الأحد 29 سبتمبر 2024

عبروا فى حياتى.. أضواء وظلال طريق طويل.. من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية" لمحمد الباز

فن9-11-2020 | 15:09

تنشر بوابة "الهلال اليوم"، فصلا من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"، للكاتب الصحفي محمد الباز، الذي جاء تحت عنوان "عبروا فى حياتي.. أضواء وظلال طريق طويل" ونقرأ فيه:


عبروا فى حياتى.. أضواء وظلال طريق طويل

(1)

عندما سقطت طائرة الممثلة كاميليا يرحمها الله، ذهبنا أنا ومحمد يوسف نغطى الموضوع. 

استقبلنا هناك فى موقع الحادث، محمد نجيب كان قائد حرس الحدود قبل الثورة، وكان حريصا بل وطلب أن يظهر فى كل صورة، يوسف غضب جدا، وهمس لى أنه لا يستطيع أن ينجز عمله. 

 قلت له: خلصها له أمريكانى يا أخى وخلص نفسك، وبعدين لاحظ أن الرجل تعب وهو الذى سهل لنا الوصول، وسيسهل الخروج بالصور مرة ثانية. 

ومرة كنت عند محمد نجيب فى البيت، وهانزل عابدين، وكان عنده ميعاد استقبال طابور من السفراء الجدد الساعة التاسعة صباحا لأن المراسم الساعة 11، ظل يتلكع حتى التاسعة إلا عشرة، وفى الطريق طول السكة الناس تحييه على الجانبين، وهو يتوقف ويحيى الجماهير وأثناء التلويح للناس توقف فجأة والتفت نحوى، وقال: محمد لازم نرجع حالا. 

فقلت منزعجا: لماذا يا سيادة الرئيس؟ 

فقال: لأنى نسيت أن أحلق ذقنى. 

ورجع فعلا وفى البيت فتح الموسى وراح يحلق وهو يتكلم.

 قلت له لا تتكلم حتى لا تجرح نفسك، وبعد ضياع ساعة تأخرنا عن ميعاد السفراء، وبعد الحلاقة والكولونيا، عاد مرة أخرى يلوح للناس طول الطريق، وقائد الحرس شايط لأنه ضابط الميعاد والرئيس نجيب بطيبة شديدة يوقف السيارة كل عدة أمتار ليصافح الناس. 

(2)

فى 1954 طلب منى جمال عبد الناصر الذهاب إلى أحمد لطفى السيد وربما يكون قد أرسل له بواسطة أخرى، وأنا لست متأكدا من هذه النقطة، ولكنى أنا الذى ذهبت إليه برسالة من جمال عبد الناصر. 

عبد الناصر كان رأه بعد الثورة بأربعة أو خمسة أسابيع، وسمع منه وتكلم معه، وهو فى العموم كان مقلا فى الكلام مع من لا يعرفهم، وحتى إن أقدم على الكلام معهم لا يستطيع، ثم إن الذى كان يراه أمامه من الظواهر كان مختلفا عن حقيقة الأمور، علاوة على أنه كان قد كبر فى السن. 

ذهبت إليه فى بيته، وكان محمد نجيب على وشك الخروج من السلطة، ونقلت له اقتراح جمال عبد الناصر بأن يتولى رئاسة الجمهورية، ووجدته واضحا جدا.

 قال لى: كل واحد يتصدى لعمل عام ينبغى أن يبقى لتحمل مسئوليته، أنا رجل فى نهاية عمر، ليست عندى الصحة للدخول فى عمل جديد وتجربة جديدة تبدأ الآن بالكاد. 

وطلب منى أن أبلغ البكباشى جمال عبد الناصر ألا يتوارى وراء أحد بسبب سنه ومن أجل اسمه، أن يطلع ويظهر باسمه وبذاته وبصفاته للناس وأن يواجههم، وإن كان عندكم تصور أن الناس غير مستعدة لتقبل شاب فى سنه، أنا أقول لك أن الناس تتقبل شابا فى هذا السن جدا، شريطة أن يقول لهم ماذا يفعل وماذا سيفعل.

 لابد أن يظهر البكباشى جمال ظهورا علنيا ويتحمل مسئوليته. 

عدت إلى جمال عبد الناصر، وقلت له ما دار بيننا وانتهى الموضوع. 

(3)

أعتقد أن طه حسين كان مستعدا للمجئ إلى الأهرام لو فاتحته مبكرا، لكنه أولا كان قد ذهب إلى الجمهورية، كانت الأمور قد تقلبت به تقلبات شديدة، ذهب إلى الجمهورية، وأصبح رئيس تحريرها، مع أنه لم يكن يتابع العمل اليومى بسبب ظروفه، كان هذا ظلما له. 

لكن أعتقد أن طه حسين اكتشف أن ما سوف يكون مطلوبا منه فى الأهرام سيتعبه وقد لا يقدر عليه.

 فى الأهرام كنا نعزم الكثيرين على الغداء والعشاء، ونقابل أناسا ونحضر ندوات، ونتعرض لضيوف من الداخل ومن الخارج، ولوجوه من كل أنحاء الدنيا، وظروفه الصحية ودقة وضعه قد لا تمكنه من المشاركة فى هذا. 

ثم إن إحساس طه حسين بإنحيازى لتوفيق الحكيم كان يضايقه ويدفعه إلى الابتعاد. 

وقد يكون هذا ما دفع طه حسين إلى أن يقول أن وجود توفيق الحكيم فى الأهرام مثل شرابة الخرج، وقد سمعت أنه قال : إن الأهرام مثل المحمل فيه أشياء مقصبة ومذهبة تبدو للنظارين دون فائدة منها. 

كنت أعرفه جيدا قبل مرحلة الأهرام، وقد أمضيت ساعة ممتعة معه قبل أن يسافر إلى أوربا، إن الجو فى مكتبة الدكتور طه حسين غريب مثير،هى أشبه ما تكون بصومعة.. صومعة عقل. 

كان فى المكتبة مع طه حسين ضيفان اثنان من الآباء الدومنيكان، بملابس الرهبان السائحين فى الأرض يبحثان عن المعرفة حيثما يمكن أن يكون التاريخ قد نسيها فى طوافه حول الأرض. 

قال لى طه حسين: هل تحب أن تسمع شيئا ليس فيه أخبار وليس فيه سياسة. 

قلت بحماسة: جدا. 

قال: إذن فاجلس وشاركنا فى الحديث، وجلست ولكنى لم أشارك فى الحديث، لقد اكتفيت بالسماع. 

كان موضوع المناقشة هو الحب فى الدين الإسلامى والحب فى الدين المسيحى، وكانت المناقشة بمزيج عجيب من الفرنسية الفصحى والعربية الفصحى، فقد كان الأبوان الدومنيكان من المستشرقين أيضا، واستمعت فى شغف إلى طه حسين وهو يدلل كيف أن الإسلام اهتم بالقلب قدر اهتمامه بالعقل، ثم سمعته يقول إنه لا فرق بين الإسلام والمسيحية تجاه الحب. 

(4)

لم أسمح لنفسى فى أى لحظة لأى سبب أن استدعى أحدا من كبار الأدباء والمفكرين الذين احتواهم الدور السادس فى الأهرام إلى مكتبى فى الدور الرابع، انا الذى كنت أذهب إلى مكاتبهم محاورا عندما يتوافر عندى وقت... أردت توفير مناخ للإبداع بدون ضغوط أو شواغل أخرى وتركت القيمة تتجلى وفق ما يرى أصحابها. 

عندما جاءنى توفيق الحكيم واقترح على أن نضم نجيب محفوظ إلى الأهرام، قلت لنجيب: لا أريد منك أن تفعل شيئا غير أن تهتم بفنك الروائى، كل ما أتمناه أن تنشر كل عام رواية جديدة على حلقات. 

 طلب نجيب محفوظ أمرا واحدا، الانتظار حتى يصل إلى سن الإحالة إلى المعاش، أى عندما يصل إلى سن استحقاق المعاش الكامل. 

 لم أكن أتصور هذا لأننا كنا سنعيطه مرتبا فى الأهرام أكبر بكثير من الذى كان يحصل عليه وقتها.

 سألت نفسى: أى معاش يمكن أن ينتظره هذا الروائى المهم؟ 

نجيب محفوظ أعطى أولاد حارتنا لعلى حمدى الجمال، كان نجيب محفوظ يزوره باستمرار فى مكتبه، وكان على الجمال مدير تحرير الأهرام، وقد أعطاه الرواية فى 1959. 

على لم يقرأ الرواية، لكنه قال لى إن نجيب محفوظ وهو يعطيها له طلب منه قراءتها بشكل جيد وبعناية، وأضاف الجمال: يبدوا أن فى الرواية لغما ما. 

أخذت الرواية وقرأتها، أحضرتها معى إلى البيت، لأن جو المكتب قد لا يساعدنى على قراءة الرواية، وأدركت مغزى تحذير نجيب محفوظ لعلى حمدى الجمال.

 استقر رأيى على النشر، تصورت من البداية أن بعض رجال الدين قد يحاولون وقف نشرها، لكل هذا  قلت: سأنشر هذه الرواية بصورة يومية، وكانت أول مرة تنشر فيها رواية يومية. 

لم أجد سببا يدعونى لسؤال جمال عبد الناصر قبل النشر، فهذا عملى وأنا أمارسه.

 كنت متأكدا أن أحدا خاصة من رجا ل الدين لن يتمكن من التنبه لأهمية الرواية إلا متأخرا، وهذا ما جرى فعلا عندما نشرت الحلقة السابعة عشرة، خلال النشر تحرك رجال الأزهر وأطلقوا طلقاتهم، الضجة قامت والدولة دخلت فيها ونحن كنا قد وصلنا إلى الحلقة العشرين. 

كان عندى بعض القلق لكننى لم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى هذا المدى الذى وصلت إليه، قلت نعمل تجربة جديدة فى النشر، حتى نرى إن كانت الرواية ستشد القارئ أم لا، من خلال النشر بهذه الطريقة الجديدة كنا ننشرها فى الصفحة السابعة، أكثر قليلا من ثلث صفحة، بعد الحلقة السابعة عشرة وحتى الحلقة العشرين انقلبت الدنيا والأزهر أصدر بيانات . 

تحدث معى الرئيس عبد الناصر، سألنى: إيه الحكاية؟ 

قلت له: أنا كنت مدركا لكل المحاذير قبل النشر، لكن هذه رواية لنجيب محفوظ، وعلى أية حال سوف ينتهى النشر خلال أيام. 

ثم جاء قرار الأزهر بعد ذلك، وانطبق القرار على طبعها فى كتاب وليس على النشر مسلسلا فى الأهرام، الذى كان قد تم، ولم نكن نحن طرفا فى قرار الأزهر، ولم تكن لنا صلة به. 

وفى حدود علمى فإن الدكتور سيد أبو النجا هو الذى اتصل بنجيب محفوظ من أجل نشر الرواية فى بيروت، لأن دار المعارف كان لها فرع هناك، وكانت لها صلات بدور نشر لبنانية كثيرة، وكانت تابعة للأهرام. 

لم أقرأ كافة أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية، لكنى قرأت ما اعتبرت أنه أهمها، أو ما نشره الأهرام منها.

لم يفكر أحد فى اعتقال نجيب محفوظ فى أى وقت من الأوقات.

 أولا: لأن جمال عبد الناصر كان يعرف قيمة وقدر نجيب محفوظ، ويعلم أنه يستطيع أن يعاتبنى على بعض الأشياء التى يكتبها نجيب وغيره من كتاب الأهرام. 

وثانيا: لأننى كرئيس تحرير لم أكن أسمح بذلك أبدا، لأننى أرى دور رئيس التحرير يتخطى مجرد قدرته على تجنيد الكتاب المهمين وإدارة الجريدة، دوره الأهم هو حماية الجريدة وكل كتابها، ولم أقبل أبدا أن يتجاوز أحد أو يؤذى محررا فى الأهرام، وكان الجميع يعلمون أن من يريد التحدث مع أى شخص فى الأهرام بخصوص أى أخطاء أو مشاكل فعليه أن يتحدث مع رئيس التحرير فقط.

و بعيدا عن أولاد حارتنا فكل أعمال محفوظ النقدية مثل" اللص والكلاب – السمان والخريف – ميرامار...) نشرت فى الأهرام وأنا رئيس تحرير وفى عصر جمال عبد الناصر، ولم تحذف منها كلمة، وأعتقد أن جائزة نوبل التى تحصل عليها محفوظ كانت على أعمال نقدية، نشرت كلها فى الأهرام. 

بعد سنوات طويلة قرأت ما قاله نجيب محفوظ فى كتاب" نجيب محفوظ يتذكر" الذى دونه جمال الغيطانى. 

قال نجيب: لم ألتق بعبد الناصر فى لقاءات خاصة، إنما رأيته ثلاث مرات عندما حصلت على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، طلعت وسلمت عليه ونزلت، المرة الثانية 1957، كان هنا عدد من الأدباء العرب التقى بهم، وكنت أحد الذين ذهبوا إلى اللقاء، المرة الثالثة كانت فى الأهرام عندما زاره، كان يتحدث إلى كل شخص. 

قال لى عبد الناصر: إزى ناس الحسين بتوعك، بقالنا زمان ماقريناش لك قصة. 

هيكل قال له: لا ده بكره طالعة له قصة. 

كنا يوم خميس. 

 هيكل قال: نعمل إيه؟...  ما هى قصصه تودى فى داهية. 

عبد الناصر قال له: لا تودى رئيس التحرير. 

هذه الرواية عمليا غير ممكنة، وفضلا عن أن الأستاذ جمال الغيطانى كتب عن أقوال للأستاذ نجيب محفوظ من الذاكرة، فالرواية كما نشرت غير معقولة لسبب أساسى أنها لا تتفق مع سلوكى مع عبد الناصر ولا نوع علاقتى به. 

قال نجيب محفوظ إن عبد الناصر قال له: إننا لم نقرأ لك شيئا، من الممكن أن يكون هذا صحيحا، لكن أن أقول لعبد الناصر إننا سنقرأ له نصا يودى فى داهية، فهذا معناه إننى أقول لجمال عبد الناصر فى مواجهته، وفى حضور جمع كبير من الناس وعلنا، إنه من الممكن أن يذهب كاتب فى داهية فى ظل حكمه بسب قصة أدبية. 

لو كنت قلت ذلك فمعناه أننى أسئ إلى جمال عبد الناصر وإلى نظامه، وأكثر من ذلك أننى أسئ إلى نفسى ولعلاقتى بجمال عبد الناصر. 

هل من المعقول أن أرضى لنفسى، وأن أرضى لجمال عبد الناصر مثل هذا الموقف، والتداعيات التى يمكن أن تخرج منه ومن الصعب حسابها. 

هل أقول لجمال عبد الناصر يوم زيارته إلى الأهرام وعلى مسمع من جميع مثقفى مصر إن رواية نجيب محفوظ القادمة " تودى فى داهية"؟

 هل أقول هذا لجمال عبد الناصر؟ 

هل أقلل من نفسى وفى حضور الكتاب الذين يعملون معى فى الأهرام؟ 

وحتى لو قلت أنا هذا الكلام، أى مع فرض أننى قلت هذا الكلام، فهل يرضى الرئيس جمال عبد الناصر أن يقول لى وفى هذا الجمع إن اللى يروح فى داهية هو أنا وليس نجيب مخفوظ.

 الكلام جميعه اعتراف ضمنى أن هناك داهية أو ليمان يمكن أن يروح فيهما من يجرؤ على الكتابة بطريقة لا ترضى السلطة. 

هذا كلام لا يمكن أن يكون قد قيل، وأعتقد أن رواية الأستاذ نجيب محفوظ تظهر التباسا فى الحقائق، وأظن أن هناك من حكى لنجيب شيئا عما جرى فدخل الأمر فى رأسه، وكرر الحكاية وقالها أكثر من مرة يوما بعد يوم. 

جمال عبد الناصر فى هذا اللقاء كان مهتما بأن يستمع بأكثر مما يتكلم، وأظن أنه تكلم بعد المقدمة التى قدمت بها المثقفين له، كان قد طلب أن يستمع لكل التيارات، وجميع التيارات تكلمت واستمع للجميع باهتمام وناقش كثيرا وبقى فى الأهرام وقتا أكثر مما كان مقررا من قبل.

(5)

عندما دعونا سارتر إلى مصر طلبت من توفيق الحكيم أن يكون مضيفه باسم الأهرام ورفيقه طوال فترة وجوده فى مصر.

 وافق الحكيم ولكنه جاءنى فى اليوم التالى غاضبا  وقائلا: أنا لست أقل من سارتر حتى أكون مرافقا له فى رحلته إلى مصر.

قلت له: أنت لست مرافقا ولكنك المضيف باسم الأهرام.

 وتناقشنا طويلا حتى اقتنع، واكتشفت فيما بعد أن الحكيم كان خائفا من أن تخونه لغته الفرنسية أمام سارتر. 

جاء سارتر وحضرت المقابلة الأولى بينه وبين الحكيم وظل الحكيم متشككا فى بداية اللقاء من لغته الفرنسية، ولكنه انطلق بعد ذلك وتحدث بطلاقة. 

نجحت زيارة سارتر إلى مصر كثيرا، واكتشفت أن الرئيس عبد الناصر كان قد أرسل إلى بيروت للإتيان بكتب سارتر ليقرأها قبل أن يقابله، وهكذا كان عبد الناصر يعد نفسه لكل المواقف، وكم كان ممتعا أن أحضر تلك المناقشة التى دارت ما بين عبد الناصر وسارتر، والذى تحدث بصراحة مع عبد الناصر عن السلام مع إسرائيل. 

(6) 

أندريه مالرو الأديب الفرنسى الكبير وصديق الجنرال شارل ديجول ووزير الثقافة فى بلاده كان يرى بشكل أو بآخر أن موقفى من عبد الناصر يشبه إلى حد كبير موقفه من ديجول، وهذا الاعتقاد قرب ما بيننا أكثر، وقد تقابلنا لأول مرة فى أحد مطاعم باريس وكانت معى زوجتى التى قامت بدور كبير فى عملية الترجمة، ثم توطدت علاقتى به، وعندما جاء إلى مصر دعوته إلى الأهرام وأقمنا له ندوة كبيرة حضرها مجموعة كتاب الأهرام وعلى رأسهم لويس عوض ويوسف إدريس. 

فى شتاء العام 1970 جلست مع أندريه مالرو على مائدة غداء فى مطعم "لا سير" فى شارع فرانكلين بباريس، وكان مالرو منتشيا برواد المطعم عندما يلقون عليه تحية تلحقها عبارة " السيد الوزير"، حاولت تنبيهه إلى أن قيمته كمثقف وأديب أهم من لقب وزير، لكنه لم ينتبه. 

(7) 

دعونا فى الأهرام المناضل الرمز تشى جيفارا، والذى دعوناه لزيارة مصرة لمدة أسبوع، ورتبنا له ندوة حاشدة فى الأهرام حضرها العديد من رموز تيار اليسار إسماعيل صبرى عبد الله وفؤاد مرسى ومحمد سيد أحمد، وسجلنا مع جيفارا 17 ساعة، انطلاقا من ضرورة تكامل الثقافة والسياسة. 

وللأسف الشديد ضاعت – ولا أدرى كيف – تسجيلاتنا مع تشى جيفارا، تلك الثروة الهائلة 17 ساعة حوار مع كبار مثقفى مصر، وقد سألت الدكتور عبد الملك عودة، وكان مدير مكتبى بالأهرام ومشرفا على هذه الندوة، وخرج هو الآخر من الأهرام دون أن يعرف أين هذه التسجيلات النادرة. 

وسألت على حمدى الجمال رئيس تحرير الأهرام بعد ذلك عن هذه التسجيلات فلم يعرف مصيرها، وقد ظلت هذه التسجيلات النادرة والمهمة مفقودة. 

(8) 

عندما دخلت أخبار اليوم للمرة الأولى فى العام 1946، كان الجو العام فيها غير مستعد لقبول واستيعاب غرباء من الخارج، وكنت أنا القادم إليهم من " آخر ساعة" مع الأستاذ محمد التابعى. 

لم تمر سوى أسابيع إلا وتحقق الإندماج، وللحق فإن الأستاذ كامل الشناوى كان صاحب الفضل الأكبر فيه، كنت أعرفه من قبل، وجلست إلى جواره مرات فى شرفة الصحافة فى مجلس النواب، واستهوتنى شخصيته.

 شاعر وكاتب، محدث وراوية، فنان قلب نواميس الكون، فإذا النهار نوم وإذا الليل يقظة، ومغامرات وحكايات لا أول لها ولا آخر، وعلى اختلاف شخصية كل منا وربما بسببه فقد انشد كل منا إلى الآخر، والتناقض أحيانا عنصر جذب، وكنت أتهمه بالبوهيمية وهو يتهمنى بالنظام، وكنت أراه يهدر ثلاثة أرباع وقته، وكان يرى أن الحياة أجمل من أن تضيع فى العمل، وكان كامل على علاقة حب دائمة مع الحب نفسه، فقد كانت له حكاية غرام كل ليلة، وكانت كلها غراميات يائسة تلهمه قصائد حلوة، فإذا جاء الصباح وسطعت الشمس تبدد غرام الليل وبقيت منه القصيدة الحلوة نسمعها ونستعيد سماعها، وتتيح لنا الظروف أن نسعى إلى غرفة مكتبه، ملتقى الجميع بدفئها الذى يذوب فيه الصقيع. 

فى نوبة من نوبات غرامياته وجع دماغنا" بشئ اسمه "روز" ، وقد قابلتها، وكتب كامل لها قصيدة رددها أمامى كثيرا، لدرجة أننى أحفظها. 

قلت لكامل مين روز التى تكتب لها هذا الشعر الهائل؟ 

ذهبت معه لرؤيتها، المفارقة أنه كان فى ذات المكان حيث توجد به عمارة مرشاق بالجيزة التى أسكنها، فقبل بناء هذه العمارة كان هناك كازينو بديعة، وكانت تعمل روز فى الكازينو، وسهرنا حتى ما بعد منتصف الليل، إلى أن انتهت روز مما كانت تقوم به من رقص، وجاءت لكامل قائلة له: كمولتى معاك 50 جنيه؟ 

أخرج كامل من محفظته ال 50 جنيه ولم يعد يراها بعد ذلك. 

لم يكن يكف عن الإبداع، ولم يكن يسجل منه شيئا، قلت له: يا كمولة يا ريت تسجل ما تقوله على ورق، فالأحاديث الشفهية مهما تكن روعتها وسحرها تنسى مع الوقت ولا يبقى منها شئ. 

 (9) 

يرجع افتنانى بالمتنبى وشوقى إلى أنهما الأقرب للسياسة.

 فالمتنبى كان سياسيا بصرف النظر عن أى شئ آخر، وشوقى تنطبق عليه نفس القاعدة، وكنت أتناول أشعارهما كثيرا لأنى أتحدث فى السياسة، وهما أكثر الشعراء اهتماما بالسياسة. 

وبعيدا عن المتنبى وشوقى فإننى معجب جدا بأشعار بشار بن برد، ذلك الأعمى الذى وصف الجيش وهو يخوض فى مستنقع كما لم يصفه الشعراء المبصرون. 

نزار قبانى كان صديقى وكذلك محمود درويش، ولكن تجربة كليهما تختلف تماما عن المتنبى وشوقى وأيضا طريقة التناول، كما أن نزار ودويش يكتبان الشعر بإيقاع حداثى، والشعر هو الكلام الذى يعبر عن الشعور وتستطيع أن ترويه وتحفظه.

 وبعيدا عن نزار ودرويش وكل الشعراء الكبار، فإن الإنتقال إلى الشعر الحديث أثر كثيرا على الشعر عند الناس، فلا يوجد مثلا إنسان يستطيع أن يحفظ هذا الشعر الحديث ويردده، ولكن الشعر العمودى التقليدى ملئ بالموسيقى مما يجعله أسهل فى الحفظ والترديد، وقد فطن نزار إلى ذلك فتوسع كثيرا فى تقديم قصائده إلى المطربين والملحنين حتى يضمن سرعة انتشار أشعاره. 

أما محمود درويش فكنت أتابع أشعاره وهو موجود فى فلسطين تحت حصار الإحتلال، وكانت تصلنا أشعاره وصداها، ورغم ذلك تواصلنا فقد كان ينظر لى باعتبارى قارئا حرا أعيش فى عالم طليق وحر، بينما هو محبوس فى قفص الإحتلال.

كنت أحد أطراف عملية الترتيب لعدم عودة محمود درويش إلى فلسطين مرة أخرى ليصبح أكثر حرية بعيدا عن الإحتلال، وحدث ذلك عندما كان درويش ضمن وفد فلسطين يزور موسكو، وكنت ضمن وفد مصرى فى موسكو فى نفس الوقت، وأخذنا درويش إلى السفارة المصرية هناك، وعاد الوفد الفلسطينى إلى الأرض المحتلة، ومن موسكو جاء درويش قبل أن يقرأ مقالاتى ويستمع إليها من إذاعة صوت العرب، وربطت بيننا صداقة الثقافة ثم الصداقة الإنسانية الأرحب، وأذكر أن الدور الأكبر لعملية تهريب درويش من موسكو إلى القاهرة كان للسفير مراد غالب سفير مصر فى موسكو، وكان درويش قبل ذلك يرسل قصائده إلى ويكتب إلى أن  القصيدة لا تكتسب شرعيتها إلا بعد قراءتى لها. 

قد يكون سميح القاسم أقوى شعريا من محمود درويش، ولكن سميح آثر أن يظل طوال الوقت تحت سلطة الإحتلال، بعكس درويش الذى انطلق إلى العالم الخارجى، فأضفت الحرية الكثير من الحيوية على أشعاره، وأعطته قدرة أكبر على التواصل مع كل العالم، فتفتحت مواهبه أكثر وأكثر، والغريب أنه أجاد التعبير عن آلام المحاصرين أنفسهم، وكل هذا جعل محمود درويش أكثر وجودا فى الوجدان العربى والعالمى.

سميح القاسم عربى رغم وجوده تحت سيادة الدولة الإسرائيلية، فهو اختار أن يتشبث بالأرض ويبقى بالداخل ولو تحت الإحتلال، وقبل هو وغيره بالمواطنة الإسرائيلية ولها أحكامها، لكنه تمسك بالهوية الفلسطينية ولها تحدياتها وضغوطها، ومد جسورا إلى الضفاف العربية المحيطة بفلسطين، وهو محيط علاقاته ملتبسة مع الدولة التى ينتمى إليها بالمواطنة، من تناقضات ثقافية وسياسية إلى تناقضات عسكرية. 

(10) 

لم أكن أعرف إدوارد سعيد معرفة شخصية، رغم متابعتى الجيدة لما يكتبه فى الخارج، وتقابلنا لأول مرة عندما أراد أن يصدر كتابه الأول باللغة العربية، وطلب منى أن أكتب له مقدمة الكتاب، فقلت له أنت كاتب معروف ولا تحتاج إلى من يقدمك إلى القارئ، فقال لا أحد يعرفنى فى الوطن العربى، أنا فقط معروف فى الغرب، وأحتاج إلى من يقدمنى للقارئ العربى، وتواصل الحوار بيننا بعد ذلك، وتطور الحوار إلى صداقة، وإدوارد سعيد رجل تفخر به من دون أن تعرفه، فإذا عرفته ازداد فخرك وإعجابك به. 

كان إدوارد سعيد محاضرا مؤثرا فى دفاعه عن حقوق أمته وشعبه، وكان فيما كتب وقال نفاذا إلى الضمائر، مالكا لزمام التعبير قادرا على جلاء الفكرة بسحر الكلمة، وكذلك وصل قوله وصوته أشعة من التنوير، وهزة تدعو إلى يقظة. 

تعرض إدوارد لحملة ضارية شنتها عليه جماعات مؤيدة لإسرائيل أزعجها تأثيره، وظهرت لها ردود فعل تأثرت بما يكتبه ويقوله، ولم توقفه الحملات، فهو فى صميم قلبه طالب سلام، شرط أن يكون سلاما حقيقيا مؤسسا على العدل وقابلا للبقاء. 

كان يعرف أنه مصاب بسرطان الدم، وكان يقاوم ببسالة، يقعده المرض مرات، لكنه لا يلبث أن يقوم رافعا قامته بكبرياء، مجلجلا بصوته، كاتبا كلمته بتدفق مفكر، ومناضل، وفنان، وقبل وبعد كل شئ بكرامة إنسان، كأكرم ما يكون الإنسان، بحثا عن القيمة والمعنى والمعدن والجوهر، وحواره المتصل مع الكون والحياة والخير والجمال. 

فى أوائل صيف 2003، كان إدوارد مدعوا لمحاضرة فى الجامعة الأمريكية، ولقيته قبلها فى الفندق الذى ينزل فيه، وأحسست به مرهقا، وصحبته إلى محاضرته فى قاعة إيورات، وبعدها كان مستنزفا سواء بما لقى من حفاوة، أو بما بذل من مجهود، وفى اليوم التالى جاء ضيفا علينا ليوم راحة فى بيتنا الريفى ومعه قرينته المحبة والحانية " مريم"، وقضينا يوما كاملا ورغم أنه كان متعبا، مما أثار عندى إحساسا غامضا وحزينا بأن النهاية تقترب، فإنه مع ذلك ظل طوال الوقت يتكلم ويسأل ويناقش ويحاور، كأنه يريد أن يكون آخر نفس فى الحياة، حياة فى قلب الحياة. 

عندما عرفت أنه دخل المستشفى فى نيويورك، حاولت أن أتصل به، وكان لسوء الحظ فى غرفة الإنعاش، وأحسست بإنقباض يمسك أعصابى ويشدها، فقد رادونى إحساس بأن أجراس السماء تدق. 

(11) 

حين سألنى عبد الرحمن الأبنودى إذا كنت أستطيع تقديم مربعاته عندما تنشر على شكل كتاب، فإن طلبه أسعدنى، ليس فقط لأننى كنت أتمنى لهذه المربعات أن تظهر كاملة على شكل كتاب، إنما سعادتى لأن طلبه جاء فرصة متجددة أقرأ فيها المجموعة موصولة ببعضها، بعد أن تابعتها يوما بيوم تنشر متقطعة على صفحات جريدة يومية. 

وتصورت فى كل الأحوال أن قراءة المخطوطة فى صورتها الأصلية وقبل أن تدور المطبعة فرصة حميمة بين المربعات وبينى، تتيح لى قراءتها مكثفة مركزة،، تحمست إذن لكتابة مقدمات للمربعات دون أن يخطر ببالى لحظتها أن الأمر أصعب مما تصورت، وأعقد مما قدرت. 

عندما قرأت هذه المربعات من جديد مرة واحدة وبإهتمام غير منقطع، تجلت أمامى مربعات الأبنودى على صورة مختلفة، تذكرت المقولة الشهيرة التى سمعناها قبل أربعة قرون من فلاسفة جامعة" فرايبورج" وهى من أوائل جامعات زمن النهضة" إن كل الأنهار تتسابق إلى البحر"...  إشارة إلى وحدة المعرفة مع المنابع". 

فى قراءاتى المتقطعة الأولى فإن المربعات كل يوم بدت لى نوافذ على فضاء لا يصل إليه النظر، وعن القراءة الثانية الموصولة سياقا واحدا بدت لى المربعات أفقا غير محدود، ساحة بحر واسع، لكنه خضم حافل بكل فصول الطبيعة فى الوقت نفسه، فى اللحظة ذاتها، صامت هادئ فى موقع، غاضب هائج فى موقع آخر، نائم حالم قرب صخرة، ثائر جامح يضرب نفس الصخرة بقوة إعصار. 

ساءلت نفسى طويلا كيف يمكن وصف هذا المشهد غير الطبيعى على لوحة الطبيعة ذاتها، ساحة واحدة ومناخ تتباين ظواهره من صيف إلى شتاء، ومن ربيع إلى خريف، وشراع مرفوع داخلا إلى البحر قادما من النهر، فسر مربعات الأبنودى يتجلى عند القراءة الموصولة، ومحاولة جديدة وتلقائية ما بين الأدب والسياسة، بين الفكر والتاريخ، بين الفن والثورة، فهو شاعر عاش وسط الجماهير وهى تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلا، وهو لا يغنى لهذا المستقبل من بعيد، وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها، وهى تتدافع بالزحف أحيانا، وبالتراجع أحيانا، خطوة بالأمل وخطوة بالألم، وهى أحيانا صيحة بالفرح تهلل، وفى أحيان أخرى جرح بالوجع مفتوح. 

ما يدعو للتأمل أن عبد الرحمن الأبنودى واصل كتابة مربعاته سنة كاملة، يوما بعد يوم، وصباحا بعد صباح، لا يسكت ولا يهدأ ولا يكل ولا يمل، يصيح بالقول على السياسة أن تتماسك لتصنع تاريخا، ويصرخ بالنذير حتى يمنع النسيم أن يتحول إلى عاصفة، ويمسك بالجمع كى لا ينفك إلى شراذم، ولا يتفرق إلى هباء، يريد للتاريخ أن يتحول إلى نبؤة، ولا يريد للسياسة أن تتحول إلى لعنة، وهو يواصل المحاولة لعام كامل، مربع إلى جانب مربع، نافذة بعد نافذة، ثم تتجمع النوافذ وتتفتح على بعضها، فإذا هى بحر متلاطم وأفق بعيد، فالقراءة الموصولة للمربعات هى وحدها التى تكشف وتبين. 

ساءلت نفسى بعد القراءة الثانية الموصولة للمربعات، بعد سنة كاملة واصل فيها عبد الرحمن الأبنودى كتابة مربعاته، ثم أغلق دفترها ونحى القلم، هل استراح واطمأن، ورأى أن يعطى لنفسه صخب البحر وموجه العاتى وصخره، أم أن القلق استبد به خشية أن يضيع صوته فى اللامحدود يطغى عليه هدير البحر ويغطى نشيده.

هل أرهقه الإيقاع المنتظم كل صبح وحسبه قيدا على الشاعر، لأن الشراع لا يطيق قيدا أو رباطا، ولا خطا ملاحيا يحدد مسار حركته مسبقا من النهر إلى البحر؟ 

لا أعرف جوابا قاطعا، لكنى أعرف أن الشراع القادم على النيل من صعيد مصر إلى شمالها ظل يصارع أعالى البحار، والريح تملأ ذلك الشراع، وهو يواصل رحلته إلى أفق لم يظهر بعد شاطئه. 

(12) 

كان أحمد بهاء الدين يمثل لى حميمية الحوار، وبهاء سواء كان فى الأهرام أو فى أى جورنال آخر، كان بيننا كل يوم سبت موعد ساعة أو ساعتين حوارات لا تنتهى، أحيانا كنا نقضى الوقت فى دردشة عادية، ولكن المهم أنه كانت تجمعنى معه أوقات سعيدة، وبهاء من الشخصيات التى يمكن أن تجلس وتتكلم معه وتشعر بإحساس القلب المفتوح والحوار المفتوح، ليس فيه روادع أو جوارح. 

زرت بهاء وقت حرب الخليج ولم يكن فى حالة طيبة بسبب جلطة المخ، ومخ بهاء أو عقله كان أبدع ما فيه، وكنت حين أجلس معه أتساءل بينى وبين نفسى " هل يهاجم المرض أقوى وأحلى ما فى بهاء؟ وجاءت لحظة كان يرى فيها الأشياء كلها مهزوزة.

 كان قلبى مكسورا وهو يحاول أن يعرف ماذا على شاشة التليفزيون من تحركات وبيانات عسكرية، وكأنه يقول: فيه إيه؟ 

(13) 

صلاح جاهين فنان لا يتكرر، فهو شاعر وممثل  وكاتب سينمائى، ورسام كاريكاتير عبقرى، ومثل هذا الفنان كان لابد أن يكون موجودا فى الأهرام، ويكفى أنه رسام الكاريكاتير الوحيد الذى لم يكن يذهب إلى رئيس تحريره للبحث عن أفكار لرسوماته، فقد كان متدفق الأفكار وقادرا على تنفيذ أفكاره بحرفية  عالية، وقد هاجمونى كثيرا فى روزاليوسف لأنى أخذت منهم صلاح جاهين. 

ولأن جاهين فنان حقيقى... فقد كان طبيعيا أن يكون مثل أى فنان حقيقى أسرع من غيره بالإنكسار. 


(14)

فى إبريل 1969 نشرت للدكتور يوسف إدريس قصته القصيرة " الخدعة". 

كانت القصة ببساطة عن رأس جمل يظهر للناس فى كل مكان، فى منازلهم، فى الحمام، فى غرف نومهم، فى الأتوبيس. 

سافر يوسف بعد النشر إلى الأسكندرية، قضى هناك عشرة أيام، وعندما عاد إلى الأهرام وجد الجميع ينظرون إليه بدهشة. 

 اقترب منه أحدهم وقال له: صحيح أنت اترفدت يا د. يوسف؟ 

وكان يرد عليهم: اترفدت ايه يا ابنى أنا يا دوب اتعينت من أسبوع واحد. 

دخل على يوسف إدريس ساخرا وقال لى: تصور يا أستاذ هيكل الناس العبط اللى بره قالوا لى إنى اترفدت من الأهرام. 

قلت له بهدوء شديد: أنت فعلا اترفدت. 

سألنى بدهشة: ليه؟ 

قلت له: الجماعة فى اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى راحوا للرئيس جمال لعبد الناصر وفهموه أن قصة الخدعة بتاعتك كتبتها عليه شخصيا، وأنه المقصود برأس الجمل اللى بيظهر للناس فى كل مكان. 

قال يوسف بخوف: يا نهار أسود... طب وأنت قلت إيه؟ 

قلت له: أنا قلت لهم إن رأس الجمل دى النكسة اللى بتظهر للناس فى كل مكان، والناس غير قادرين على نسيانها... هه إيه رأيك؟ ... على العموم بعد شهر كده هترجع الأهرام تانى ومرتبك ماشى واعتبر مفيش حاجة حصلت. 

(15)

هناك أفراد لديهم تميز فى الإبداع، فوسط الزحام تستطيع أن ترى بهاء طاهر، وجمال الغيطانى ويوسف القعيد، ورغم ذلك فلم نشعر بوجود مدرسة أو تيار فكرى جامع يعمل على افراز النجوم، ولكتك تلمح كل فترة نجمة منفردة تلمع بذاتها. 

وكان يعجبنى شعر فاروق جويدة، كان لدى ضعف ناحيته، فشعره ينم عن موهبة، وخاصة قصيدته " فى عينيك عنوانى"... هذه القصيدة جلبت له جيشا من المعجبات لم يتوفر لى. 


(16)

قرأت لجمال حمدان قبل أن أعرفه. 

درس فى جامعة ريدنج البريطانية لكنه انتمى إلى المدرسة الألمانية الأكثر جدية فى دراسة الجغرافيا، وهى مدرسة تنتمى إلى إمبراطورية متشوقة لمستعمرات لم تحصل عليها بإستثناءات سبقت الحرب العالمية الأولى، الاستكشاف عندها سبق معرفى دون أن يكون مرتبطا بمصالح محققة. 

اطلعت على أثره " شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان"... واستمعت إلى قصص تروى عن عزلته فى محراب فكر، لا يتصل بالعالم من حوله، يخرج من منزله قليلا ولا يفتح بابه لأحد إلا بإجراءات واتفاقات مسبقة، وتقصر الزيارات على من يطئمن إليه وعددهم يحصى على أصابع يد. 

ذهبت لزيارته، من خلف باب موارب رأيته مرتديا روب أحمر فوق ملابس البيت، كان الرجل يعد الطعام لنفسه وغرفة الاستقبال لم تخضع لعناية منذ فترة، لم يكن المشهد يليق بمفكر بحجمه أثرت كتاباته فى مجرى التفكير العام ولفتت إلى دور الجغرافيا فى حياة المصريين. 

بدا رجلا تعرض لصدمة إنسانية فاقت طاقته على احتمالها لدرجة أنه أخذ يعاقب نفسه. 

سألته: لماذا هذه العزلة وإسهاماتك مراجع كبرى للباحثين والمثقفين والمعنيين بالشأن العام؟ لماذا تفعل ذلك بنفسك وأنت الآن مؤثر لحدود لا تتصورها فى التفكير العام؟ 

وقلت له أيضا: أنت تعيد فكرة الرهبنة المصرية بالعزلة فى الخلاء، لكنك منعزل فى فوضى. 

طالبته بأن ننتقل إلى مكان آخر يصلح للحوار فيه، أن يرى الحياة الطبيعية فربما تغريه بالعودة إليها. 

ذهبنا إلى فندق شهير بحى الدقى يطل على النيل. 

وجدته يقول لى: إنك تتصرف كلورد إنجليزى رغم صداقتك لجمال عبد الناصر.

كان يشير إلى السيجار فى يدى، فسألته إن كان يريد أن يدخن سيجارا، وكنت أحتفظ بآخرمعى، أخذه وبدأ ينفث دخانه فى الهواء ناظرا إلى جريان نهر النيل. 

امتد بيننا الحوار. 

سألنى : كيف تسكت يا أستاذ هيكل على ما يجرى فى مصر؟ 

أجبته: وماذا تريد أن أفعل؟ 

قال: لا تقل لى ما تردده أنك مجرد كاتب صحفى، فهذا غير صحيح.

 أنت زعيم سياسى يسلم بزعامته كثيرون، فكيف لا تقود الشعب فى ثورة لإسقاط المعاهدة المصرية الإسرائيلية، خصوصا أنك تتمتع بالثقة وبمميزات لا يتمتع بها سواك، ولديك تجارب ومعرفة عميقة بالمسرح الدولى والأوضاع المحلية.

 عادة لا يتقن الحديث من يحترف الكتابة، ولكنك تتقن بالوقت نفسه الكتابة الراقية والحديث المقنع، وعادة لا يعرف التفاصيل من هو غارق فى الكليات، لكنك تجمع بين المعرفة الدقيقة بالتفاصيل والكليات معا، وعادة لا يعرف الفيلسوف المسائل العملية ولا يتقنها، وأنت تعرف الفلسفة ولديك قدرة عملية كبيرة، وعادة ما يكون المفكر السياسى غير محترف للسياسة وممارساتها، لكنك مفكر وسياسى فى ذات الوقت، فلماذا لا تقود أهل مصر فى طريق الخلاص؟ 

قلت له: لقد جئت إليك حتى أسمع منك، ما تفسيرك لتدهور موقف مصر السياسى؟ ولماذا رحب البعض بهذه الإتفاقية؟ 

قال فى كلمة كالرصاص: إنه الطغيان. 

بعدها زارنى فى مكتبى، حمل معه نسخة من أثره الجليل " شخصية مصر" عليه إهداء يصفنى بأهم كاتب سياسى فى العالم وأعظم مفكر سياسى أنجبته مصر. 

قلت له: يا جمال هذه مبالغة. 

تحدثت مع جمال حمدان فى مكتبى لآخر مرة عندما كنت على وشك أن أبدا كتاب " أكتوبر 1973: السلاح والسياسة"، وبطبيعة الحال فقد تحدثنا عن شواغلى فيه، ثم تواصلت مناقشاتنا طويلا حول موضوع يستدعى اهتمامنا نحن الاثنين وهو علاقة الجغرافيا والتاريخ، ومصر فى محيط الاثنين معا، وكان ذلك بالضبط محور كتابه عن" شخصية مصر". 

وأتذكرأننى ابديت هواجس تراودنى، وتساءلت: إذا قلنا إن المكان ليس مجرد موقع جغرافى، وإذا قلنا إن الزمان ليس مجرد أن تغرب شموسها أو قرون تهل مطالعها، فكيف نفسر ما يجرى ما أمامنا؟ 

لقد حدث شئ ما لعبقرية المكان، عبقرية المكان بشكل من الأشكال تبدو لى معطلة هنا، حتى الانشغال بها معطل. 

هناك من يقولون بخفة إن العبقرية كبرت على موقعها وموضعها، وإذا كان تشخيصهم صحيحا، فلعلها كبرت إلى درجة أنها انحشرت فيه بعد أن ضاق عليها، وبالتالى حبس حركتها. 

وهناك من يقولون بقسوة إن العبقرية صغرت على موقعها وموضعها، ولا أصدق أن يكون ذلك صحيحا، وإذا كان فإنى أتصور أنها لحظة، لأن حركة التاريخ بالطبيعة إلى أمام، أو... أو لعلها لم تعد كذلك؟ 

دعنا من الخفة والقوة إلى ما هو أكثر موضوعية وعلمية.

 قل لى ماذا جرى لعبقرية المكان، وفعلها فى الزمن التاريخى للإنسان بكل ما يستلزمه من ضرورات الحركة والتغيير ، وهما الأساس فى حيوية الوجود. 

كان جمال حمدان يسمعنى وكنت ما زلت أتساءل. 

قل لى أين المكان فى هذا العالم الذى أصبح قرية؟ وأين الزمان فى هذا العصر الذى تنطلق فيه ومضة ليزر إلى القمر وتعود فى ثانية واحدة؟ 

قل لى هل تملك عبقرية المكان أن تسافر منه أو تهاجر؟ أو هل يمكن لها أن تنزوى وتنكمش؟ 

أعرف أن عبقرية الأفراد يحدث لها مثل ذلك: 

عبقرية سقراط انتهت بكأس شراب مسموم، وعبقرية نابليون جرى تسفيرها بالبحر إلى منفى فى جزيرة سانت هيلانة، وعبقرية نيشتة وصلت فى النهاية إلى بيت منعزل على حافة جبل فى سلزماري قرب سان موريتز فى سويسرا، أقام فيه العقل الشامخ بعد أن غام ضياؤه ولفه الضباب. 

قل لى هل يمكن لعبقرية الجغرافيا والتاريخ التى صنعت عبقرية المكان على حد تعبيرك، أن يتعطل فعلها وأثرها ويبطل سرها وسحرها؟ 

قل لى هل للزمان أن يمشى بظهره إلى المستقبل؟ 

وهل يمكن للعدد أن يتنازل بحسابه للسنين والحقب بدلا من أن يتصاعد معها بقوة الأشياء، ويحملنا ولو بالقسر من قرن يودع إلى قرن يسلم؟ 

بعقلى وقلبى أعرف أن ذلك مستحيل، لكنى لا أستطيع أن أذكر ما أراه. 

على نحو ما تساورنى هذه اللحظة هواجس: لست متأكدا أن هذا المكان عارف بموقعه وموضعه، واثق من هويته، أو واثق من دوره فى محيطه الذى هو قطعة منه؟

لست متأكدا أن هذا المكان قائد- حيث تؤهله الجغرافيا والتاريخ أن يقود؟

 لست متأكدا أنه الملهم والنموذج والمثال.

 لست متأكدا أنه العالم والمعلم والمفتى والمجتهد.

 لست متأكدا أنه المبدع المصور.

 لست متأكدا أنه المطرب والمغنى. 

قصارى ما يمكن أن يجئيك إذا مددت سمعك دقات طبول بدائية وغريزية تكرر نفسها، تعطيك إحساسا موحشا بأن الحقول الخضراء تتراجع أمام عملية تصحر بطئ، ولكن خطاه منتظمة ومتتالية، كأنه على موعد يقصد إليه بنشاط رتيب، هناك على حافة الدنيا وعلى حافة العصر. 

كان جمال حمدان إنسانا بالغ الحساسية، شديد الكبرياء، وقد زادت على ذلك أخيرا مسحة حزن ضغط انطباعها على قسمات وجهه، وشاعت فى نبرة صوته، وقد حاول أن يعزى نفسه أو يعزينى قائلا: إن حركة التاريخ دائمة، ولكن اتجاهها ليس ثابتا، وكان عهدنا بها أن تكون إلى أمام خطوتين وإلى وراء خطوة، ولعلنا الأن نرى بعدا مغايرا، حركة إلى أسفل. 

نحن شهدنا انقلابا لأنه كان بين السكان من لم يقدر ولم يرع حرمة وحق المكان. 

وكما حاولت دائما، فقد حاولت تلك المرة أن أقنعه بالخروج من دير العزلة والعودة إلى دنيا الناس، ولم يقتنع مصرا على أنه اعتزل وحركة التيار إلى أمام، فكيف يعود والحركة معاكسة سواء إلى وراء أو إلى أسفل؟ 

افترقنا ولم أكن أعرف أنه فراق إلى الأبد، وانشغلت بهذا الكتاب حتى فاجأتنى وأنا غارق فيه تلك النهاية المأساوية التى انتهت إليها حياة ذلك العالم الراهب المعتزل والمهموم بشخصية مصر وعبقرية مكانها، الموقع والموضع، وربما من هنا خطر لى منذ البداية أن أهدى هذا الكتاب إليه. 

(17) 

كان حسن البنا رجلا بلا جدال أنشأ حركة، ووضع أساسا لفكرة استمرت طويلا، اقترب بالإجتهاد الدينى من الفعل العام، وفعل ذلك خلال ملابسات سياسية وإقليمية معينة، لم يكن معزولا عنها. 

اصطدم حسن البنا ومصطفى النحاس، وتصاعد الصدام فى سنة 1948، سنة حرب فلسطين، حيث استغل الإخوان ما حدث من اضطراب وانهيار، فى ذلك الوقت كنت صحفيا شابا، وأتذكر أن كل دور السينما كان بها قنبلة، وأتذكر الإغتيالات التى لم تتوقف، أحمد ماهر، النقراشى، الخازندار، سليم زكى وغيرهم، لم يكن يمر شهر إلا وتقع حادثة مدوية، ودخل النظام فى مواجهة، ونجح النظام فى المواجهة رغم أنه كان ضعيفا. 

أول مرة رأيت حسن البنا كان فى مكتبى فى أخبار اليوم، ظل جالسا ينتظر عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية كى يعطيه أحد بيانات الجماعة. 

بعد شهور وجدت حسن البنا يعرض على سكرتارية تحرير جريدة الإخوان المسلمون، ولكنى اعتذرت، كان ذلك فى سنة 1946، فى وقت أراد فيه الإخوان إصدار جريدة لهم، وقد عهدوا بالمشروع إلى عبد الحليم الغمراوى وكان محررا بالأهرام. 

لسبب أو لآخر قال الغمراوى للبنا: إننا بحاجة إلى شبان للجريدة.

 وكان يبدو وقتها أننى يمكن أن أكون صحفيا واعدا، فرشحونى، وذهبت إلى حسن البنا فى مقره العام بالحلمية، بعد أن أخذت موعدا بعد صلاة الجمعة، ودخلت المسجد، فى وقت كان البنا يخطب فيه خطبته الشهيرة التى وصف فيها الإخوان برهبان الليل وفرسان النهار، وبعد أن انتهى البنا، فتحنا موضوع الجريدة، وأتذكر أننى سألته سؤالا مهنيا عن قارئ الجريدة... من يكون؟ وكيف تصل إليه؟ 

قال: إذا كنت تتحدث عن التوزيع، فلا تقلق من هذه الناحية.

أنا كنت أتساءل عن محتوى الجريدة ونوعية قارئها، وهو سؤال سهل وصعب فى وقت واحد، لكنه قال إن مصر بها 4 آلاف قرية، كل قرية منها بها مكتب دعوة يضم 12 فردا، ولو اشترى الجريدة هؤلاء فقط، لكان التوزيع 48 ألف قبل النزول إلى الباعة. 

قلت له إن هذا غير ممكن، إننى أخشى أن أقول إن فى دعاوى الوطنية ودعاوى الدين، والدعاوى الكبرى لابد أن نفرق بينها وبين سلعة تباع، لأن القارئ عندما يدفع قرشا فى صحيفة، فهو يختار ما يرضى مزاجه، فلا تقيده بما تتحدث عنه، ابعد عنه موضوعات الدعوة والوطنية، دعه يختار السلعة التى يعتقد أنها أنفع له، ولا تضيع وقتك معه، وكان من المتوقع أن نختلف، وهو ما حدث، ثم بعد ذلك سافرت حتى لا يتكرر العرض. 

(18) 

فى أكتوبر 1954 قابلت محمود عبد اللطيف المتهم بإغتيال جمال عبد الناصر فى حادث المنشية على ضوء الشموع، فإن أسلاك الكهرباء فى سجن البوليس الحربى كانت قد أصيبت بخلل وساد الظلام، وبدا وجهه على ضوء الشموع غريبا عجيبا أثار فى نفسى مجموعة من الانفعالات الغريبة لا أظن أنى شعرت بها من قبل. 

كان شعر رأسه هائشا ولم يكن ذقنه حليقا وكانت فى عينيه نظرة زائغة، وكان لا يزال يرتدى نفس الملابس التى ارتكب بها الجريمة، ولمحت آثار ندب قديم. 

قلت له: ما هذا؟ 

قال: كنت أتدرب على ضرب المسدسات فانطلقت رصاصة خاطئة لم تخرج من الفوهة بل خرجت من الوراء وأصابت شظاياها أصابعى، كان يتكلم وقد ترك أصابعه تأخذ وضع الذى يمسك بمسدسه ويصوبه وأحسست بشعور مقبض. 

لقد وقفت وجها لوجه أمام قتلة كثيرين ولكننى لم أشعر نحو قاتل منهم بالشعور الذى أحسست به وأنا أتأمل وجه محمود عبد اللطيف، شئ غريب لفت نظرى، لقد أحسست أنى أستمع إلى إسطوانة معبأة تكرر الذى ألقى عليها حرفا بحرف. 

سألت محمود عبد اللطيف: لماذا أطلقت الرصاص على عبد الناصر؟ 

ومضى فى صوت كأنه الفحيح يردد مجموعة من المعلومات، إذا حصلت حرب فى كوريا الجنوبية – هكذا بالحرف الواحد – فسيعود الإنجليز إلى احتلال مصر من الأسكندرية. 

قلت له: فى أى مادة من الاتفاقية قرأت هذا؟ 

قال بنفس الصوت الذى يشبه الفحيح: فى اتفاقية الجلاء. 

قلت: هل قرأت كل موادها بنفسك؟ 

قال: قرأناها ودرسناها. 

قلت: من أنتم؟

قال: الشعبة.

ومضى يتحدث عن الرجل الذى شرح له الاتفاقية، لم يكن يتحدث عنه، وإنما كان يردد كلماته، كان يقول كلاما لا يمكن أن يكون من عنده أو حتى من وحى أفكاره. 

كان ببغاء من نوع يثير الأعصاب، ولم تكن معلوماته عن الاتفاقية هى وحدها صلته بالببغاوات، سمعته يتحدث عن الضرب بالطبنجة وأستطيع أن أذكر من الطريقة التى سمعته يتحدث بها أنها عبارات محفوظة. 

قال بالحرف الواح: الضرب بالطبنجة تصويب إلى إتجاه وليس نيشانا. 

سألته: هل التقى بالهضيبى؟ 

قال: نعم فى المركز العام للإخوان المسلمين. 

قلت له: هل تذكر موضوع حديثه؟ 

قال: كان يحدثنا عن اتصاله بالإنجليز وأنه اتصل بهم لمصلحة البلد. 

قلت: هل اقتنعت بكلامه؟ 

قال: بصراحة نعم. 

قلت: هل تطيع أى أمر يصدره لك الهضيبى؟ 

قال: فى حدود. 

قلت: هل الدعوة تبيح القتل وترضى عنه؟ 

لم يرد فقلت له: هل القرآن يبيح القتل؟ 

قال: لا يبيحه إباحة صريحة. 

قلت: لماذ كنت تريد أن تقتل جمال عبد الناصر؟ 

قال: لم أفكر... لكننا اتفقنا على هذا بعد الإتفاقية. 

قلت: كنت تتدرب من أربعة شهور والاتفاقية وقعت منذ أسبوع؟ 

قال: كنا نظن أنها لن توقع. 

قلت: هل عرفت ماذا صنع جمال عبد الناصر بعد أن أطلقت عليه الرصاص؟ 

قال: علمت أنه استمر فى القاء خطابه؟

قلت: ما رأيك فى هذا؟ 

قال: شجاع. 

قلت: هل أحسنت تصويب الرصاص عليه؟ 

قال: نعم. 

قلت: كيف تفسر أنه لم يصب؟ 

قال: إرادة الله. 

قلت: هل ترى فيها دلالة؟

قال: معناها أن الله يحبه. 

قلت: هل تعتقد أن الله يجب رجلا سلم بلاده للإنجليز؟ 

قال: لا.

قلت: إذن ماذا؟ 

قال: لا أعرف.

سكت قليلا ثم استطرد: إن الإنسان حينما يفكر فى مثل الذى فكرت فيه لا يحس بما يفعل إلا بعد أن ينتهى من كل شئ. 

قلت: هل تحس الآن؟ 

قال: نعم أحس. 

قلت: هل عرفت كيف استقبل الشعب جمال عبد الناصر؟ 

قال: سمعت. 

قلت: ما رأيك؟ 

قال: يظهر أنى نفعته، ثم استطرد بنفس الصوت الذى يمزقه الفحيح: رب ضارة نافعة. 

قلت: هل سمعت الذى يقوله فى الدقاق القليلة التى سبقت الرصاص؟ 

قال: لا. 

قلت: كان يتكلم عن الحرية والعزة والكرامة. 

قال: لم اسمع أى شئ. 

قلت: فيما كنت تفكر؟ 

قال: فى الذى كلفت أن أفعله. 

قلت: والذى كلفك نفسه لماذا لم يجئ معك؟ 

قال: لا أعرف.

 وبدأ يلتقط أنفاسه بصوت مسوع مبحوج، وحتى فى نهاية هذا أيضا بدأ صوته كأسطوانة قديمة مجروحة تخرج منها أصوات متحشرجة. 

(19) 

وفى نوفمبر 1954 قابلت حسن الهضيبى فى السجن الحربى بثكنات العباسية، كان يعيش تحت تأثير تجربة من نوع جديد، كانت الساعة الواحدة ظهرا وهى الساعة التى يخرج فيها للنزهة والسير فى فناء المسجد الحربى مع غيره من أعضاء جماعة الإخوان المعتقلين، وفى كل يوم فى هذه الساعة يسمع حسن الهضيبى والذين معه تسجيلين تخرج أصواتهما مجلجلة من ميكروفون ينقل فيهما بأعلى صوته ويدفعه إلى فناء السجن الحربى. 

أولهما تسجيل للخطبة التى ألقاها جمال عبد الناصر ووجهت إليه الرصاصات الثمانى أثناء إلقائها.

والثانى تسجيل لأغنية أم كلثوم التى تهنئ فيها الرئيس والتى مطلعها: يا جمال يا مثال الوطنية. 

راقبت الهضيبى وهو يسمع التسجيل الأول، خطبة جمال عبد الناصر، ثم فجأة الرصاصات الثمانى التى دوت واحدة بعد واحدة، ثم فترة الصمت الرهيب التى قطعها على الفور صوت جمال عبد الناصر ينادى الرجال الأحرار، وكان وجه حسن الهضيبى صامتا مغلقا لا تعبر قسماته، وراقبته وهو يسمع التسجيل الذى التقط من إذاعة حفلة نادى ضباط الجيش.

 وعندما وصلت أم كلثوم إلى المقطع الذى تطلب فيه من الحاضرين أن يغنوا معها والذى تقول فيه: يا جمال يا مثال الوطنية.. أجمل أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية... ردوا عليه"، تأملت الهضيبى ولم أكن أتوقع بالطبع أنه سيرد عليها ولكن هذا ما فعله على أى حال. 

جلست بعدها أمام حسن الهضيبى فى مكتب قائد السجن الحربى، ومرت لحظات صمت، كنت خلالها أتأمل وجهه وأدقق النظر فيه ويبدو أنه أحس بالذى فعلته فأطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعه وحاول أن يبتسم ولكن أعصابه خذلته، فلم تكمل الابتسامة على شفتيه وإنما مر عليه شبح باهت لمحاولة ابتسامة، وكان الصمت ثقيلا على أعصابى. 

قلت له: هل يبيح القرآن القتل والإرهاب؟ 

قال: لا. 

قلت: وهذه الرصاصات الثمانى التى سمعتها بأذنيك الأن فى الميكروفون؟ 

قال الهضيبى: يسأل عنها الذى أطلقها. 

قلت: هل أطلقها من نفسه هكذا بدون تحريض؟ 

قال: ومن أين لى أن أعلم أن هناك من حرض؟ 

قلت: ألم يكن النظام السرى تابعا لك مباشرة؟ 

قال: أنا كنت مرشدا عاما أبحث رؤوس المسائل وأقررها ولا أدخل فى التفصيلات، وعلى سبيل المثال أنا أقول مثلا أن من أهدافنا نشر الدعوة، وهذا رأس مسألة أتركها لمن يبحثون التفاصيل ويشرفون على التنفيذ ولا أذهب أنا مثلا لكى أنشر الدعوة بنفسى وأحض ملايين الناس على الفضيلة، شأن هذا شأن النظام السرى، كنت أعلم أنه موجود ولكن بالنسبة لى كان رأس مسألة أما التفاصيل فقد كان يشرف عليها اثنان هما خميس وفرغلى. 

قلت: إذن أحدد سؤالى: هل ترى أن الإسلام يبيح إنشاء منظمة سرية مسلحة للإرهاب وهل السياسة فى هذا البلد والحريات التى تتطلع إليها يمكن أن تسمح بقيام منظمات سرية مسلحة؟ 

سكت الهضيبى فترة أطرق فيها برأسه إلى الأرض، ثم قال: من قال هذا؟ 

قلت: أنت قلت الآن... لقد قلت أنك تعرف أن هناك نظاما سريا، ولكن الذى نفيته أنك أنت الذى كنت تصدر الأوامر، ولقد قلت لى أنك كنت تعرفه كرأس مسألة ولكنك لم تكن تعرف الظروف التى يعمل فيها، ألم يكن محققا أن أفهم من كلامك هذا؟ 

قال الهضيبى: ولكنى لست أنا الذى أنشأ هذا النظام السرى، هذا النظام أنشاه حسن البنا سنة 1946، فلما جئت أنا من ثلاث سنوات وتوليت منصب المرشد العام كان أول ما فعلته أن قلت أنى لا أريد أنظمة سرية، وأخرجت الجماعة فعلا أولئك الذين عرفت أنهم كانوا يتزعمون الإرهاب المسلح، وأقمت مكان النظام القديم نظاما جديدا، حددت له أهدافه وهى أن يقوم أفراده بنشاط رياضى وكشفى. 

قلت له: هل التدريب على السلاح والمفرقعات يدخل ضمن الأعمال الكشفية والرياضية؟ 

قال: لقد أعدت النظام الخاص إلى أصل دعوته لكى يحارب أعداء الإسلام وحاولت أن أبعده عن الإرهاب. 

فقلت له: هذا سيقودنا إلى الرصاصات الثمانى. 

فقال: ما لها؟ 

قلت: الذى أطلقها أحد أفراد النظام الخاص المسلح. 

فقال والمحاولة التى كان يبذلها ليتمسك بالثبات تتخلى عنه كما تخلت الإبتسامة: إذا يكون النظام الخاص قد انحرف مرة أخرى، ولكن ذلك بغير علمى. 

ومرت فترة صمت أطرق فيها برأسه مرة أخرى. 

قلت له: لماذا اختلفت مع الثورة ولماذا خرجت تحاربها؟ 

قال: هل أنا حاربتها؟ 

قلت: إذا تركت جانبا الرصاصات الثمانى ومخازن السلاح التى ليس لها عدد بقى شئ آخر. 

قال: وما هو؟ 

قلت: المنشورات السرية التى وزعتها. 

قال: أنا... هل أنا وزعت منشورات سرية، ما ذنبى إذا كان الشيوعيون والوفديون لا يملكون الشجاعة لكى يوقعوا بأسمائهم الصريحة على المنشورات التى يوزعونها فينتحلوا لها اسمى، أنا لم اكتب أية منشورات، ولكن الوفديين والشيوعيين طبعوا منشورات ووضعوا اسمى فى ذيلها وأنا لا أعلم من أمرها شيئا. 

ومرت فترة صمت وكنت أفكر فى السؤال التالى الذى أوجهه للهضيبى ولكنه رفع رأسه وقال: هل أوجه إليك سؤال؟ 

قلت: تفضل. 

قال: لماذا قتلوا أولادى جميعا؟ 

قلت: أولادك؟ 

قال فى إصرار: نعم قتلوهم بطريقة لا أشك فى صحة روايتها أبدا. 

قلت: لا أستطيع أن أصدق. 

قال فى إصرار عنيف: يا رجل لقد أقسمت لك بالله العظيم قتلوهم جميعا وأنت تعرف ولكنهم قتلوهم ولست أريد منهم إلا أن يقتلونى أنا أيضا. 

تدخل فى المناقشة البكباشى أحمد أنور مدير البوليس الحربى وقال فى دهشة: نحن قتلنا أولادك؟ 

قال الهضيبى: نعم أظنك تريد أن تنكر لا يهمك أن ترانى ثابتا متجلدا، رغم أن أولادى كلهم قتلوا وقتلت زوجتى أيضا، ولكن هكذا الصابرون المجاهدون. 

وقال أحمد أنور: ولكن الذى تقوله غير صحيح. 

ووقف الهضيبى وتشنجت ملامحه، وقال: والله العظيم والله العظم والله العظيم أن الذى قلته صحيح صحيح صحيح وأن أولادى كلهم وأزواجهم قد قتلوا وزوجتى أيضا قتلت. 

قال أحمد أنور على الفور: كيف تطلق يمينا مقدسة بهذه الطريقة؟ 

وقال الهضيبى: أنا واثق وأنا أكرر قسمى بالله العظيم. 

فقال أحمد أنور: ما هو رقم تليفون بيتك؟ 

قال الهضيبى: 27024. 

بدأ أحمد أنور يدير قرص التليفون والهضيبى ما زال حيث كان واقفا متشنجا ينظر إليه نظرة غريبة، وساد الغرفة صمت مفاجئ حتى سمعنا جرس التليفون يدق فى الناحية الأخرى، وقال أحمد أنور: منزل الأستاذ الهضيبى... هل أستطيع أن أتكلم مع السيدة زوجته، ويبدو أن الذى رد عليه سأل عن شخصية المتكلم؟ وقال أحمد أنور: قل لها صديق للهضيبى يحمل رسالة منه. 

مرت فترة صمت وأنظارنا معلقة بالتليفون وآذاننا مسلطة عليه ثم تسرب صوت نسائى، وبدأ أحمد أنور يتحدث إلى زوجة الهضيبى، سألها هل أنت بخير، واقتربنا جميعا برءوسنا من الجهاز نقرب آذاننا منه بقدر ما نستطيع وتسرب منه صوت السيدة تقول إنها بخير، وقال أحمد أنور: وأولادك كلهم بخير؟ 

نظر الهضيبى إلى أحمد أنور نظرة الذى يرى شيئا لا يستطيع أن يصدقه، وقال أحمد أنور وهو يناوله السماعة: خذ تحدث إليها وأنت تتأكد أنها زوجتك، وأمسك الهضيبى بسماعة التليفون بحذر واسترابة تماما كمن أسلموه فى يده لغما يمكن أن ينفجر وقال: أنا حسن الهضيبى واستطرد : اسمعى كيف حال الأولاد؟ 

هز رأسه فى ذهول وعاد يقول فى التليفون: لم يقتلوهم...غريبة، وبدأ يهرش رأسه بيده، ومد أحمد أنور يده يأخذ سماعة التليفون ويقول لزوجة الهضيبى كلمة ينهى بها المحادثة ثم يضع السماعة مكانها ويسأل الهضيبى: هل قتلناهم؟ 

وقال الهضيبى وهو يهز رأسه ويحك شعره: يظهر إنهم لم يقتلوا. 

وساد الغرفة صمت وقلت أنا للهضيبى: لقد طلبت أن توجه لى سؤالا فهل أستطيع أن أوجه إليك سؤالا أخيرا؟ 

قال: أجيبك عليه. 

قلت: ما رأيك فى الأيمان التى أقسمتها بالله العظيم ثلاثة مؤكدا أن أولادك قتلوا؟ 

قال: كنت أظن. 

قلت: هل تقسم بالله العظيم ثلاثا على الظن؟ 

قال وهو يضحك: بسيطة... يمين باطلة أكفر عنها. 

قلت: هكذا ببساطة ما أسهل اليمين إذن. 

فقال: الدين يسر. 

نهضت واقفا فقد كان الوقت انتهى والتفت هو إلى أحمد أنور، وقال: لقد ضاعت على ساعة الفسحة أمضيت معظمها هنا، فقال أحمد أنور: لا تحمل هما سوف أعطيك ساعة أخرى، والتفت أحمد أنور إلى أحد الضباط: لابد أن يتسلى ساعة الفسحة أسمعوه أغنية أم كلثوم مرة أخرى، ومرقت بسيارتى من باب السجن الحربى وصوت أم كلثوم يلعلع تغنى لجمال وتقول: ردوا على. 

وكان فى خيالى وأنا أندفع بالسيارة خارج السجن، منظر حسن الهضيبى فى فناء السجن يسمع أم كلثوم ولا يرد عليها بالطبع.