الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

فن

ننشر الفصل الثالث من رواية آخر رجال الحسين لـ"أحمد صوان"

  • 4-11-2020 | 12:17

طباعة

"ألهبت شمس الصحراء عينا عبد الرحمن فاستيقظ، بدا وكأنه تجاوز الضحى فردد سيد الاستغفار كما تعلمه من سيده، ثم نهض وتوضأ بشئ من قربته ووقف يُصلي بينما وضعه سيفه بجواره تحسبًا لأي قادم أو قاطع طريق. مع قرائته "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" تماثلت أمام ناظريه صورة يزيد بن معاوية، هزّ رأسه ليتوقف عن تفكيره وواصل صلاته في خشوع؛ وما كاد يختمها حتى سمع صهيل فرسه الأدهم فنظر ليجد رجلين يقتربان منه على متن فرسين شديدي البياض، أسرع يلتقط شال سيده الذي لا يُفارقه ورفع سيفه، لكن مع اقترابهما وجد أحدهما السامري، تعجب وكاد يُنزل السيف، لكن لازمه الحذر الذي طالما أنقذ حياته.

اقترب منه السامري والرجل الآخر الذي عرفه مُصاحبًا لابن يزيد من قبل فأشهر سيفه. توقف الرجلان في هدوء وخاطبه السامري "لا تخف يا عبد الرحمن فلن أؤذيك".

"أعهدتني أخاف إلا الله؟!"، قالها واقترب منهما فأشهر الآخر سيفه لكن السامري نظر إليه وهمس "لو قاتلته لهلكنا معًا"، أعاد الرجل سيفه واقترب السامري من عبد الرحمن بدوره "ما جئتك إلا مُحادثًا، ثمة رسالة أحملها إليك".

"رسالة!"، ردد قوله مُتعجبًا فأجابه "رسالة من الخليفة، يُريدك إلى جواره ولك حُسن المطاب ورغد العيش إن أردت، وإن لم تشاء فلا تؤنب المسلمين ضده". بدت كلماته وكأنها طعنة سيف ارتد لها عبد الرحمن إلى الخلف وهو يهمس "إذن فأنت الخائن".

"قلت لك لن ينج أحد فرفضت وسيدك الانصياع، فعلت ما يحفظ لي وأبنائي عيشًا كريمًا".

"أذبحت الحُسين مُقابل المال؟!"، صرخ بها فقال الآخر "لقد بايعنا يزيد فأحل لنا دم سيدك"؛ نظر له عبد الرحمن نظرة أرعبته فرجع خطوات بينما عاد يُدير نظره إلى السامري وأشهر سيفه "ضل سعيك في الدنيا والآخرة أيها البائس".

"جئتك في سلام يا رجل"، قالها السامري وهو يضع يده على مقبض سيفه وهو ينظر إلى رفيقه السابق الذي تحولت نظراته إلى وحش يستعد للفتك به "جئت لتضم خائنًا آخر إن وجدته، أقسمت أن أبقى مع سيدي وإن غدرتموه، لا عهد لك ولا رحمة طالما خنت حفيد رسول الله".

"يُريد يزيد أن يجعلك قائدًا لجيوش الغرب.. أفريقيا".

"والله وإن أراد وضعي مكانه لما رضيت إلا بأن أجز عنقه وأعناقكم جميعًا"، قالها ولوّح أمامه بالشال المخضب بالدماء "وحق هذه الدماء وصاحبها لأفعل بكم ما يُراد بالمفسدين في الأرض"، قارن قوله بالفعل، وقبل أن يُشهر أحدهما سيفه كان قد بتر رجل السامري الذي ترددت صراخاته في الصحراء، بينما أشهر رفيقه سيفه محاولًا الذوذ عن نفسه لكنه وجد ذراعه يُفارقه تعقبه رجله الأخرى "لولا أنني أريدكم عبرة لقطعت رؤوسكم بدورها"، قالها وهو يُطيح برجل السامري الذي كان يصرخ كالرضيع، ثم حملهما على ظهور الخيل وأحكم وثاقهما "عودا إلى يزيد ليرى ما ينتظره مني. قولا له أن خادم بيت رسول الله سيحصل على انتقامه كاملًا، وأن المسلمين سيرونه وإياكم مصلوبين وقد قُطِعت أيديكم وأرجلكم من خلاف جزاء خيانتكم لرسول الله وآله".

ضرب مؤخرات الخيل فانطلقت بقوة لا تلوى على شئ، مسح سيفه في قماش خيمته الصغيرة مُرددًا "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ". تحرك ليُلملم أغراضه في سرعة وقد نوى أن يقصد المدينة ليرى حال أهلها الذين سيصلهم خبر استشهاد الحُسين قبل وصوله، ويعرف ماذا ينوي رفاقه الذين تخلفو عن اللحاق به.

كان يقصد المدينة رغم أنها شهدت الخلاف الأول بين كبار الصحابة، منذ كان آل البيت يعملون على تجهيز الرسول وتغسيله تمهيدًا لدفن جثمانه الكريم، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- إمام الناس وقائدهم وهاديهم ، فلم يجرؤ أحد أن يقف موقفه وأن ينصب نفسه مكانه بعد وفاته وبغير إذنه، حتى أنهم كانوا يتساءلون أين سيتم دفنه، أفي البقيع، أم مع شهداء أحد، أم في مكة التي عشقها حتى النخاع، أم في مكان خاص به. كان المجتمعون في حيرة  حتى جاء أبو بكر الصديق وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك الرسول نفسه من قبل. اهتدوا ثم قاموا بالصلاة عليه فرادا لا يؤمهم أحد، لعِظَم أمر رسول الله، وتنافسهم في أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه واحد. كان الرحيل مُفاجئًا والأمر لا يزال غامضًا، ولا أحد يعرف من الذي سيتولى أمر هؤلاء الناس. استغرقت الصلاة يومًا ونهارًا، وأداها عشرون ألفًا من المسلمين رجالًا ونساء.

في ذلك اليوم، الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، اجتمع كثير من الأنصار، أوسهم وخزرجهم، في مسألة خلافته في سقيفة بني ساعدة، وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم المهمة؛ كان منهم سعد بن عبادة الخزرجي وبشير بن سعد والحباب بن المنذر وغيرهم. فعلوها بمعزل عن المهاجرين الذين انشغلوا في الحدث الجلل الذي هزّ أركان الدولة الناشئة؛ لكن رجلًا من المهاجرين عرف بالأمر فأسرع إلى بيت الرسول، وكان بداخله آنذاك أبو بكر وعمر وغيرهم، فنادى الرجل على عمر وقال "اخرج إليَّ يا ابن الخطاب"، لكنه كان في شرود فقال له "إليك عني فإنا عنك مشاغيل"، لكنه أصر  "هلّم يا رجل فالأمر جلل"، نظر عمر للواقفين حوله ثم خرج له مُستفهمًا إلحاحه "أهناك أمر أجلّ مما نحن فيه".

"حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرًأ". 

صمت عمر لحظات ثم ربت على كتفه وعاد مُسرعًا إلى الصديق وأخبره بالأمر وقال "انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار". بدأ كلاهما التحرك سريعًا وفي الطريق لقيا عوين بن ساعدة ومعن بن عدي ، كان أبا عبد الرحمن يصفهما بأنهما رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، وكانا ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وكل معارك النبي؛ فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا المكان "وليقض المهاجرون أمرهم فيما بينهم خشية حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار، قالها أحدهما لكن أبو بكر رفض الفكرة سريعًا "َأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ" وأخذ نفسًا عميقًا وتابع "هكذا نقل الحبيب الراحل إلى جوار ربه الأمر الإلهي، سوف نذهب".

مع مغيب الشمس تعالى صهيل الجواد الأدهم مُنذرًا فارسه بالتعب. ربت عبد الرحمن على عنقه، ثم أثقل عليه حتى انتقى موضعًا ليبيت فيه مع رحاله. أراح ركائبه وسقاها ثم طفق يتوضأ وجمع بين المغرب والعشاء قصرًا، بعدها استلقى على فرشه وعقد شال سيده حول رأسه، تأكد أن سيفه في متناوله ثم شرع في النظر إلى النجوم وذهنه يجتر حكاية والده عن ذلك الموقف العظيم.

وصل المهاجرون إلى السقيفة ليجدوا الأنصار قد اجتمعوا، على اختيار سعد بن عبادة زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهو رجل مريض، وبدأوا في استعراض مناقبهم وفضائلهم، فلما أراد عمر أن يرد عليهم، أسكته أبو بكر، ثم قال "ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. هم أوسط العرب نسبًا ودارًا".

كثر اللغط وعلت الأصوات، وطالب من الحضور باختيار أمير من المهاجرين وأمير من الأنصار، ثم تقدم وسطهم أبو عبيدة بن الجراح وأشار إلى الصديق "لا ينبغي لأحد بعد رسول الله أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار معه وثاني اثنين، وأمّرك رسول الله حيث اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر؟". 

صمتوا فتحدث عمر "ألستم تعلمون أن رسول الله قدّم أبا بكر للصلاة؟".

"بلى"، رددوها جميعًا فتابع "فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم مَن قدّمه رسول الله؟".

"لا أحد. معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر" عادوا يرددون القول بينهم؛ لكن أبو بكر لمح ترددهم فأسرع والتفت إلى ابن الخطاب "يا عمر.. ابسط يدك نبايع لك".

"أنت أفضل مني".

"أنت أقوى مني".

"فإن قوتي لك مع فضلك"، قالها عمر  ووثب آخذًا بيده في حسم واضح للمشكلة. لم يكد يتم بيعته حتى توالت على أبي بكر البيعة من سائر الحضور. 

ترددت أصوات المُبايعين في ذهنه وكأنه استحضرها من ذاكرة والده، بدأت عيناه تثقلان من طيلة تحديقه في النجوم فبدت له صور ضبابية وكأنها وجوه أولئك الذين أنهوا ذلك التساؤل الذي حسم مصير أصحاب الدولة الواعدة، دون أن يدري استغرق في نومه ليجد روحه تتجول في ذات الموضع الذي سمع فيه الحكاية أول مرة.

"وماذا حدث بعد ذلك يا أبي؟".

رأى عبد الرحمن نفسه ذلك الصغير الشغوف المتعلق بذراع والده وهما يجلسان ذات ظهيرة تحت ظلال نخلة تعهدها منذ مولده، يومها ابتسم أبوه ولامس لحيته التي كانت شابة في تلك اللحظة المفصلية من تاريخ المسلمين وواصل حكايته، قال إنه تخلف عن هذا اللقاء، فقد كان بجوار الذين كانوا مشغولين بتجهيز رسول الله للدفن من أهل بيته، العباس بن عبد المطلب عم الرسول، والزبير بن العوام ابن عمته وابن عمه الإمام علي، واللذان غضبا وقتذاك. لا يزال عبد الرحمن يتذكر نبرة والده وهو يروي "أشاع بعض الناس بعد ذلك أن كلاهما غضبا لأن عليًا يرى أنه الأحق بالخلافة، لكنه خرج إلى أصحابه وحسم قوله "ما غضبنا إلا لأنا أُخِرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي".

كان والده من الموجودين في اليوم الثاني حينما صعد أبو بكر المنبر، ووقف عمر يكلم الناس قبله ويقدمه إليهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه "أيها الناس قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا كانت عهدًا عهده إليّ رسول الله، ولكني كنت أراه سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا؛ ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يموت، حتى يدير هؤلاء الأخيار الأمور بدون رسول، فيكونون نبراسًا لمن بعدهم".

تعالت في المسجد أصوات بكاء على صاحب المنبر الذي تركهم إلى جوار ربه، لكنه تابع "وإن الله قد أبقى معكم كتاب الله الذي به هدي رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه"؛ فقام الناس جميعًا وبايعوا أبا بكر على الخلافة.

أفاق من غفوته على صوت فرسه فانتفض وامتدت يده تسحب الخنجر الملازم لفراشه، لكنه وجده يضرب بحافره في الرمال منذرًا بالشمس وقد بدأت رحلتها بالمشرق، هدأ وتعالى صوت لهاثه للحظات ثم نهض وتوضأ مستغفرًا ونصب للصلاة محاولًا السيطرة على شرود ذهنه حول ما ينتظر طريقه الطويل وما سيفعله بعد ذلك.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة