الأحد 2 يونيو 2024

مغامرات دبلوماسي مصري في تل أبيب

فن3-11-2020 | 21:21

-         كثير من رجال الخارجية رفضوا العمل في إسرائيل.

-         رفعت الأنصاري يخترق معلومات الجيش الإسرائيلي ويعرف أسرار غزو لبنان، قبل وقوعه.

-         السفير سعد مرتضى أول سفير مصري في إسرائيل.

 

لو صدر هذا الكتاب، قبل عشرين عامًا، لكان الأعلى توزيعًا في مصر والعالم العربي، وتحول مؤلفه وبطله السفير رفعت الأنصاري شخصية أسطورية في الوعي العام مثل رأفت الهجان "رفعت الجمال"، وجمعة الشوان ابن السويس، لكن ظروف عمل الأنصاري بالخارجية جعلته يتكتم الأمر إلى أن ترك الخارجية في سنة 2009، حيث أحيل إلى "المعاش" أو التقاعد، كما يقال.

عمل الأنصاري في شبابه بالسفارة المصرية في تل أبيب "سكرتيرًا ثانيًا" وكان السفير المصري وقتها المرحوم سعد مرتضى، أول سفير مصري هناك، وكان معه محمد بسيوني في موقع نائب السفير، وهو الذي خلف سعد، فيما بعد، وكان وزير الخارجية الفريق كمال حسن علي، وكان نائبًا لرئيس الوزراء أيضًا، لم يخدم الأنصاري طويلاً بالسفارة، كان من المقرر أن يعمل أربع سنوات، لكنه عمليًا لم يكمل عامًا واضطرت مصر إلى سحبه من هناك، بعد أقل من عشرة أشهر، وحول تلك الشهور يدور هذا الكتاب "حكايتي في تل أبيب.. أسرار دبلوماسي مصري" الذي أصدرته الدار المصرية اللبنانية، ويقع في 384 صفحة وفرد مجموعة من الصور للمؤلف داخل إسرائيل.

عمل الأنصاري بالخارجية سنة 1974، وترك عمله في شركة مصر للبترول، والتي التحق بها فور تخرجه سنة 1970، وكان قرر أن يهاجر بعد التخرج وبالفعل حاول ذلك بالنسبة للولايات المتحدة وجاءته الموافقة، وكان عليه أن يشرع في ذلك يوم 28 سبتمبر 1970، وجاءت وفاة عبد الناصر المفاجئة وحزن والده بسبب الهجرة لتدفعه للبقاء في مصر، ولذا وجد سنة 74 العمل بالخارجية بديلاً عن الهجرة، إذ إنه سيعمل خارج مصر... وبالفعل بدأ العمل في جينيف ثم باريس وبعدها لندن... وكان الزمن دار دورته، إذ سافر الرئيس السادات إلى القدس وبدأ إجراءات السلام مع إسرائيل، في لندن بدأ هو يتابع بمبادرة فردية منه النشاط الصهيوني هناك، وكذلك النشاط الإسرائيلي وأخذ يرسل تقاريره إلى القاهرة والتي لفتت انتباه كمال حسن علي وزير الخارجية، ثم كان أن نقل إلى مقر الوزرارة بالقاهرة ليعمل في إدارة التطبيع والحكم الذاتي التابعة لمكتب كمال حسن علي شخصيًا، كان ذلك في إبريل 1980، وبعدها طلب السفير سعد مرتضى أول سفير مصري في إسرائيل الاستعانة به ضمن طاقم السفارة، وفاتحه في ذلك، فرحب بالانتقال إلى تل أبيب، الأمر الذي أذهل مرتضى بسبب ما يصفه الأنصاري "رفض أو تردد معظم الدبلوماسيين للعمل في إسرائيل، سواء لتخوفهم من ظروف العمل، أو لسيطرة الحاجز النفسي على قدرتهم في الانتقال، أو لرفض الزوجة والعائلة للذهاب، أو بسبب التخوف من الضغوط النفسية التي بدأنا نسمع أن العديد من دبلوماسيين يتعرضون لها في أثناء عملهم هناك مع إحساسهم بعدم الأمان"، المهم بعد تلكؤ بيروقراطي سافر إلى إسرائيل، وساءت علاقته تمامًا بزوجته بسبب ذلك، إذ كانت ترفض سفره واعتبرت موافقته إصرارًا منه على معاندتها ومغاضبتها.

كتب السفير سعد مرتضى تجربته في إسرائيل، ومن خلالها نعرف أنه عمل سفيرًا هناك، مؤمنًا بعملية السلام بين مصر وإسرائيل وراغبًا في دفع العلاقات بين الدولتين إلى الأمام ولديه فضول معرفي لفهم المجتمع الإسرائيلي، أما رفعت الأنصاري فذهب بقناعة أخرى، وهي أنه يقوم بمغامرة أو يجب أن تكون كذلك، وكان واعيًا تمامًا أنه يغامر وراغبًا في ذلك، خوض المغامرة هو الأساس عنده، وضح هذا من الطريقة التي دخل بها إسرائيل، إذ سافر بالسيارة، رغم أنه كان مفروضا أن يسافر بالطائرة، ورغم خطورة الطريق، لكنه فعلها، ثم إنه سافر ودخل إسرائيل بسيارة تحمل لوحة جمرك "العراق – بغداد"، ولك أن تتخيل سيارة تجوب شوارع تل أبيب تحمل هذه اللافتة سنة 1980.

لم يتصرف الدبلوماسي الشاب بحذر، بل اندفع داخل المجتمع الإسرائيلي، يلتقي اليهود المصريين هناك، وكذلك اليهود المغاربة واللبنانيين ويقيم معهم علاقات طيبة، ويتعرف على إسرائيليين وإسرائيلييات، ولا يتردد في العلاقات الحميمة مع بعضهم، ولديه موهبة جبارة في التقاط المعلومة ويمتلك مهارة أخرى في الربط بين المعلومة والوصول إلى استنتاجات محددة، ولا يخفى إعجابه في بعض المواقف بالمجتمع الإسرائيلي والتنظيم والانضباط الشديدين به، وقدرة إسرائيل على الاستفادة وتوظيف الإمكانيات المتاحة أمامهم.

اهتمامه بالمعلومة جعله يذكر للقارئ الأفكار التي تلقاها في وزارة الخارجية، تحديدًا منها ما يتعلق بالجوانب الأمنية والأجهزة المعلوماتية والمخابراتية هناك، ودور كل جهاز واختصاصه، ويذكر بعض العمليات التي نجحوا فيها بخصوصنا، مثل نجاح الموساد في تجنيد طيار عراقي هرب بطائرته الميج 21 في إسرائيل، وكانت تلك الطائرة هدية إسرائيل للولايات المتحدة ودول الغرب لتكشف الأسرار العسكرية السوفييتية، كما يذكر حالة النقيب طيار عباس حلمي وهو مصري هرب بطائرة روسية صغيرة إلى إسرائيل (طائرة نقل) وأمكن للمخابرات المصرية استعادته في نهاية الأمر، حيث حوكم في القاهرة بتهمة الخيانة العظمى.

يقدم الأنصاري في كتابه معلومات مدققة عن حجم الاتصالات والاختراقات الإسرائيلية لجنوب لبنان، مع ما كان يسمى جيش لبنان الحر، وقد أتيح له أن يزور منطقة الجنوب اللبناني، حيث تبين له أن إسرائيل تقدم لذلك الجيش حتى ملابسهم العسكرية، ما يحكيه بات في ذمة التاريخ الآن، والكثير منه صار معروفًا، وسوف تجد أن كثيراً من المعلومات عن إسرائيل حصل عليها عبر مجموعة من السيدات تعرف عليهن، إسرائيليات يعملن بالجيش الإسرائيلي، ودبلوماسية بالسفارة الإنجليزية هي "رونا" التي أمدته بالكثير من المعلومات عن المجتمع الإسرائيلي، فضلاً عن المعلومات التي تصل إليها بحكم عملها في السفارة الإنجليزية في تل أبيب، وبسبب ذلك اتهمت بالجاسوسية لصالح مصر وأبعدت وحوكمت في لندن، وكانت رونا تحبه بعمق والواقع أنه أحبها، لكن حبه لمغامرته كان أكبر، وهي كانت جزءًا من تلك المغامرة.

مع المعلومات التي جمعها أمكن له تحديد موعد اجتياح إسرائيل للبنان، التوقيت وحجم العملية، وأرسلت التفاصيل إلى القاهرة، وكان من المقرر أن تكون العملية في فبراير 1982، مما مكن القاهرة أن تضغط على إسرائيل، عبر الولايات المتحدة وغيرها لإيقاف العملية، فعليًا تأجيلها، وعرفت إسرائيل بوسائلها أنه هو من اكتشف ذلك، لذا جرت محاولة لتهويشه وتخويفه، فلم يخف، وجرت محاولتان لاغتياله، الأمر الذي دفع القاهرة أن تقوم بتهريبه من إسرائيل وإعادته إلى القاهرة، وكتبت عنه عشرات المقالات في الصحف الإسرائيلية باعتباره رجل مخابرات في زي دبلوماسي.

ويحرص في كتابه على أن ينفي أي علاقة أو تكليف له بما قام به من المخابرات العامة، وأنه فعل ذلك بجهده وتقديره الخاص، لكنه يؤكد أنه كان صديقًا طوال فترة عمله للأجهزة الأمنية، أو لم يكن لديه حساسية في التعامل معها.

الكتاب مليء بالمعلومات عن المجتمع الإسرائيلي، من بينها أن اليهود المصريين لم يخدموا أبدًا في الجيش الإسرائيلي على الجبهة المصرية، وأن اليهود الليبيين طلبوا كذلك ألا يخدموا في الجبهة المصرية، لأنهم لا يحتملون نفسيًا أن يقاتلوا مصر، لأنهم يحملون لها ذكريات طيبة، بينما كان اليهود السوريون والعراقيون يحاربون في الجولان؛ لأنهم خرجوا من هناك بعد اضطهاد وتمييز.

كثير من المصريين لديهم حساسية ورفض لزيارة إسرائيل أو التعامل معها، ولم يكن لدى الأنصاري تلك الحساسية، بل كانت لديه رغبة لاختراق إسرائيل من داخلها، لذا تجده – مثلاً – يدعو شقيقه المقيم في الولايات المتحدة لقضاء إجازته في إسرائيل، بين القدس وتل أبيب، ويحرص على توفير كل المتع له فيها.

تجربة الدبلوماسي المصري في إسرائيل تضعنا أمام المصاعب التي قابلها الدبلوماسيون المصريون في إسرائيل، صحيح أنهم هناك عوملوا بترحاب رسمي شديد، وفتح أمامهم أبواب المجتمع الإسرائيلي كافة، بعكس الدبلوماسيين الإسرائيليين في القاهرة، لكن أن تذهب إلى مكان تدرك أنك مرصود في كل تفاصيل حياتك، صوتًا وصورة، ثم تقدم على الحياة وعلى المغامرة متجاهلاً أو متناسيًا ذلك كله، فهذا ما فعله الأنصاري، لكن ماذا عن الآخرين، كيف تعاملوا أو عاشوا هناك، هذا ما لا نعرفه إلى اليوم.

التجربة – الكتاب، يثير عدة تساؤلات أهمها ما يتعلق بالتماس أو التداخل بين ما هو دبلوماسي ومخابراتي، وذلك ناتج عن أن كلاً منهما يعمل في مجال جمع ورصد بعض المعلومات وتحليلها، ثم الوصول إلى النتائج المتوقعة، ومن يقرأ مذكرات أو تجارب بعض الدبلوماسيين من مصريين أو أجانب يدرك قوة هذا التداخل، والخطورة أن يترتب عليه بعض الخلط في الجانبين أحيانًا.

من بين التساؤلات أيضًا ما يتعلق بموقف إسرائيل، ترى هل تركت إسرائيل الأنصاري يقوم بما قام به وهي تتابعه وتدرك ذلك، لعلها أرادت لمصر أن تعرف ما تخطط له وتختبر رد فعلها أو ليصل الأمر إلى الأطراف المعنية فلا يفاجئون.

ترى هل تركته عمدًا، وربما ألقت في طريقه بعض الأطراف لتستفيد بذلك في الوقت المناسب، والدليل أنه لم تتم أي مساءلة للضابطتين بالجيش الإسرائيلي اللتين استقى منهما بعض المعلومات، ولا أظن أن إسرائيل كانت ستترك ضابطتين في موقع حساس بالجيش الإسرائيلي، تقيمات علاقة كاملة مع دبلوماسي مصري في شقته دون أي متابعة.

الوقت المناسب رأته إسرائيل، كما روى له الدبلوماسي حسن عيسى، قنصل مصر في إيلات وقتها، حيث ضبطت أجهزة الأمن المصرية مسئولاً بالسفارة الإسرائيلية هنا، يتجسس، وكانت القضية جاهزة للإعلان وإحالة الأمر إلى النائب العام، فاستبقت إسرائيل وفجرت قضية رفعت الأنصاري، الأمر الذي جعل مصري تحجم عن إثارة القضية التي في حوزتها.