الجمعة 28 يونيو 2024

ننشر الفصل الرابع من رواية «آخر رجال الحسين» لـ أحمد صوان

فن5-11-2020 | 11:00

تنشر بوابة "الهلال اليوم"، الفصل الرابع من رواية "آخر رجال الحسين"، للكاتب الصحفي أحمد صوان.


"هدأت سنابك خيله مع الاقتراب من عقرباء، تعالى صهيل الأدهم من وعثاء السفر فتوقف ومال عليه وهمس "بربك، ها قد اقتربنا من اليمامة"، رددها وهو يداعب شعره الفاحم السواد لكن بد الفرس عنيدًا كمن يمتطيه، هزّ رأسه وعاد يضرب بحافره بينما تحولت لمسة عبد الرحمن إلى الضجر "لا تكن هكذا. قلت أمامنا المزيد".


"رفقًا به يا ولدي.. يبدو مُتعبًا".


ارتفع الصوت من جواره فأدر رأسه ليرى مُحدّثه، كان شيخًا طاعنًا في السن يمسك بزمام ناقة تحمل الكثير من قرب الماء ويبدو هو نفسه مُتعبًا، لكنه واصل الحديث "لا تكن كصاحب الجمل الذي اشتكى إلى رسول الله وذرفت عيناه من قسوة صاحبه". 


"يا عم.. طريقي طويل".


"ولكن حبيب الله قال إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأْمْرِ كُلِّهِ".


"أسمعتها منه؟"، سأله في فضول وهو ينزل عن صهوة جواده احترامًا، فأومأ الرجل برأسه مُجيبًا "أتيته وبايعته وحضرت أيامًا كانت منها حِجَته الأخيرة"، قالها وأحنى رأسه ودمعت عيناه "وأمد الله في عمري حتى شاهدت من خانوا عهده وقاتلوا رفاقه، حتى سمعت منذ أيام مقتل حفيده على يد خونة آخرين. أتصدق هذا يا ولدي؟".


على ذكر الحسين دمعت عينا عبد الرحمن هو الآخر وامتدت أصابعه لتقبض على شال سيده، لاحظ الشيخ انفعاله فأشار إليه "تعال يا ولدي. كُن ضيفي حتى ترتاح بهائمك"، أمسك عبد الرحمن لجام خيله وتبعه بلا نقاش، كان حب الرجل البادي لسيده الحسين، وشغفه هو بأن يتقصى أخبار السابقين من صحابة الرسول، هما ما دفعه ليقبل ضيافة الرجل، سار خلفه وهو يُفكر في هل يطمئن للرجل  ويُخبره أنه خادم الحفيد ورفيق معركته الأخيرة، أم يكتفي أن يعرف منه ما كانت فيه أحوال العباد وما صارت إليه.


"من أين وإلى أين؟"، سأله الشيخ بعدما أراح ناقته فأسرع يُساعده في إزالة حمولتها "أقصد المدينة ثم مكة لأرى أحوال الناس"، لم يبد على الرجل الارتياح من هذه الإجابة المُبهمة لكنه واصل فضوله "أأنت ابن إحداهما أم غريب كما يوحي صمتك واقتضاب حديثك؟".


"أنجبتني أمي في اليمامة".


"خضت هناك أول معاركي"، زفر بها الشيخ ثم اصطحبه إلى داخل خيمته وأراح جسده في عناء وهو يُشير إليه "خذ راحتك يا ولدي. لست سوى رجل وحيد ينتظر قضاء ربه، ربما أرسلك لتؤنسني بعض الوقت". جلس عبد الرحمن قريبًا من الرجل وخلع نعليه وجاذب الرجل أطراف الحديث "طالما كنت كذلك ربما صادفت أبي، كان خادمًا ومرافقًا للإمام عليّ بن أبي طالب".


"رحمه الله.. ما كان ليتصور أن يجرؤ معاوية وابنه على ما فعلا بولديه".


"لِمَ؟.. فقد قاتله معاوية حتى استباح دمه!!".


"لم تكن البدايات توحي بذلك يا ولدي، كانوا كلهم على قلب رجل واحد، التفوا حول أبي بكر بعد وفاة رسول الله وساندوه. كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم كما قال تعالى في مُحكم تنزيله".


"احك لي عن اليمامة"، قالها عبد الرحمن في رجاء فتبسم الرجل واعتدل وكأنما عاد إليه شبابه فجأة "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، ردد تلك الآية في خشوع ثم قال "وقتها كان وجود رسول الله هو ما يجمع العرب، فتمزق هذا الجمع بوفاته، حتى أن أغلب القبائل امتنعت عن دفع الزكاة، لكن الأخطر هو أولئك الذين ادعّوا النبوة، وكان أشدهم مسيلمة الكذاب الذي ظهر في حياة الرسول واشتدت أكاذيبه بعد رحيله، حتى أنه لمّا استقرت بيعة المسلمين لأبي بكر وأرسل الجيوش لإعادة الممتنعين عن الزكاة ومن ارتدوا على أعقابهم، كان الرجل قد جمع من بني حنيفة زهاء المائة ألف ممن انخدعوا بأكاذيبه، وكان خطرًا، حتى أنه أقنع امرأة ممن ادعوا النبوة، وكانت تُدعى سجاح، بالانضمام إليه في مواجهة خالد بن الوليد، والذي كان مُقاتلًا يخشى الجميع ذكره".


بدأ الشيخ يحكي، قال إنه في الوقت الذي توجه فيه خالد من المدينة لمحاربة مُسيلمة الكذاب كان جيش سجاح متجهًا من الشمال إلى بني حنيفة لقتالهم أيضًا، وكان تعداده يصل إلى مائة ألف "كان كلاهما يسعى لأن يحكم الدولة الفتية التي أنشأها رسول الله، لكن مُسيلمة الماكر جمع أربعين رجلاً من قومه وذهب ليتفاوض مع المرأة، فتبادلا الأكاذيب ثم قال لها: لو تزوجتك، فآكل بك العرب؟ فقالت: نعم. هكذا صار الجيشين قوة واحدة، وأعطاها مهرًا طريفًا جدًّا، فأرسل واحدًا من رجاله وقال له: اذهب إلى قبيلة بني تغلب قبيلة سجاح، وقل لهم إني وضعت عنكم صلاة العشاء وصلاة الفجر، فكان شَرّ مهر في التاريخ، ولم يسمع به من قبل، وكان من قبل قد أحل لهم الخمر والزنا".


اعتدل عبد الرحمن جالسًا في شغف وهو ينظر إلى الشيخ الذي بدت في عينيه نظرة فتية لا تتفق مع جسده الواهن "تذكر التفاصيل وكأنك كنت هناك يا عم!!"، اعتدل الشيخ بدوره "كنت واحدًا من كشافة جيش ابن الوليد، كنا نتقصى الأخبار ونطوف بين بني حنيفة، ويُخبر كُلًا منا الآخر بما سمع، حتى إذا مات أحدنا وصلت الحقيقة لجيش المسلمين".


"وماذا حدث؟".


"كان لأتباع مُسيلمة عددًا كبيرًا من الحصون، أكبرها يُطلق عليه اسم الحديقة، وكانت له أسوار عالية، وكان جيشه كبيرًا لا تستوعبه هذه الحديقة، فخرج بجيشه وعسكر خارج اليمامة هنا في عقرباء، وجهز جيشه، وبقى في المؤخرة ووضع خيمته على باب حصنه، حتى إذا حدثت هزيمة يدخل هو الحصن؛"