الجمعة 17 مايو 2024

الشعراوي من دقادوس إلى الوزارة

كنوزنا3-11-2020 | 17:34

 بدأ حياته فى قرية دقادوس بمركز ميت غمر دقهلية.. ولد فى 15 مارس عام 1911 وسط أسرة ريفية محبة للخير، وكان الوالد يسعى لأن يجعل ابنه من أبناء الأزهر، ونشأ منذ طفولته على سماع القرآن من المصلين مع الساعات الأولى من الصباح وحتى ما بعد العشاء، فكانت أولى خطواته إلى المسجد وأولى كلماته "الله أكبر"

ومع كل صباح يستيقظ من نومه على صوت الأب وهو يدعو الله، وكان له دعاء خاص مما حفظه عن السلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يكرر ما يسمعه رغم صغر سنه.

 يقول الشيخ الشعراوى: 

"كان أبى يمسك بكتفى وأنا طفل ويهزنى ويقول:

يا واد  يا أمين ـ كانوا ينادونى باسم أمين ـ اتشعلق فى ربنا وضع رجليك فى أى مكان. ثم ارسلنى والدى إلى كتَّاب الشيخ أحمد الطويل، وكان يمتاز بالصرامة والجدية وكان قدوة لنا جميعا فى السلوك والمعاملة، فكان  

يتفقدنا مع كل صلاة، فإذا تخلف أحدنا عن أدائها سأل عنه ونصحه بالانتظام فى أداء الفروض".

حفظ القرآن وهو فى العاشرة فانضبط السلوك فى كل شىء ويقول:

"غاب سيدنا وغاب "عريف" الكتاب وهو أكبر التلاميذ وأكثرهم حفظاً للقرآن فجلست مكان سيدنا فبدأت فى قراءة سورة "الشورى" وحضر سيدنا وأمرنى  أن أجلس مكانه واستمر فى القراءة وقرأت "حم" صحيحة ولما أردت أن أكمل "عسق" قرأتها بطريقة التهجى "ع س ق" وإذا بسيدنا يضربنى وأخذ يشرح لى كيف أقرأها صحيحة.

وهنا أدركت أن كتاب الله لا يتجزأ وأنه لا يجرؤ على قراءته أحد إلا بعد تصحيحه عن طريق شيخ مشهود له بالعلم ومعرفة أحكام القرآن"

كان أول ما قرأت بعد القرآن مجموعة من الكتب المتنوعة من كتب التراث غيرت مجرى حياته وهى "شرح نهج البلاغة ـ  مجمع الأمثال للميدانى ـ  العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسى ـ المزهر فى علوم اللغة وأنواعها  للسيوطى ـ الأخلاق عند الغزالى للدكتور زكى مبارك ـ  مؤلفات المنفلوطى  وترجماته"

الأب محب للعلم ومصاحباً للعلماء وكان يخدم كل واحد متصل بالعلم، وتحدث الشيخ متولى الشعراوى طويلاً عن والده وعن حبه للعلم والعلماء ويقول: يشهد الله أننى أخذت من معلمى 10 فى المائة وأخذت من أبى  الرجل الأمى 90 فى المائة من ثقافتى.


دقادوس.. التاريخ والدور: 

 دقادوس هى القرية التى ولد فيها وعاش طفولته وصباه وشطراً من شبابه وظل مرتبطاً بها رغم تنقلاته الكثيرة وتجواله وسفرياته وكانت هى مثواه الأخير بعد رحلة ومسيرة لها تاريخ مشرف فى الدعوة الإسلامية.

دقادوس كانت الجذور وفيها الأب والأم والأخوة والأحباب وظلت لهجتها  هى لغته وطريقة كلامه التى تميزه عن غيره. 

كان والده فلاحاً بسيطاً لكنه أراد أن يجعل ابنه عالماً فى الدين، وخاصة بعد أن استشف نبوغه، بينما لم يكن الابن ـ الشعراوى ـ يريد أن يثقل كاهل أبيه بالنفقات فعرض عليه أن يعمل معه فى فلاحة الأرض، لكن والده رفض وأصر أن يكمل تعليمه فى المعهد الأزهرى بمدينة الزقازيق القريبة من قريته بعد أن أتم حفظ القرآن.

أخذ ينهل من كتب الفقه والعقيدة والشريعة ولم يكن يكتفى بالكتب الدراسية المقررة عليه، لكنه يقرأ كل ما يقع تحت يداه من كتب أشهر دعاة القرن العشرين.

كان الجد حافظاً لكتاب الله وكان لقب الشيخ أمين يطلقونه فى قرية دقادوس على حفظة القرآن الكريم.

والشعراوى هو الابن الأكبر لأربعة أشقاء هم "السيد وإبراهيم والحسينى"

عاش الشعراوى يتغنى بقريته ويقول عنها: 

دقادوس يا أم القرى أنت حرة 

وماضيك مشهود وأهلك سيد 

وقادتك الأبرار فيهم رجاحة  

وفتيتك الأحرار فيهم تجلد 

ويمضى فى حديثه عن قريته:

دقادوس تحريف لاسم دقلديانوس وكان حاكماً من حكام الرومان وكان له قصر فى القرية على النيل وكان القصر عبارة عن استراحة وقيل إن اسمها الرومى هو "اتوكوتوس" واسمها القبطى توكادوس واسمها العربى دقدوس ووردت فى كتاب "نزهة المشتاق" باسم دقدوس وفى معجم البلدان أيضا وصارت على اللسان "دقادوس" وتكلم عنها المؤرخ الجبرتى وقال إن منها الشيخ أحمد الدقدوسى الذى كان ماهراً فى صناعة تجليد الكتب وتذهيبها" 

حبه لقريته لم ينقطع فقد كتب الأناشيد والقصائد وتغنى بالصيادين والمراكبية  والحدادين والأرض والفلاح، وفى فترة صباه تأثر ببيرم التونسى وأزجاله وسجل حكاية "الواد حماده ابن هنومة" التى صارت حديث الناس فى القرية فقال: 

الواد حماده ابن هنومة صبى حداد 

الصنعة قاسية أوى بس الولد سداد 

كبر حماده بشباب فتح عليه العين 

قطعت عليه السبيل واحدة من النسوين 

وفى ليلة ضلمة شتا كان ماشى فى الزنقة 

 هجمت عليه تحتضنه يا فاكك الزنقة 

فلفص حمادة وقال يا رب يا ستار 

أنا أصلى حداد وعايش فى وسط الناس 

ويذكر الشيخ أن القصيدة طويلة وهى تمتدح حماده لأنه لم يضعف وحافظ على استقامته، وحماده كان يعمل عند الأسطى إبراهيم صانع المدفع الذى كان يضربه الشيخ فى رمضان وهوصبى صغير فكتب له  قصيدة زجل من باب التحية وقال فيها: 

 يا أبوإبراهيم طريقتك تفرح حزين البال 

الريشة فى المطرقة والعود فى السندال 

وايدك بتعمل عجايب من عجينة نار  

يا رب صلى على داود وعلى المختار 

وكتب للصيادين والمراكبية فكان هناك صياد سمك أسمر البشرة اسمه "خير الله" وكان رجلاً طيباً وأراد الشيخ أن يكرم الصيادين فى شخصه فكتب يقول:

خير الله فى مسك سواده لمعة أبنوس 

من حسن تقواه خللا له هيبة فى دقادوس 

صياد سمك بالشبك يرميه يقول يا رب 

حط السمك فى الشبك من غير سبب يا رب 

لا فيها طعم ولا معجون ولا حاجة 

إلا ضمانك لأرزاق العباد يا رب  

وللصيادين قال: 

 يا مركبية... يا مركبية 

يا مركبية.. هيا.. هيا 

احنا صبيان نوح.. 

نروح مطرح ما نروح.. 

والكون كله أوطان ... 

إن سكن الريح.. ولا فيش تيار.. 

والله ما نحتار.. والله ما نحتار.. 

ادانا ربنا عافية ابدان.. 

 ياللا يا شبان.. شدوا اللبان.. 

البر امان.. والبحر أمان.. 

ولما نرسى فى المينا.. 

نفرح بفرحة أهالينا.. 

وكلنا نمد ايدينا.. 

 ونقول له شكراً يا رحمن..

 شكراً.. شكراً.. يا رحمن 

وكتب فى عام 1932عن الأرض التى هى العرض والوطن فقال: 

يا أمى الأرض

أنت العرض  

حمايتك فرض  يا أمى الأرض 

خرج من قريته ليكمل تعليمه بالزقازيق، لكن ظلت قريته فى وجدانه وعقله  والتحق بمعهد الزقازيق الابتدائى ثم الثانوى ثم التحق بكلية اللغة العربية ليتخرج فيها عام 1941 وحصل على العالمية مع إجازة التدريس عام 1944.

كانت مرحلة الدراسة بالنسبة للشيخ الشعراوى من أهم وأخطر مراحل حياته  فقد كان فيها شاعراً وثورياً، وخلالها تم القبض عليه وإيداعه فى السجن بتهمة "العيب فى الذات الملكية" وخلالها رأس اتحاد طلاب الأزهر فى المرحلتين الثانوية والجامعية وخلال مرحلة الدراسة تم زواج الشيخ الشعراوى من بنت خال والده ويقول:

"كان اختياراً طيباً ولم تتعبنى فى حياتى وأنجبت لى ثلاثة أولاد وبنتين".

ويؤكد الشيخ عندما يسأل على أهمية اختيار الزوجة، أن أول عوامل نجاح  الزواج هو الاختيار والقبول من الطرفين، وقد حثنا الإسلام على التكافؤ بين الزوجين وليس معنى التكافؤ أن يكون التكافؤ فى المال وإنما التكافؤ فى جوهر الأشياء لا فى أعراضها.

التكافؤ الصحى والتكافؤ الخلقى والقيمى، والإسلام وضع هذه المسألة نصب  عينيه قبل أن يبدأ ظهور الأبناء لأنه يريد أن يضمن للوليد وعاءً صالحاً وهذا الوعاء الصالح سيحمل بقانون الوراثة صفات أبوية وهذه الصفات التى ستكون محور التربية فيما بعد، ولذلك يقول رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-  "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس"

ونعود لهجاء الشعراوى للملك وهو طالب ورئيس اتحاد الطلاب وكان وفدياً  وقال قصيدة جاء فيها:

ما منطقى لك والحقيقة تحجل...

قد جدت الدنيا وشعبك يهزل

مصر ألا سيفه بح منها صوتها... 

وتؤمل الأتى فيقسو المقبل

وارحمتا للمستجير بجائر... 

والزافز الشكوى لمن لا يعدل

واعتبرت هذه الأبيات عيباً فى الذات الملكية وصدر أمر بالقبض على الشعراوى وبعض زملائه بتهمة تحريض الطلاب الأزهريين على الثورة ضد المحتل، وفى طريقه لتسليم نفسه للمباحث كتب قصيدة قال فيها..:

سر بى إلى السجن واذهب بى إلى الهون 

فإننى لمصيرى غير محزون 

فما اعتقلت لجرم نال من شرفى  

لكننى بالمعالى جد مفتون

فى ثورة الحق والإجماع زينها 

وثورة الحق لا ترضى بمغبون 

يسير مثلى لبيت جاء ساكنه 

كبائر الإثم بالأوغاد مشحون 

فهل تسوى بهم نفس لها أمل 

شتان ما بين غبان ومغبون.. 

التقى خلال المرحلة الدراسية بكل من سعد زغلول ومصطفى النحاس باشا  وكان وفدياً ومحباً للنحاس باشا.

وبعد التخرج اشتغل مدرساً بالمعاهد الدينية فى طنطا والزقازيق والإسكندرية لمدة سبع سنوات ثم أعير إلى المملكة العربية السعودية فى عام 1950 وقضى بها ثلاث عشرة سنة فى تدريس العلوم الدينية، ثم عاد إلى مصر عام 1963 وشغل وظيفة سكرتير لشيخ الأزهر لمدة عام واحد، ثم أعير بعد ذلك ضمن بعثة الأزهر إلى الجزائر وقضى بها ستة أعوام من 1964 

إلى 1970 عاد بعدها إلى مصر حيث قضى عامين شغل خلالهما وظيفة مدير أوقاف محافظة الغربية، ثم وظيفة وكيل الجامع الأزهر، وأعير للسعودية مرة أخرى عام 1972 وظل بها حتى أحيل إلى المعاش ببلوغه سن  الخامسة والستين فى 15 أبريل  سنة 1976.

وتم استدعاؤه من السعودية ليشغل كرسى الوزارة كوزير للأوقاف فى وزارة ممدوح سالم فيما بين 76 ــ1978 

ثم ترك الوزارة ليتفرغ لمهامه الكبرى فى الدعوة الإسلامية واستمر قائماً بهذه المهمة الكبرى متفرغاً لها لأكثر من عشرين عاما حتى وافته المنية فى 16 يونيو 1998 عن عمر 87 عاما.


نقلا عن مجلة المصور