال كان له بال طويل فى الصبر، أما أنا فلا أستطيع، ولابد لمجلس الشعب أن يجد حلا حاسما للموضوع، وهو على أى حال ذاهب ذاهب إلى المجلس سواء كان فى يده خطاب مكتوب، أو لم يكن عنده إلا ما يخطر على باله لحظة يبدأ حديثه أمام المجلس، مضيف: إننى سوف أفجر المشكلة برمتها، وليكن ما يكون.
رجوته أن يأذن لى بالمرور عليه فى بيته فى الجيزة.
وعندما دخلت عليه أحسست منذ اللحظة الأولى أنه معبأ على الآخر بحتمية التفجير، سواء كان محرك التعبئة أمنيا، أو كان محركها من أصدقائه المقربين.
لساعتين حاولت أن أطرح عليه وجهة نظرأخرى ملخصها" مسئولية رئاسة الدولة مباشرة" عن جوار دينين على أرض وطن، وبمثل تعلق شعب بمجرى نهر واحد.
وأخير وبعد عناء توصلنا إلى حل وسط، بدل أن يتكلم هو فى مجلس الشعب يبعث إلى المجلس بخطاب عن الموضوع، وبدل أن يقوم هو بعملية تفجير أمام المجلس يطلب من هذا المجلس أن يقوم بتقصى الحقيقة فيه والعودة إليه بتقرير عنه، وكتبت له ونحن بعد جلوس فى بيته مشروع الخطاب الذى يبعث به إلى المجلس ووافق عليه.
صباح اليوم التالى دعوت إلى مكتبى الدكتور جمال العطيفى وهو المستشار القانونى للأهرام، وفى نفس الوقت وكيل مجلس الشعب، وحكيت له ما انتهى إليه لقائى فى اليوم السابق مع الرئيس السادات، وأحطته علما بأن المجلس سوف يتلقى اليوم أو غدا خطابا من رئيس الجمهورية، يطلب تشكيل لجنة تحقيق برلمانية لتقصى الحقائق وتقديم تقرير عنها.
كان تعليق جمال العطيفى على الفور أنه لا يستطيع أن يرى ماذا يستطيع المجلس أن يفعل فى هذا الموضوع وفى هذه الظروف؟
قلت له: ذلك رأيى أنا أيضا... لكن ما يمكن توقعه من المجلس هو فسحة وقت أسبوع أو أسبوعين على أكثر تقدير تخدم هدفين.
من ناحية تنفيس البخار المكبوت فى البلد نتيجة لحوادث لم يتداركها فى الوقت المناسب أحد، وإنما تركت لتتراكم ولتتحول إلى قنبلة موقوتة على حد تعبير الرئيس السادات.
ومن ناحية ثانية إتاحة فرصة لمناقشة مسئولة فى إطار دستورى واضح، قد يستفيد منها الرئيس ويشعر معها أن هناك من يشاركه المسئولية فى مواجهتها، وذلك فى نفس الوقت يساعده على أن يستجمع أفكاره ويعيد تركيزها، ويتصرف بسلطته وهى وحدها القاردة على المواجهة السليمة لهذا الموضوع، سواء بالاستباق المستنير لوقائعها أو بالتدارك اليقظ لتداعياتها.
لم أكن أحتاج إلى شروحات تطول مع جمال العطيفى، لأن علاقة صداقة وعمل فى الأهرام نشأت واستمرت سنوات قبلها وجعلتنا معا فى مواجهة هذا النوع من القضايا العملية المباشرة على موجة واحدة.
سألنى العطيفى دون تردد لا تسمح به ظروف هذا النوع من المشاكل ما إذا كنت أرى أن يكون هو المسئول عن هذه اللجنة البرلمانية باعتباره وكيل مجلس الشعب.
كان ذلك فى ظنى ترتيبا مثاليا لو أمكن تدبيره، وطلب جمال العطيفى أن أساعد فى الترتيب باتصال مع السيد حافظ بدوى رئيس مجلس الشعب بعد أن يكون هو قد تولى شرح التفاصيل له فور أن يتلقى مكتبه رسالة الرئيس السادات وكذلك كان.
صباح يوم 14 نوفمبر 1972 صدر الأهرام وعلى صدر صفحته الأولى خبر كتبته بنفسى ونصه كما يلى: علم مندوب الأهرام أن الرئيس أنور السادات قد طلب إلى مجلس الشعب تشكيل لجنة برلمانية خاصة للتحقيق فى بعض المحاولات التى جرت أخيرا لافتعال فتنة طائفية، لا يمكن أن يستفيد منها الوطن أو المواطنون فى أى وقت فضلا عن هذا الوقت بالذات.
جاءنى الدكتور جمال العطيفى بعد أسبوع يقول إن اللجنة عقدت عدة اجتماعات للاستماع ولتقصى الحقائق وهو يرى أن الاستماع والتقصى لا يمكن أن يزيد من أيام قليلة، وإلا فإن المسائل قد تفك، وذلك لا يجب السماح به.
كان جمال العظيفى حائرا فى كيفية كتابة تقرير اللجنة ردا على إحالة الرئيس، ولم يكن هناك حل إلا إعادة الأمر إلى رئاسة الدولة، باعتبار أن الدستور أناط بالرئيس أن يسهر على حماية الوحدة الوطنية، وكانت تلك بالفعل هى العبارة المفتاح فى تقرير اللجنة.
لم أفاجأ حين اتصل بى الرئيس السادات تليفونيا صباح العشرين من نوفمبر يقول لى ضاحكا هذه المرة وليس مستفزا: إن المجلس أعاد لى الكرة مرة أخرى.
وكان ردى أن تلك طبائع الأمور، فليس فى هذه الساحة ولا ينبغى أن يكون هناك لاعب آخر، بمعنى أن الكل يستطيع أن يتفهم وأن يقترح وأن يساعد وأن يفيد، لكن جوار الدينين على أرض الوطن الواحد – هى ومياه النيل – مسئولية رئاسة الدولة قبل كل الأطراف.
استأذنت الرئيس السادات مرة أخرى أن أمر عليه فى بيته.
جلسنا ساعات طويلة نناقش ماذا بعد؟ وماذا يصنع بتقرير اللجنة؟
توصلنا إلى أهمية أن تكون خطوته الأولى بزيارتين، أولاهما للجامع الأزهر يلتقى مع شيخه ومع هيئة كبار العلماء، والثانى لدار البطريركية يلتقى مع بابا الكرازة المرقسية ومع المجمع المقدس بأكمله، وفى الاجتماعين يستطيع أن يوجه ويدعو إلى تلطيف الأجواء وتخفيف درجة الإحتقان، من باب الحقيقة الوطنية والتاريخية، وليس من باب الكلام الشائع والساذج عن التسامح وعن السماحة إلى آخره.
فى نفس الجلسة وافق الرئيس السادات بعد تردد على إعادة العمل بالترتيب القديم بين جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس، وبحيث يكون فى سلطة البابا ودون عراقيل بسبب الخط الهمايونى أن يصرح ببناء خمس وعشرين كنيسة كل عام.
بعد أسبوعين فى شهر ديسمبر قام الرئيس السادات بالفعل بالزيارتين، وقد طلب إلى أن أكون فى انتظاره ليقص على النتائج.
دخل السادات من باب بيته إلى البهو وإلى الصالون الكبير وكنت فى انتظاره أجلس مع قرينته السيدة جيهان، وكانت هى الأخرى قلقة تريد أن تعرف كيف سارت الأمور.
كان الرئيس السادات فى أحسن أحواله وهو يحكى بطريقته المسرحية أحيانا، ويقول: فى هيئة كبار العلماء مشى كل شئ كما هو منتظر، فى البطريركية أثبت شنودة أنه ناصح أكثر مما قدرت.
وأضاف الرئيس السادات: حاولت استفزازه متعمدا، نظرت إلى ساعتى أثناء اجتماعنا وأعضاء المجمع المقدس كله حولنا وقلت موجها كلامى له: لقد حان موعد صلاة الظهر وأريد سجادة صلاة.
وهرع شنودة بنفسه إلى غرفة مجاورة وجاء لى بسجادة صغيرة فرشها بنفسه وسط مكتبه وخرج الكل من القاعة، ولكن شنودة لم يخرج وإنما وقف بعيدا وقد شبك يديه أمام صدره فى خشوع وانتظرنى حتى أتم صلاتى، ورأيته بركن عينى وحاولت تقدير رد فعله.
كانت السيدة جيهان هى التى سبقت بأول ملاحظة فى التعقيب على ما قال زوجها، وسألته بحيرة: غريبة يا أنور... وليه تستفزه؟
وقال لها أنور السادات بطريقته: يا جيهان لن تفهمى فى السياسة طول عمرك... أردت استفزازه لكى تظهر خفايا مشاعره.
ثم أضاف: لكنه ناصح وغويط.
وسألته إذا كان قد أبلغه بالعودة إلى اتفاق الرئيس عبد الناصر والبابا كيرلس ولم ينتظر الرئيس السادات حتى أكمل سؤالى، وقال: وافقت له على ضعف عدد الكنائس التى اتفق عليها جمال مع كيرلس.
وعندما لاحظ دهشتى استطرد يقول: شنودة ظل طول الوقت يقول لى أنت رئيسنا وأنت زعيمنا وأنت رب العائلة.
(6)
فى 4 نوفمبر 1972 زرت الرئيس السادات فى منزله بالجيرة.
دخلت عليه وفى يدى النسخة الإنجليزية من كتاب " عبد الناصر والعالم" وقلت له: لم أجد هدية أحضرها لك من لندن سوى هذه.
تناول النسخة من يدى ووضعها على مكتبه دون أن ينظر إليها وقال: متشكر.
ثم قال فجأة: إنت بتتهمنى إنة معنديش عقل يا محمد؟
قلت له: لست أفهم سبب فتح هذا الموضوع مباشرة هكذا... أنا لم أقل هذا على أى حال.
قال أنور السادات: إنت بتعرض بى يا محمد؟
قلت: أود أن أحدد لك بدقة موقفى، أنا أختلف معك سياسيا ولكننى لا أعرض بك.
قال: أنا لا أسمح لك... أنا المسئول... وأنا الذى انتخبنى الشعب.
قلت له: وأنا صحفى مسئول وحر.
قال: الأهرام ده بتاع مين؟
رددت عليه: الأهرام ده أنا اللى عملته، وهو مملوك للإتحاد الإشتراكى حسب وثائقه الأساسية، وعلى أى حال دعنى أرفع عنك الحرج أنا مستعد فى أى لحظة أن أمشى.
قال السادات: ده قرار تاخده بمحض إرادتك.
قلت: إذن اتفقنا.
قال السادات: كيف تكلمنى بهذه الطريقة؟
قلت له: أود أن اقول لك شيئا لأكون واضحا، أنا أضع حدودا واضحة بين رئيس الدولة وبين رئيس التحرير، ولكن هناك جانبا فى العلاقة هو ذلك القدر الموجود من الصداقة بيننا، إلا إذا كنت قد ألغيته خلال الأسبوع الذى كنت فيه فى لندن.
قال: الصدافة أعتز بها، وأنت تعلم منى هذا، ولكن كيف تشتمنى؟
قلت: أنا لم أشتمك، وعلى أى حال دعنى أعفيك من الحرج أنا مستعد فى أى لحظة أمشى.
قال: هذا قرارك تأخذه بمحض إرادتك.
قلت للمرة الثانية: إذن اتفقنا وانتهى الأمر.
تحدثنا لما يقرب من ساعة عن تفاصيل زيارة لندن، ثم وجدته يقول لى: حين تقول إن السياسة الآن تعمل بغير عقل أليس معناه أننى بلا عقل؟ ثم إنك تتهمنى أننى لا أعمل لحل أزمة الشرق الأوسط؟
أجبته: هذا غير صحيح، لقد كنت أنتقد أشياء كثيرة أيام جمال عبد الناصر ولكنه لم يعتبر ذلك موجها له شخصيا، أنت تعلم حين اكتشف عبد الناصر تزوير انتخابات مجلس الأمة فقد ثار بشدة، وظل شهرا كاملا لا يتحدث ولا يتصل بسامى وشعراوى وكان سيتخذ ضدهم إجراءات حاسمة ثم أجلها لأنه كان من ضرورات المرحلة أن يدفع بعناصر التغيير ويزيد منها دون أن يهز الواقع الذى كان مهتزا بشدة بعد الهزيمة، ثم إنك تعرف علاقتى بسامى وشعراوى، وكيف عانيت منهم وما وصلوا إليه من تدبير لى عند الرئيس، فليس كل ما ينتقد فى عهد عبد الناصر كان يأخذه على أنه كلام عليه، بل إنه كان ضد كثير جدا مما يحدث وكان يحاول تغييره.
وأضفت: مع عبد الناصر كانت علاقتنا واضحة، وكنت أقول له رأيى وكنت أعرف رأيه، وكان عبد الناصر يناقشنى ويقنعنى فكانت نقاط الاختلاف فى الرأى بيننا واضحة لى وكانت دوافعها معروفة له ومفهومة.
رد الرئيس: إن اختلافاتك فى الرأى أدت إلى غضب السعودية، لقد غضبوا جدا من مقالك حول استراتيجية عربية فى البحر الأحمر، وقالوا لى فى مذكرتهم إننا إذا أجبنا عليهم بأن هيكل لا يمثل الرأى الرسمى فهم لن يقبلوا هذا الرأى.
قلت له: لقد أرحتهم بقرارى أن أترك الأهرام، تأكد أن العيد سيحل على الملك فيصل عيدين وسيجد أن مصر قد ذبحت له خروفا فى العيد.
قال: إنت يعنى بتتكلم وكأنك لا يهمك شئ... لماذا تدفعنى...؟
لم أجعله يكمل كلمته.
قلت له: لأننى لا أريد شيئا، ولأننى أستطيع أن أعيش فيما أظن ، ولأننى أعرف كيف أقرأ وأعرف كيف أكتب، الفريق صادق كان رجلا فى دبابة فلما أقلته لم يعد يعمل، والمسئول فى الاتحاد الاشتراكى لو أقلته أيضا فسيجلس بدون عمل، أما أنا فأعرف أن أقرأ وأعرف أن أكتب ويوم أخرج سأستمر صحفيا، وسأنشر رأيى فى السعودية بمنتهى الصراحة فى صحيفتهم النهار اللبنانية.
سألنى: وعملك فى الأهرام ألست مهتما به؟
قلت له: لن تستطيع أن تقدر أبدا إلى أى مدى هو عزيز على وعزيزة على تلك الروابط الإنسانية التى تربطنى بمن يعملون معى، ولكن الأهرام منذ فترة يكاد أن يختنق لا رأى جديد، ولا فكرة جديدة، ولا شئ يساوى لأننا لا نستطيع أن ننشر.
(7)
فى العام 1973 وقبل شهور من الحرب حاولت السلطة أن تضع مقالات لى تحت الرقابة.
كانت تلك القصة بداية الخلافات بين الرئيس السادات وبينى، ومناسبتها مقال نشرته بعنوان " كيسنجر وأنا... مجموعة أوراق" وكان فى تقدير الرئيس السادات أن المقال يعطل خططا سياسية، طلب منى المشاركة فيها واعتذرت، وضايقه اعتذارى، وضايقه أكثر أننى كتبت فى الموضوع دون إشارة إليه كأنه كان داعى خلاف بيننا.
فوجئت بنائب رئيس الوزراء للإعلام الدكتور محمد عبد القادر حاتم يتصل بى ويبلغنى بالنيابة- على خلاف المعهود فى علاقتى مع الرئيس – أن مقالاتى من الآن فصاعدا لابد أن تخضع للرقابة.
كتبت إليه خطابا رسميا على ورق الأهرام أبلغه أن هذا القرار بوضع ما أكتب تحت الرقابة مخالف لعهد متفق عليه منذ أيام الرئيس جمال عبد الناصر – وحتى من قبله – وقد استمر سنتين حتى الآن من رئاسة أنور السادات، وبمقتضى هذا العهد المتفق عليه، فإن مقالاتى لا تخضع للرقابة"، فأنا لا أستطيع أن أكتب شاعرا أن مسئولا فى الدولة مهما كان قدره يمكن أن يمد قلما أحمرإلى ما أكتبه ويحذف منه على هواه، وإذا كان غيرى لم يتمسك بهذا الحق الجوهرى للصحفى فذلك شأنه.
أبلغت الدكتور حاتم فى نفس الخطاب أننى سوف أمتنع عن الكتابة إلى حين إعادة النظر فى القرار، ولم أشأ أن أراجع الرئيس السادات، وكان ذلك ممكنا فى أى لحظة، لكنه خطر على بالى أن المراجعة فى هذه الحالة يمكن تصويرها على أنها رجاء، وذلك غير لائق، وكنت حتى هذه اللحظة أعتبره نوعا من المساومة على حرية كاتب.
فى نفس الوقت لم أكن أريد أن اصطدم علنا مع الرئيس السادات، وأنا أعرف أن هناك معركة مسلحة قادمة على الطريق ذلك العام، وأن من يستطيع أداء دور فى الخدمة العامة فى ظروفها، عليه أن يكون متواجدا حيث يكون نافعا، فقد فكرت فى طريقة أستطيع أن أغطى بها انقطاعى عن الكتابة.
نظمت على عجل رحلة إلى آسيا، اصطحبت معى فيها عددا من الزملاء فى الأهرام وقتها، بينهم الأساتذة جميل مطر ومحمد سيد أحمد وسميح صادق وحمدى فؤاد، وجاء معنا مسئول إدارى عن الرحلة هو الأستاذ عبد الله عبد البارى ، وكان معنا بالطبع رفيق السنوات المبكرة من العمل الصحفى الأستاذ محمد يوسف الذى كان رئيسا لقسم التصوير بالأهرام.
قضينا معا شهرا كاملا فى آسيا، قابلنا فيه كل قادتها السياسيين والعسكريين، وعندما عدنا من ذلك الموعد مع الشمس، بدأت أكتب فى الأهرام سلسلة أحاديث فى آسيا، وبأمانة الشهادة فإن الرئيس أنور السادات فهم مغزى الرسالة من الانقطاع عن الكتابة، ومغادرة مصر لشهر كامل، وكذلك فقد كان أول من اتصل بى بعد العودة.
التقينا لمدة ست ساعات فى بيته فى الجيزة لتصفية العوالق فى خلافنا، خصوصا وأنه أثناء غيابى حدثت واقعة بيان الأدباء الشهير ومن نتائجها أن الرئيس السادات أمر بنقل عشرات الصحفيين إلى وظائف إدارية فى مؤسسات إقتصادية تابعة للدولة، وفيهم من محررى الأهرام الأساتذة أحمد بهاء الدين ويوسف إدريس ولويس عوض ومكرم محمد أحمد، وبدت هذه أزمة أضيفت إلى الأزمة القديمة.
كان الرئيس السادات يريد تعليق صفحة ما جرى قبل شهر على حساب ما جرى فى غيابى – أى مقايضة أزمة بأزمة - وكذلك فإن الحديث الذى بدأ رقيقا لم يلبث أن علت فيه الأصوات، مما لفت نظر قرينة الرئيس السيدة جيهان السادات، فجاءت بنفسها إلينا تمارس دبلوماسيتها التوفيقية الرقيقة، والواقع أن حرصها كان شديدا على أن تعود العلاقات بين قرينها وبينى إلى ما كانت عليه – صداقة وتعاونا – وعلى أى حال فقد عدت للكتابة دون رقابة.
توصلنا إلى نصف حل فى موضوع الزملاء الذين نقلوا من المؤسسات الصحفية، ثم إلى حل كامل بعد أسابيع وخفت حدة الأزمة أو لعلها تأخرت من بداية عام 1973 إلى نهايته، حيث تجدد الخلاف بيننا مرة أخرى دون إمكانية لحل وسط بسبب هنرى كيسنجر وقبول الرئيس السادات بسياسة فك الارتباط خطوة خطوة – جبهة جبهة، ومن جانبى فقد رأيتها مقدمة لصلح مصرى – إسرائيلى منفرد يؤدى إلى انفراط فى العالم العربى يصعب التنبؤ بتداعياته وعواقبه، وذلك جرى لسوء الحظ.
(8)
لم تكن لدى أى أسباب للحقد على السادات، لقد لعبت دورا فى توليه السلطة بعد وفاة عبد الناصر، وأنا أعرف أسباب قصوره وتصورت أنه سوف يتطور مع المسئولية لأن مشكلته هى عدم إحساسه بالأمان الداخلى، وتصورت أنه حصل عليه بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية.
كان اختياره هو الأمر الطبيعى بعد وفاة عبد الناصر، وهذا ما استقر عليه رأى كل الذين كانوا مسسئولين آنذاك، وقد ظللت بجواره وساعدت فى الإعداد السياسى والإعلامى لحرب أكتوبر وأنا الذى كتبت قرار الحرب، وكنت موجودا معه طوال أيام الحرب سواء فى بيته أو فى غرفة العمليات.
وقد اخترت أن أترك العمل معه، وتركته واخترت موقعى وموقفى، لأننى ببساطة لم أكن أستطيع أن أتواطأ ضد أعظم انتصار حققه الجيش المصرى فى عصره الحديث، ولكننى لم أكف عن أن أكون صحفيا حين تركت الأهرام وخرجت إلى الدنيا الواسعة وكتبت إلى العالم كله.
المفارقة أنهم كانوا يعيروننى بأن كتبى تعطينى إيرادا عاليا، وأنا أقول أن الغنى غنى النفس، وقد ظللت أعيش فى وطنى وتمسكت بأنه لا بيت ولا عمل ولا قبر خارج مصر وظللت أعيش من دخل ما أكتب، وبذلك حققت لنفسى قدرا من الاستقلال ككاتب لا أرضى أن أتنازل عنه تحت أى ظرف من الظروف، وبالتالى فلم تكن لى دوافع للحقد.
السادات لم يخرجنى من الأهرام، نقلنى مستشارا لرئيس الجمهورية واعتذرت، ثم عرض على أن أكون نائبا لرئيس الوزراء، ثم مستشارا للأمن القومى واعتذرت، وعرض على أن أعود إلى الصحافة شرط أن ألتزم واعتذرت.
قبل اعتقالات سبتمبر قال السادات عنى أننى عشت كفاية، بل وصل الأمر إلى القول بأننى ملحد، وزعم أننى أعترفت له بذلك وأنا أسير سجنه، لا أملك فرصة الرد على تكفيره لى.
علاقتى بالسادات كانت تختلف عن علاقتى بعبد الناصر.
لقد كنت طرفا فى حوار مع عبد الناصر، ولكن السادات الذى بدأ مرحبا بالحوار، قد انتهى بأنه لم يعد طرفا فى حوار مع أحد، لا معى ولا مع غيرى، وربما كان يشعر بالفارق بين علاقتى به وعلاقتى بعبد الناصر، وربما كان إحساسه بأننى لعبت دورا فى توليه السلطة لم يكن يعطيه سعادة، فالإنسان عادة لا يسعد بأن يكون مدينا لأحد، والواقع أنه أخطأ فهم كثير من الأشياء.
أذكر أننى اختلفت معه أول مرة حين اتصل بى بعد توليه بقليل، ليطلب منى أن أخصص مقالى الأسبوعى بصراحة عن " جعفر نميرى"، وقال لى أن النميرى يقول أن هيكل لم يكتب عن ثورة السودان، وأنه وعده بأن أكتب هذا الأسبوع عنها.
أبديت دهشتى، وقلت أنه ليس فى ذهنى موضوع للكتابة فيه عن السودان.
وأضفت: أخشى أن تفهم أن عبد الناصر كان يحدد لى ما أكتب فيه، وهذا غير صحيح وأنا أعترض على أن تحدد لى ما أكتب فيه، فقال أنه أراد أن يصلح علاقتى بجعفر نميرى، وانتهى الموضوع عند هذا الحد، ولم أكتب مقالى هذا الأسبوع.
تصور السادات حين نقلنى من الأهرام أنه حكم على بألا أصبح صحفيا إلى الأبد، ولهذا كان يغضب لأننى ما زلت صحفيا، رغم تركى الأهرام.
وقد حدث عندما قابلنى الخمينى عام 1978 فى باريس ونشر النبأ، أن سأل صديقا مشتركا: هو محمد قابل الخمينى ليه؟
وعندما قال له الصديق أن المقابلة تمت باعتبارى صحفيا، قال دهشا: لكن أنا عزلته؟
ليس هذا فقط بل إن الشاه عندما وصل إلى أسوان سأل السادات عن هذه المقابلة، وهل لديه أنباء عن نوايا الخمينى القادمة فى ضوء مقابلتى له؟ فقال السادات إن فى مصر تقليد بأن يكتب كل صحفى يسافر إلى الخارج تقريرا عن لقاءاته واتصل بى أحد كبار المسئولين من أسوان، وطلب منى كتابى تقرير، ولكنى رفضت، وقلت أننى أكتب مقالات أنشرها، ولم أكتب تقارير لأحد طول عمرى، وإن ما جرى فى مقابلتى للخمينى منشور.
(9)
لم يكن هناك فى البداية خلاف بين الرئيس السادات وبينى لأكثر من ثلاث سنوات، كان بيننا حوار متصل، اختلفنا واتفقنا، ولكن القرار كان دائما قراره بالطبع، لأنه وحده المنتخب من الشعب، وهو دستوريا رأس سلطة القرار فى الدولة.
لم أتوقف عن الحوار رغم أنه غضب أحيانا، ولكنى لم أفزع وإنما قلت له بمودة: إننى معك كما كنت مع جمال عبد الناصر، لا أخاف منك لأننى أحبك، والذى لا يحب لا يخاف، والذى يخاف لا يحب.
طوال أيام الحرب من 6 وحتى 20 أكتوبر كنت مع الرئيس السادات كل مساء وحتى قرب منتصف الليل فى قصر الطاهرة، وكان يقيم فيه أيامها ومعه مكتب اتصال يحتل بدروم الدور الغاطس تحت الأرض.
وكتبت له خطابه الذى ألقاه فى مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر 1973، وعندما عاد بعد إلقائه اتصلت به من الأهرام أبلغه بما أعلنته رئيسة وزراء إسرائيل من أن جيش الدفاع الإسرائيلى يواصل عملياته ويتقدم غرب القناة، وكانت تلك أول أنباء عن الثغرة وطلب أن أنتظره على التليفون دقيقة يتصل فيها بالمشير أحمد إسماعيل، وعاد إلى ومعه طمأنينة لم أحسبها كافية، وطلب إلى أن أتصل بنفسى بأحمد إسماعيل وأسمع منه، وفعلت ومرة أخرى عاودنى الشعور نفسه.
وفى يوم 7 أكتوبر حضرت معه لقاءا واحدا ضمن ثلاثة لقاءات أجراها مع رئيس الوزراء السوفيتى " إليكس كوسيجين" وكان قد جاء فى زيارة سرية للقاهرة ولم يكن ما سمعته مشجعا.
ومساء 20 أكتوبر ظهر الخلاف بيننا فى موضوع قبول قرار مجلس الأمن رقم 338، فقد أبديت تحفظات عليه فى حضور المهندس " سيد مرعى" والسيد حافظ إسماعيل والدكتور أشرف مروان.
طرحت أهمية التشاور مع سوريا قبل موافقة مصر عليه، وكان رأيه أن السوفيت سوف يقومون بإخطارهم ،وعلقت بأنهم كانوا شركاء لنا فى الحرب ول ميكونوا شركاء السوفيت ولم يقتنع.
ورجوته أن ينتظر حتى يجئ المراقبون الدوليون لضبط خطوط وقف إطلاق النار، خصوصا أن فريقا منهم جاهز فى قبرص ووصوله إلى هنا مسألة ساعات، مع تذكيره بتجربة أن الإسرائيليين لن يحترموا قرارا من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، بل سوف يستغلونه إلى أبعد مدى يستطيعون الوصول إليه.
ورد على أمام الجميع بان لديه تعهدا أمريكيا مكتوبا بتوقيع نيكسون، وهذا بمستواه أنفع وأجدى ألف مرة من أمم متحدة لا تحل ولا تربط.
وقلت ما مؤداه إننى مشارك لسنوات طويلة فى اتصالات ومحادثات مع إدارات أمريكية متعاقبة منذ سبتمبر 1952، وبالتالى فقد خبرت مراوغات السياسة الأمريكية وتعلمت أن أسمع ثم أبحث ثم أشك، ثم أكتشف أن الكلام فى الخطاب الأمريكى شئ والفعل نقيضه إذا لم يحاذر من يعنيه الأمر.
ورد بما ملخصه: إن الاتصالات هذه المرة على مستوى آخر غير مسبوق، فهى بينه وبين الرئيس نيكسون وهى تحتوى على تعهدات مكتوبة موقعة بإمضاء رئيس أكبر وأقوى دولة فى العالم، وأضاف مؤكدا: إن الاتصالات هذه المرة تختلف فى كل شئ عن كل ما سبقها.
ولم أكن أعرف شيئا عن هذه الاتصالات حتى عثرت على نصوصها فى واشنطن بعد خمس عشرة سنة.
قلتها له عشرات المرات من أول يوم فى ولايته، إلى آخر لقاء لى معه حين اعتذرت سنة 1975 عن تأييد فك الارتباط الثانى وملحقاته السرية.
يوم 13 مايو 1971 وكان الرئيس السادات يستعد لتسجيل خطابه إلى الأمة يشرح فيه قصته مع من سموا فى ذلك الوقت بمراكز القوى، كنت معه فى مكتبه فى قصر القبة ومعنا السيد حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت.
كان المقرر أن يكون الحديث مرتجلا، وشرح الرئيس أمامنا ما ينوى أن يقوله عند بدء التسجيل، ولاحظت أنه يركز تركيزا شديدا على أن خلافه مع الآخرين كان سببه أنهم منعوه من التفاوض مع ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى الذى كان يطوف بالمنطقة وقتها.
وأتذكر أننى قلت له بالحرف: سيادة الرئيس الناس لا يهمهم إذا منعوك أو لم يمنعوك من المفاوضة مع روجرز، إذ هناك قضية أخرى تسبق غيرها من القضايا الآن فى ضمير الناس كل الناس وهى قضية الديمقراطية، هذه هى النقطة التى أتصور أن تركز عليها.
ورحت أجادل الرئيس حتى أقتنع فى النهاية بألا يشير على الإطلاق إلى حكاية منعه من التفاوض مع روجرز ويركز بالكامل على قضية الديمقراطية.
جرت مياه كثيرة تحت جسور النيل وفى قناة السويس حتى بدأ الإعداد لحرب أكتوبر، وكنت إلى جانب الرئيس الراحل فى الإعداد السياسى والإعلامى للمعركة، حتى أنه تفضل وعهد إلى بكتابة التوجيه السرى الصادر منه إلى القائد العام للقوات المسلحة، بتحديد أهداف المعركة والغرض المطلوب تنفيذه بالقوة المسلحة لصالح الاستراتيجية السياسية العامة لمصر والأمة العربية.
حين كتبت ذلك التوجيه بخط يدى أخذه الرئيس إلى أحد سكرتيرى مكتبه وطلب دقه على الآلة الكاتبة لكى يوقعه ويسلمه بيده إلى الفريق أحمد إسماعيل على، وبلغ من حرص الرئيس على السرية أنه بنفسه أغلق غرفة فى بيته على سكرتير الآلة الكاتبة وتركه فيها حتى بدأت المعركة بعدها بأيام، ثم بنفسه أطلق سراحه وأمر بمنحه علاوة استثنائية.
إلى هذه الدرجة كانت العلاقة وكانت الثقة، لم تكن علاقة سهلة، ولا كانت ثقة على بياض.
(10)
كان الرئيس السادات يراهن فى الضغط على بأوراق ثلاث ظنها رابحة.
الورقة الأولى: أننى لا أطيق البعاد عن لعبة السياسة العليا فى مصر، وقد كانت أصابعى فيها لأكثر من من عشرين عاما، والقرب من لعبة السياسة العليا فى أى بلد فى العالم حالة يمكن أن تكون لها قوة الإدمان.
الورقة الثانية: أننى لن أقدر على الفراق عن الأهرام بعد أن وضعت فيه من سنوات عمرى ما وضعت، أكثر من سبعة عشر عاما هى الشباب كله، وما بعد الشباب.
الورقة الثالثة: هى أننى لن أجد ما أعمله إذا ابتعدت، فالمهنة التى اخترتها لنفسى – الصحافة – أصبحت فى مصر ملكا خاصا لسلطة الدولة، فإذا خرجت من أحد الأبواب فقد خرجت من كل الأبواب.
وأشهد لأنور السادت أنه حاول أن يترك الباب نصف مفتوح بعد الخروج.
فكان قراره الأول المنشور فى كل الصحف صباح يوم 2 فبراير 1974 أن أنتقل من الأهرام إلى قصر عابدين مستشارا لرئيس الجمهورية، ولم أضع قدمى فى قصر عابدين، ولخصت موقفى فى تصريح نشرته صحيفة الصنداى تايمز البريطانية فى عددها الصادر يوم 9 فبراير 1974.
قلت: إننى استعملت حقى فى التعبير عن رأيى والرئيس السادات استعمل سلطته، وسلطة الرئيس قد تخول له أن يقول لى: اترك الأهرام، ولكن هذه السلطة لا تخول له أن يحدد لى أين أذهب بعد ذلك، القرار الأول يملكه وحده، والقرار الثانى أملكه وحدى.
وخرجت ولم أعد بعدها، ولا أظننى أريد أن أعود.
لم أعد – ولا أظننى أريد أن أعود – إلى لعبة السياسة العليا.
ولم أعد – ولا أظننى أريد أن أعود – إلى الصحافة، بما فيها الأهرام، رغم أن الرئيس بعد عروض أخرى بمناصب أكبر فى الدولة، بينها منصب مستشاره للأمن القومى"كسينجر" بتاعى على حد تعبيره بالنص، أو منصب نائب رئيس الوزراء عاد فقال لى فى ربيع سنة 1975 إننى أستطيع أن أعود إلى الصحافة إذا أحببت وفى أى مكان أريده على شرط واحد وهو أن ألتزم.
وكان ردى يومها: سيادة الرئيس إننى لا أعرف بالضبط ما تطلب منى أن ألتزم به، ولا أتصور أنه فى مقدور أحد أن يلتزم خارج قناعاته، ولقد كتبت ما كنت مقتنعا به، وما اعتبرته جوهر التزامى، ولكنك غضبت، ثم إننى لا أظنك ترضى لى وأنا بالقطع لا أرضى لنفسى أن أخرج بقرار ثم أعود بقرار.
قد أخرج بقرار ولكنى أظل صحفيا بالمعنى الذى أفهمه، ولكنى إذا عدت بقرار فلن أعود صحفيا بالمعنى الذى أفهمه، إننى لست من الذين يستشهدون بكارل ماركس ويعتبرون أقواله إنجيلا مصدقا، ومع ذلك فإننى من المعجبين بقول مأثور له مؤداه: إن التاريخ لا يكرر نفسه، وإذا فعل فالمرة الأولى تكون دراما مؤثرة، وأما المرة الثانية فإنها تصبح ملهاة مضحكة، وأنا لا أريد أن أعود إلى الصحافة ظلا باهتا وما كنت ذلك يوما.
ذات يوم كنت فى الأهرام، وكنت أفكروأكتب وأقرر وأتحرك دون أن ألتفت خلفى، سوف أجدنى مترددا فيما أفكر وأكتب، وسوف أجدنى مهموما بما وراء ظهرى أتلفت إليه محاولا تأمين نفسى مما عساه يصل إليك عما أقول أو أفعل، وذلك شئ لا أريده كما أنى لست فى حاجة إليه.
إن أسبابا للخلاف وقعت بين الرئيس وبينى قبل حرب أكتوبر.
اختلفنا سنة 1971 فيما كان يقوله عن سنة الحسم وكتبت ونشرت آرائى دون إلحاح.
واختلفنا سنة 1972 فى الطريقة التى أخرج بها السوفيت من مصر، وفى الطريقة التى عالج بها مشكلة ما أسماه " الفتنة الطائفية" وحاولت معه بقدر ما استطعت.
واختلفنا سنة 1973 فى مواجهات اندفع إليها دون مبرر من وجهة نظرى مع شباب الجامعات، وألقى بهم فى السجون، وقدمهم للمحاكمات، ومع جماعات من المثقفين والصحفيين نقلهم بجرة قلم إلى مصلحة الاستعلامات.
التزمت بموقفى، وإن حاولت جاهدا أن أتفادى ما يقترب من حد الاستفزاز، وقد غضب عدة مرات وثار واتهمنى بأننى أريد أن أفرض عليه آرائى، وأننى أتجاوز الخط الفاصل بين دور الصحفى ومسئولية الحاكم، وردد بعض ذلك فى خطب علنية.
حاولت مخلصا أن أشرح له موقفى، وكان رأيى أن حرية الصحافة بالمعنى الحقيقى هى حرية مناقشة صنع القرار، والعوامل المؤثرة عليه، والمناخ المحيط به، والنتائج التى يمكن أن تترتب بعدها، ولم يكن ذلك رأيه فى حرية الصحافة.
كان القرار فى رأيه مسئولية الحاكم وحده، وكنت مستعدا أن أوافقه على ذلك عن معرفة بظروف العالم الثالث، ولكن مسئولية إصدار القرار شئ، وحق مناقشة هذا القرار وتقييمه، وما يتصل به من مقدمات ونتائج شئ آخر، ولم يكن على استعداد لأن يقتنع ومن جانبى كنت حريصا على ألا تصل الأمور إلى صدام.
(11)
لم يكن لدى أى سبب لكراهيتى الرئيس السادات.
كان الرجل للإنصاف يحاول جهده معى، ولكن على شروطه هو بالطبع، ولم تكن لى شروط إلا أن أكون متسقا مع نفسى ومع تاريخى ومع ما أؤمن به.
لقد جلس معى الرئيس السادات أطول جلسة قضاها مع أى إنسان فى حياته كلها.
كان ذلك يوم 22 فبراير 1975، وكانت علاقاتنا قد تحسنت بعد اعتذارى عن قبول منصب المستشار السياسى للرئيس، وما أعقب ذلك من قطيعة دامت ستة أشهر تقريبا.
ذهبت إليه ذلك اليوم ومعى الصحفى الأمريكى " سيروس سالزبرجر" وقضينا معه نحن الاثنين ساعة، ثم تهيأنا للانصراف وكان " سالزبرجر" مدعوا على الغداء بعدها فى بيتى.
استوقفنى الرئيس السادات وسألنى: إلى أين أنت ذاهب؟
قلت: معه... فهو ضيف غداء عندى اليوم.
ورد الرئيس: سوف أرتب من يدعوه بدلك على الغداء لأنى أريدك معى هنا لحديث مهم.
ولم ينتظر الرئيس، بل استدعى الدكتور أشرف مروان مدير مكتبه للمعلومات وقتئذ، وطلب منه أن يأخذ سالزبرجر إلى الغداء فى أى مكان.
وصعدت مع الرئيس إلى الطابق الثانى من استراحة القناطر، وجلسنا نحن الاثنين فى غرفة نومه، كانت الساعة الثانية ظهرا.
انتهى لقاؤنا فى الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، أى أن حوارنا استمر إحدى عشرة ساعة ونصف الساعة.
تواصلت أسرتى مع سيد مرعى ورجته بعد أن نزل الظلام أن يتأكد من وجودى فى استراحة القناطر مع الرئيس لأن طريق القناطر فى الليل خطر لزحمة المرور عليه، وكان هناك قلق لغيابى إلى هذا الحد عن غداء كان معنا فيه ضيف، وسأل سيد مرعى ثم كرر السؤال وعاد إليه حتى قرب منتصف الليل.
إحدى عشر ساعة ونصف الساعة فى حوار مستمر، لا يطول إلى هذا الحد غير حوار حقيقى حافل ومتدفق.
على العكس تماما أنا مدين للرئيس السادات، فخروجى من الأهرام منحنى الفرصة لكى أثبت لنفسى وللآخرين أن الصحيفة العربية قد تصبح مملوكة للسلطة، ولكن الصحفى العربى ليس محكوما عليه بالضرورة أن يكون مملوكا للسلطة، إذا كان لديه ما يقوله، وإذا كان لما يقوله قيمة، فالعالم الواسع مفتوح له.
عندما خرجت من الأهرام آخر مرة ظهر يوم 2 فبراير 1974 كنت واثقا أننى لن أعود إليه، وقررت أننى لن أقبل العودة إليه مهما كان أويكون، لسبب أساسى ومبدئى، هو أن عودتى سوف تكون بقرار، ولقد قلت دائما أن الصحفى يستطيع أن يخرج بقرار من سلطة دون أن يفقد صفته الصحفية، ولكنه إذا عاد بقرار فقد الكثير مما كان لديه، إن لم يكن قد فقده كله.
(12)
بلغ خلافى مع الرئيس السادات حد القطيعة الكاملة، ومع ذلك كنت فى دهشة من تناوله لى فى كل خطاب تقريبا مع أنه كان يعلم أننى لا أملك حق الرد، ومع أنه كان يعرف أننى وأنا أعيش حياتى كلها فى مصر أقع تحت سلطانه المطلق وغير المحدود، كان خلافى مع الرئيس السادات فى كل شئ تقريبا، أقولها مع الأسف.
لقد اختلفنا أنا والسادات فى فبراير 1974، لكنه لم يعتقلنى إلا فى سبتمبر 1981، وقد تحمل أن أعبر عن رأيى وأنا فى بلدى، وقد هاجمنى وأنا مواطن عادى، وبذلك رفعنى من ناحية الأهمية العامة إلى مستوى رئيس الدولة.
اعتذرت عن تنفيذ قراره، ولم أتسلم العمل مستشارا له فى قصر عابدين، رغم إلحاح عدد من الأصدقاء المتصلين وقتها بالسادات وبى، وضمنهم سيد مرعى وإسماعيل فهمى وأشرف مروان، ولم تمض غير أسابيع حتى بدأت محاولات إقناعى بالود أن أبتعد عن مصر ولو شهور قليلة، وكان بين ما طرحوه على فى تلك الأيام منصب السفير المصرى فى لندن.
بعد قطيعة شهور، وفى نوفمبر 1974 اتصل بى تليفونيا وطلب أن ألقاه فى استراحة الهرم، وكأن شيئا لم يحدث.
كنت مشغولا بكتابى "الطريق إلى رمضان" وكان السادات يشعر بضيق وضغوط من كيسنجر، وعلى وشك الذهاب لقمة الرباط التى أعلن فيها أن منظمة التحرير هى الممثل الوحيد للفلسطينين، وقد تناقشنا كثيرا فى هذه الأمور فى أيام متتالية، وقد وجدت أن خلافاتنا لا تزال كما هى، وكان على الإنتهاء من الكتاب، لذلك، فقد طلبت منه أن نظل أصدقاء لنرى فيما بعد ما يمكن عمله معا.
ثم فوجئت بعرضه أن أكون نائب رئيس وزراء مع ممدوح سالم، وأتذكر أننا كنا فى استراحة القناطر، والسادات مسنود على شلتة، وأنا أحاول أن أقنعه بوجود علاقة بين طبيعة المرحلة، وطبيعة الشخص الذى يتولى الحكومة، وذكرته بما جرى فى قصر الطاهرة 1973، عندما قلت له إن مرحلة ما بعد الحرب هى مرحلة تعمير وبناء، ومن ثم كان اختيار د. عبد العزيز حجازى لرئاسة الحكومة، لكنك الآن لا تريده، وتريد ممدوح سالم، وقد سبق أن تركت رئاسة الوزراء للدكتور محمود فوزى، لكن ثقتك ظلت فى ممدوح سالم، وأتيت بد. عزيز صدقى، ثم د. عبد العزيز حجازى، لكن ثقتك ظلت أيضا فى ممدوح سالم، واختيارك لممدوح سالم الآن ينهى هذه الإزدواجية.
فقال لى السادات: يا سلام عليك يا محمد، أنت شفت الكومبيوتر اللى فى دماغى.
قلت له: ثقتك فى ممدوح سالم لا يمكن تفسيرها إلا بأن الأمن هو هاجسك الأول، وأنا لا اعتراض لى على ممدوح سالم، لكن ما أخشاه هو " تبوليس" الحكومة، أى أن تصبح بوليسية.
إن الحاكم عليه أن يحدد تصوراته الإجتماعية ويقرر هو فى خدمة من؟
وأضفت قائلا: أنت موجود رئيس جمهورية ليه؟
لو بقيت فى الجيش لكنت اليوم اللواء متقاعد أنور السادات، وساكن فى الحلمية، لكن لماذا أنت اليوم أنور السادات رئيس الجمورية؟
لأن هناك معنى اجتماعى حدث فى يوم 23 يوليو 1952، معنى تعبر عنه مجموعة من السلطة، منتمية لأغلبية الشعب فى مصر، ومعبرة عن مصالحها، وهذه المجموعة تستمد شرعيتها من انحيازها الاجتماعى والاقتصادى للأغلبية، وليس لها سند آخر للشرعية مثل الميراث كما فى النظام الملكى، أو مثل الانتخابات بمعناها الذى لا خلاف عليه.
وأضفت : فى 23 يوليو 52 تغيرت السلطة فى مصر، وبعدها غيرت الثورة التركيب الاقتصادى والاجتماعى فى مصر، بعد رحيل جمال عبد الناصر أصبحت رئيسا للجمهورية، سلطتك قائمة على ما اسميناه تحالف قوى الشعب العامل، هذه هى القاعدة الاجتماعية لثورة يوليو، بسياسة الانفتاح التى بدأت فى العام الماضى 1974 تغيرت القواعد، وعليك أن تسأل نفسك، هل ما زلت تمثل التحالف القديم، رأيى أن الأمر لم يعد كذلك، ولابد من إعادة توصيله من جديد، لابد من تحديد هويته ومرتكزاته الطبقية.
نظر إلى الرئيس السادات وقال: محمد أنت تتكلم عن الصراع الطبقى يا محمد.
وبدأ يكتب فى الهواء:
أنور السادات
قرار من رئيس الجمهورية.
مادة أولى: يلغى الحقد الطبقى.
مادة ثانية: على وزرائنا كل فيما يخصه تنفيذ هذا القرار.
امضاء أنور لاسادات كبير العائلة المصرية.
ثم التفت لى قائلا: فهمت يا محمد؟
قلت: الحقيقة أنى لم أفهم.
(13)
يعتقد البعض أن قرار خروجى من منصبى فى جريدة الأهرام كان مفاجئا بالنسبة لى، على العكس تماما، كان بينى وبين الرئيس لقاء اصطحبت له فيه الرئيس ميتران الذى كان ضيفنا لمدة عشرة أيام وقتها فى الأهرام، جلسنا نتناقش لأكثر من ساعتين.
ونحن ننزل درجات السلم سألنى الرئيس السادات: محمد قرارك ايه... الرئاسة ولا الوزارة؟
كان الرئيس السادات قد قال لى قبلها أن بقائى فى الأهرام مع المقالات التى أكتبها أصبح مسألة صعبة جدا، لأن الناس بدأت تشعر أن هناك خلافا فيما بيننا.
وكنا تقابلنا قبل ذلك فى نادى الرماية، وحاول أن نتكلم، وقلت له: لا أريد إلا أن أكون صحفيا.. وإذا لم يكن فى الأهرام فأعتقد أنه فى وسعى العمل فى أية صحيفة خارج مصر.
سألنى الرئيس بشكل مباشر بعد لقاء ميتران" ما هو قرارك؟
قلت له: لا مستشار فى الرئاسة ولا عضو فى الوزارة.
قال لى: هل هذا قرارك الأخير؟
قلت له: ليس مسألة قرار أخير، هذا خارج طاقتى تماما.
نظر إلى وقد سبقنى على السلم، وقال: خلاص يا محمد مفيش فايدة.
يوم الجمعة أبلغونى بتعيين الدكتور عبد القادر حاتم رئيسا لمجلس إدارة الأهرام، وتعيينى مستشارا لرئيس الجمهورية.
قلت لهم فى الأهرام انشروا الخبر بطريقة طبيعية.
ذهبت صباح اليوم التالى وعقدت اجتماعا لمجلس الإدارة واللجنة النقابية والاتحاد الإشتراكى، ودعوت الدكتور عبد القادر حاتم ليتسلم الأهرام، لأننى لم أعتبر نفسى مرفودا، وإنما أعتبر نفسى رجلا اختلف وقبل تحمل مسئولية الخلاف.
لسنة شهور متواصلة لم نتقابل، وبعدها وجدت فوزى عبد الحافظ سكرتير الرئيس يتصل بى تليفونيا: سيادة الرئيس عاوز يكلمك.
أعطى سماعة الهاتف للرئيس الذى وجدته يقول لى: بتعمل ايه يا محمد؟
قلت له: أكتب كتاب.
قال لى: سيب الكتاب وتعالى قابلنى فى استراحة الهرم.
ذهبت إليه فى استراحة الهرم، جلسنا وتحدثنا، ووقتها كان لطيفا جدا وسمع كلامى.
سألنى: حتعمل ايه؟
قلت: باشتغل فى كتاب، وعندى عقود كتب أخرى، وكويس كده أنا مبسوط.
قال: أنا مسألتكش حتعمل ايه فى نفسك، أنا باسألك حتعمل ايه معايا؟... أنا قررت تعيينك مستشار بعد استقالة حافظ اسماعيل.
قلت له: أنا بعيد عن الصورة من ستة شهور، وأنا أريد مكان ومكانة الصديق.
ضرب الرئيس على الترابيزة التى أمامه، وقال لى: لا لا لا... دى بلبلة.
لا ينتبه كثيرون إلى أننى كنت إلى جوار الرئيس السادات خلال هذه الفترة، وكتبت له خطاب البرلمان الذى أعلن فيه فشل مفاوضات فك الاشتباك الثانى، وقدمت فيه الاقتراح بفتح قناة السويس، رغم أن رأيه كان الإغلاق، وكان هذا رأى مستشاريه أيضا.
ناقشنى فى هذا الإقتراح ثلاثة أيام متواصلة، ثم قبل فى النهاية ما اقترحته.
كتبت له أيضا خطاب التغيير الوزارى، وتناقشنا فيه، وطلبت منه أن نضيف حديثا عن الأسعار، وكيف لمواطن أن يعيش بمرتبه، وناقشنا ما كان يتردد وقتها عن الفساد.
وعندما قررت أن أعمل على كتاب عن العالم العربى ومواطن القوة فيه، وكنت فى طريقى إلى عدة دول عربية، أخذت منه رسائل لبعض الناس.
ويعرف كثيرون أننى حاولت أن أزيل الجفوة بينه وبين الرئيس الأسد، وهى الجفوة التى اتسعت بعد حرب أكتوبر، ناقشت الرئيس الأسد بطريقة لم تحدث بيننا من قبل.
قلت له: يا سيادة الرئيس احنا عرفنا عنك من الرئيس السادات، وأنا لا أخفى عليك أنى كنت باستمرار متشكك فى البعث فى سوريا والرئيس السادات كان يؤكد أنك شخص من نوع آخر، لدرجة إن أنا قلت للرئيس يا سيادة الرئيس أنت عمال تقول حافظ الأسد... حافظ الأسد، يعنى حافظ الأسد حيطلع ايه ما هو برضه بعثى وضابط وعلوى.
ورد الأسد قال: العمى هيك قلت له.
قلت له: الحقيقة حصل.
بعد أن عدت من جولتى العربية التى زرت خلالها إيران، وجدت حملة شعواء على فى الأهرام بسبب كتاب " الطريق إلى رمضان" بحجة أننى تجاهلت دور الرئيس السادات، ولم يكن هذا صحيحا على الإطلاق.
كل الناس قرأوا الكتاب، وكل النقاد أجمعوا على أن الرئيس السادات كان بطل الكتاب، ولا يستطيع أحد أن ينكر على الرجل دوره فى حرب أكتوبر، لكننى وجدت نفسى متهما بتزييف التاريخ، وبعدها اتهمونى أننى سافرت إلى أمريكا حتى أفسد على الرئيس رحلته إلى هناك... ولم يحدث شئ من هذا على الإطلاق أيضا.
لقد سافرت إلى أمريكا وقتها بدعوة من مؤتمر الخريجيين العرب من الجامعة الأمريكية، وكانت الدعوة قد وصلتنى إلى شهر مارس، وقد استأذنت من الرئيس السادات فى السفر.
قلت له: جاءتنى دعوة من أمريكا.
فرد: لازم تروح.
قلت له: لقد قبلت الدعوة ووعدت أصحابها أننى سأكون هناك.
ذهبت إلى شيكاغو، وكان طبيعيا أن أعود منها إلى نيويورك، وأمر على واشنطن، وبعد أن عدت وجدت من يتهمنى أنى ذهبت لأفسد على الرئيس زيارته.
وكان سؤالى: كيف لصحفى أن يفسد رحلة لرئيس الجمهورية؟
(14)
آخر مرة رأيت السادات وجها لوجه كان فى شتاء 1975.
تكلمنا فى التليفون معا كثيرا، بعد اتفاقية فك الارتباط الثانى، جاءنى إسماعيل فهمى وكنا فى الصيف، فى كابينتى بالإسكندرية.
قال لى: فيه هجوم شديد جدا على الإتفاقية، و السادات طلب أنت تتولى الرد.
قلت: كيف؟
قال: هو طلب أن أعطيك صورة لما جرى.
وسألته: هل فى الإتفاقية تعهدات سرية؟
قال: لا.
وقبل أن ينصرف رن التليفون، وكان فوزى عبد الحافظ سكرتير السادات.
وقال: الرئيس عاوزك، وجاء صوته طبيعيا، وكأن شيئا لم يكن.
قال: أيوه يا محمد... إسماعيل جالك؟
قلت: ما زال عندى.
قال: أنا مش عايز حد يدافع عنى أنا أقدر أدافع عن نفسى، لكن مصر بتتهاجم يا محمد، وعايزك تدافع عنها.
قلت له: بالأمس كنت فى فندق فلسطين، وقابلت بالصدفة جوزيف سيسكو، وتناقشت معه فيما قرأته فى هيرالدتربيون عن البنود السرية، وسيسكو اكد أنها موجودة، وإسماعيل فهمى نفاها.
قال السادات: مفيش حاجات سرية.
قلت: لكنى قرأت عنها فى التربيون.
قال: محمد هل ستصدقنى أم ستصدق التربيون.؟
قلت: أصدقك أنت لكن الحقيقة أنا محتار.
قال: بلاش بلبلة حتكتب ولا مش حتكتب؟ أنا بأسأل سؤال واضح ومش عايز بلبلة، حتكتب ولا مش حتكتب؟
قلت: لأ مش حاكتب.
قال: إن شالله ما كتبت.
ووضع السماعة.
تكلمنا بعد ذلك بعد حوادث 18 و19 يناير 1977، كنت فى بيتى الريفى فى برقاش، وكانت التليفونات معطلة، وفوجئت برئيس الحرس المرافق لسيد مرعى العقيد شريف أمامى، وقال إن رئيس مجلس الشعب سيد مرعى يريد أن يراك.
فقلت له: البلد فيها حظر تجول.
قال: أنا مع سيادتك.
قلت: وأسرتى؟
قال: نأخذها معنا.
قلت: لا أريد لأحد أن يعرضها لسوء، غدا صباحا سأكون عندكم.
فى الصباح وجدت مصطفى خليل وسيد مرعى يبحثان الموقف، وقد اعتراهما القلق، وراحا يتحدثان عن تضافر القوى فى مثل هذه الظروف، ومن جانبى شرحت وجهة نظرى، وبعد قليل جاء حسن مرعى يطلب من سيد مرعى الذهاب لحجرة المكتب لأن الرئيس السادات على التليفون، ثم طلب منى أن ألحق بسيد مرعى، وكان يشرح وجهة نظرى التى كنت أقولها قبل قليل، وأعطانى سيد مرعى السماعة وجرى بينى وبين السادات الحوار التالى:
قلت له: أهلا يا فندم... أتمنى ألا تكون متضايقا.
قل: هو ده ما كنت أقوله لك دائما يا محمد؟
قلت: إيه هو؟
قال: مراكز القوى أهم اتحركوا.
قلت: اعمل معروف لا داعى لاستدعاء أشباح نسيناها.
قال: لا... لا ... يا محمد.
-وبدأت أشرح وجهة نظرى الإجتماعية فى تفسير المظاهرات، وبعد أن انتهيت قال: ما فهمتش حاجة... أنت جرالك إيه... صديت؟
لم أعلق، ووجدته يقول لى: عايزك تفكر وحنتكلم.
مساء نفس اليوم ولكن فى بيتى وجدت منه مكالمة أخرى، قال فيها: أنا قلت لسيد مرعى يعدى عليك ويعرف أفكارك.
قلت له: الحكاية ليس حكاية أفكار، القضية تشخيص ما حصل حتى توصل لعلاج مناسب، وأنا شايف ما حصل هو ظاهرة إجتماعية.
قال: لا... لا.
قلت: نحن بصدد اتجاهين للتفسير اتجاه اجتماعى واتجاه أمنى.
رحت حوالى الساعة أشرح ما أعنيه، وكاد السادات أن يقتنع بأن الأزمة اجتماعية، ثم قال:
- أنا غدا سأجتمع بمجلس الأمن القومى وسأتصل بك قبل الإجتماع.
فى اليوم التالى عندما كلمنى قبل الإجتماع بدا قريبا من وجهة نظرى، وكان ذلك فى الساعة العاشرة صباحا، ولكن بعد الإجتماع وفى الساعة السادسة مساء، مر على سيد مرعى ليقول لى: لا تضايق الرئيس ولا تلح عليه بما عندك، ثم كلمنى السادات وقال:
- محمد أنت عايزنى أصدقك وأكذب اللى انا شايفه قدام عينى.؟
قلت : اللى هو إيه؟
قال: مؤامرة مفيش شك، فيها شيوعيين والروس وكله وأنا مش واخد بالى، أنا حاضرب.. فكرت.. فكرت يا محمد؟
قلت: لقد قلت إن القضية قضية تشخيص، والتشخيص هو الذى سيحدد العلاج، أما وقد وصلت لتشخيص أنا غير مقتنع به إذن الحل ليس بيدى وإنما بيد صاحب التشخيص.
قال: أنت عايز تفرض على رأيك؟
قلت: لا طبعا لكن أنا بأقول إن أحسن من يخدم سياسة ما هو من يقتنع بدواعيها، أنا غير مقتنع بأنها مؤامرة، أنا مقتنع أنها انفجار اجتماعى، وإذا كان رأيى سليما يبقى العلاج اجتماعى، وإذا كان التشخيص أنها مؤامرة يبقى العلاج بالضرب، وأنا لا أدخل فى الضرب، فهو ليس من اختصاصى.
قال: أنا كنت متصور أنك ستكتب الكلام الذى سأقوله.
قلت: إذا كنا مختلفين فكيف سأكتب؟
قال وقد استبد به غضب مفاجئ: طيب... شكرا يا محمد... كتر خيرك.
(15)
كان السؤال الذى يطاردنى هو: كيف يتركك السادات تكتب معارضا سياساته؟
وكنت أقول أن العلاقة بين الرئيس السادات وبينى، هى العلاقة بين صحفى مهتم وملتزم وبين رئيس دولة.
الصحفى فى ظروف العالم الثالث، وبالذات فى ظروف بلد كمصر، حيث نواجه قضايا مصيرية، لا يستطيع أن يكون فقط مسجلا لما يجرى، إنما يكون التزامه أكبر وأوسع، ويكون اهتمامه بما يجرى أكثر من اهتمام زملائنا فى أوربا وأمريكا، لأننا هنا لا نتكلم فقط فى تفاصيل الأشياء، إنما نتكلم فى أساسيات الأشياء، وهذا هو شاغلنا فى هذ المرحلة من التطور.
أما عن أننى أكتب معارضا السادات، أنا لست معارضا، فقد أتانى بعض الناس، قالوا لى: إنك ترتب نفسك كى تبقى زعيم معارضة، أو تتصرف كأنك معارض، وهذا غير صحيح، أنا لست زعيم معارضة، ولا معارضا، لماذا؟
هناك ثلاثة شروط للمعارضة، وكلاسيكيا هذه الشروط معروفة: كى تعارض يجب أن تتوفر لديك ثلاثة أمور.
أولا: أن يكون عندك تنظيم.
ثانيا: أن يكون عندك سياسة بديلة تطرحها.
ثالثا: أن يكون لديك هدف الوصول إلى السلطة.
أنا رجل لا تنظيم عندى ولا سياسة بديلة، عندى تصورات وليس هدفى الوصول إلى الحكم، أنا متمسك تماما بدورى كصحفى، واعتذرت عن كل العروض التى عرضت على كى أعمل فى السياسة التنفيذية أو فى الحكم، اعتذرت عنها وأنا شاكرا لكل الناس الذين قدموها وكنت عند حسن ظنهم.
لم أعارض سياسة الرئيس السادات، كنت أوسع دائرة الاختيار أمامه، لا يعنى هذا أننى أقول رأيا معارضا له، أننى أقول رأيا آخر، وليس فى كل قضية، الهدف فى الدرجة الأولى أن أوسع دائرة الإختيار أمام صانع القرار المصرى أو صانع القرار العربى.
(16)
السادات على المستوى الشخصى كان شخصية مثيرة وفيها جوانب تستحق الإعجاب.
جاء فى مرحلة كان البلد يلهث فيه، وهو قد أعطى فرصة للأنفاس كى تهدأ.
ولا أنكر أنه اتخذ قرارا فى منتهى الشجاعة، وفى منتهى الأهمية، قرار حرب أكتوبر، وإن كان بعد الحرب قد قفز إلى مواقع أخرى مؤكدا بذلك مشكلتيه: معاداة التراكم والهروب المستمر.
شجاعة السادات فى أكتوبر شجاعة غير طبيعية.
أما فى مايو فكانت شجاعة إجبارية لأنه كان يدافع عن نفسه، رقبته كانت مهددة، وقد واجه ظروفا داخلية فى منتهى الصعوبة، واجه مجموعات تريد أن تفرض تصورات معينة عليه، وكان يعتمد فى المواجهة على قوى كبيرة جدا تؤيده، وكنت واحدا من مؤيديه، وكان لى دور رئيسى فيما جرى، وهو قد وصفنى بأننى مهندس العملية وأنا سعيد بذلك.
فى أكتوبر كان على السادات أن يتخذ القرار بمفرده فى جو يمتلئ بالإحباط، ولم يتصور أحد أنه سيتخذه، وأنا أعتقد أن أحسن ما تجلى فيه هو هذا القرار.
وكان فى أفضل أحواله فى الفترة من 5 سبتمبر حتى 7 أكتوبر 1973، كان يفعل كل ما فى وسعه.
لكن مشكلة السادات الكبرى أنه جاء بعد شخصية تاريخية فى حجم جمال عبد الناصر، والصدمة الأساسية كانت بعد مقالة كتبته بعنوان" عبد الناصر ليس أسطورة"، قلت فيها إن غيابه جعل من الصعب على غيره أن يتحمل مسئولياته، ومن ثم فالبديل هو إعادة تنظيم الخطوط وتدعيمها.
كان هناك صراع سلطة، نعم.
المشكلة أن البعض أراد استعمال ميراث جمال عبد الناصر ليكون قيدا على السادات يمنعه من الحركة، وللإنصاف فإن ذلك كان من أسباب هروب السادات مما يمكن أن يفرض عليه باسم مرحلة معينة، لكن كان عليه أن يفعل ذلك لفترة ما حتى يتأكد أن الأمور استقامت، و"مايسوقش" فيها كما فعل.
اقترحت عليه دراسة متغيرات العصر وقدمنا ورقة المتغيرات.
كان على الناس أن تعلم أن أشياء كثيرة تغيرت، وأنه حتى لو كان عبد الناصر موجودا لاستجاب لهذه التغيرات، والتى كان بعضها مؤجلا إلى ما بعد حرب التحرير.
كان لابد من إعادة النظر فى أمور كثيرة بعضها مؤجلا إلى ما بعد حرب التحرير.
كان لابد من إعادة النظر فى أمور كثيرة، وهذا ليس عيبا، لكن بشرط ألا يضر التغيير بميراثك، ولا يبدد تراكم خبراتك.
(17)
لم يكن ما بينى وبين السادات أمرا عابرا، لكن المواقف فرقت بيننا.
أثناء تقبل العزاء بشقيق سيد مرعى، وقف السادات يتقبل التعازى باعتباره واحدا من أفراد العائلة، انسحبت أنا ولم أقدم تعزيتى، لأننى لا أريد أن أصافح اليد التى صافحت بيجين.
لكن هذا لم يمنع أن يكون بينى وبينه ما اعتبره مخزون ذكريات لا ينفد.
مرة كنا فى برقاش وكان السادات وسيد مرعى وعائلاتنا، وقدم السادات منشورا موقعا باسم " ناصريون هيكليون" وكان ذلك بعد سنة من أحداث مايو، وقدم السادات الذى كان جالسا تحت شجرة أكاسيا – المنشور لى قائلا: شفت الكلام ده يا محمد.
قلت: إيه الكلام ده؟
قال: دول ناس بيقولوا إن أكتر واحد يقدر يكمل بعد عبد الناصر هو هيكل.
قلت له: ده شغل مباحث.
ومرة سألنى عندما كانت ابنته نهى تستعد للزواج من حسن مرعى: يروحوا فين يا محمد؟
اقترحت بحيرة "خوش" فى النمسا، وهى قلعة حولها فندق والبحيرة جميلة، وكنت قد زرتها وأعرفها فعلا.
ذهب العروسان وعادا وقالا: إن المكان جميل جدا، لكن المشكلة أنه " مفيهوش حياة"... طبعا شباب يريد الإنطلاق.
وأتذكر أن السادات ذهب للبحيرة فى النمسا وصار يتردد عليها صيفا، وأظن أنه أعاد إليها جزءا من مجدها الغابر بذهابه إليها.
(18)
تأثرت وبكيت عندما تلقيت خبر إغتيال السادات، كان عندى ضعف إنسانى شديد تجاهه.
لقد خضنا معا أحداث مايو وأكتوبر، واختلفنا فى قضية سياسية، وقد اقترح أن أكون مستشارا ونائب رئيس وزراء ورئيس ديوانه، لكننى اعتذرت ولم أجد فى أى من ذلك دورى أو نفسى.
سالت الدموع فى عينى وشاهدى على ذلك مأمور سجن طره العقيد محمود الغنام وضابط المباحث العقيد صلاح شلبى، لقد أبلغانى نبا إغتيال السادات بقصد معرفة رد الفعل.
قلت لهما: كيف تم ذلك؟
قالا: كان هذا فى العرض العسكرى.
فى هذه اللحظة لم أستطع أن أذكر إلا أنه كان صديقا.
لقد كان صديقا لى منذ فترة طويلة وإذا بالدموع فى عينى.
لقد عشت معه عشرين عاما كأصدقاء وابنى حسن أصغر أبنائى، أنا أعرف كيف كان ضعف أنور السادات تجاهه، كنا نتبادل الزيارات، أولاده كلهم يقولون لى: يا عمى.
نهى زوجة حسن ابن المهندس سيد مرعى أنا الذى قمت بخطبتها عندما طلب منى سيد مرعى ذلك قلت لحرم الرئيس إن سيد يريد نهى لابنه، وقالت لى كلم الرئيس فى هذه الخطبة.
بعد أن أفرج عنى من السجن ضمن من أفرج عنهم فى الدفعة الأولى من المحتجزين، لقيت السيدة الكريمة أرملة الرئيس الراحل أنور السادات معزيا ومواسيا.
لقد اختلفت معه سياسيا، لكننى حاولت بكل جهدى أن أعزل ما هو سياسى عما هو إنسانى، هكذا ظلت عاطفتى تجاه أسرته بمنأى عن أى خلاف.
ظلت هناك مزايا كثيرة فى قرينته بينها الذكاء اللامع، أقدرها بدون تحفظ، وظلت بينى وبين بناته الثلاث وابنه الوحيد منها، وهم كل من عرفت عن قرب من أسرته، علاقة ود لم أنكره فى يوم من الأيام.
حين لقيت السيدة الكريمة أرملة الرئيس الراحل أنور السادات تفضلت فطلبت منى فى نهاية لقاء طال أكثر من ساعتين طلبا واحدا، ظلت فى أذنى نبرته الرقيقة والواعية: محمد... إنك لن تهاجم أنور؟
وقلت لها بصدق وصراحة: إننى لم أهاجمه على الإطلاق، إننى اختلفت مع سياسات ولم أختلف مع شخص، ولك أن تثقى أننى لن أقول عن هذه السياسات فى غياب صاحبها غير ما كنت أقوله عنها فى حضوره.
وأضفت: أخشى أن الهجوم سوف يأتى، ولن يكون من جانبى ولكن من جانب آخرين.
ولم أزد حرفا، وكانت الصحف وقتها ملأى تلميحا وتصريحا بغمزات وصلت إلى حد التشكيك فى السلامة النفسية والعقلية للرئيس الراحل.
(19)
أكبر فشل صحفى فى حياتى هو عدم معرفة سر ضيق الرئيس السادات بى إلى هذا الحد.
أنا أعتبر نفسى صحفى " مش بطال"، وأعتقد أننى مخبر صحفى قبل أى شئ آخر، لكن هذه القصة لم أستطع استجلاء غوامضها، أتصور أننى لعبت دورا مهما فى انتقال سهل للسلطة إلى السادات فى العام 1971، وأدعى أنه استجاب لكامل اقتراحاتى ربما لأنه لم يكن أمامه غيرها، ولكنى قلت له ما قلته وأنا متجرد من كل الأطراف الذين كانوا حوله.
ما الذى أغضبه إلى هذه الدرجة؟
كان هذا فعليا هو الشئ الوحيد الذى فشلت فى الوصول إليه".