الإثنين 25 نوفمبر 2024

أخرى

اتفاقية «الجشع المتبادل»

  • 11-11-2020 | 09:22
طباعة

الارتفاع في الأسعار يفوق كل تصور، فضلًا عن أنه يتجاوز طاقة التحمل، وهو نتيجة أخطاء- بل قل خطايا - عقود سابقة من الحكم، غاب فيها التخطيط العلمي من أجل تنمية المجتمع على جميع الأصعدة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مما ألقى بنا إلى مؤخرة دول العالَم،  في الوقت الذي صعدت فيه أمم مثل ماليزيا وسنغافورة والبرازيل وغيرها، وأصبحت عملاقة واحتلت مكانًا لها تحت الشمس. إن ما نحن عليه من تردي وتخلف، كان يقتضي محاسبة من أوصل بلادنا إلى هذا الدرك الأسفل، محاسبة سياسية، بدلاً من تلك المحاسبات الجنائية الهزيلة عن امتلاكهم غير المشروع لفيلا هنا أو قصر هناك، ومن ثمَّ أصبحوا أحرارًا طلقاء الآن، وظللنا نحن نعاني من آثار ما ارتكبوه في حق هذا الوطن من ظلم!!


صحيح علينا أن نعلق الجرس في رقبة المسئولين عن إدارة شئون البلاد السابقين، والحاليين أيضًا، فيما يتعلق بتأزم الوضع الاقتصادي وارتفاع الأسعار، لكن هذا ليس معناه تبرئة ساحتنا نحن  – كمواطنين – من مسئولية ما حدث، إذ إننا مسؤولون بدرجة أو أخرى عما جرى، وما زال يجري لبلادنا من نكبات اقتصادية!!


واقع الحال يقول نحن جميعًا مسؤولون، لا استثنى أحدًا.. إننا كأفراد في مجتمع نجحنا في توقيع اتفاقية غير معلنة يمكننا أن نطلق عليها اسم «اتفاقية الجشع المتبادل»، والواقع أن غالبية الناس في مجتمعنا يقومون بتنفيذ بنود هذه الاتفاقية بهمة وإصرار، رغم سخطهم المعلن عن سوء الحال واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.


الكل يعاني من ارتفاع الأسعار، ولا شك أن هناك أزمة اقتصادية أدت إلى هذا الوضع بالغ السوء، ولكنني أعتقد أن الأزمة الاقتصادية ليست المتهم الوحيد في هذه القضية، إذ إن هناك متهمًا آخر لا يقل خطورة، وهو «الجشع»، وهنا يبرز سؤال: جشع مَنْ ؟!


للإجابة عن هذا السؤال، لابد من تناول مثال من واقع حياتنا اليومية لتوضيح ما نعنيه «بالجشع المتبادل»، ولنتحدث عن سلعة واحدة ولتكن «اللحوم»، فمن المعلوم أن الجميع يعاني من ارتفاع سعر هذه السلعة، وصحيح أن الأزمة الاقتصادية هى أحد أسباب ارتفاع سعر اللحوم، ولكن يظل من الصحيح أيضًا أن هناك سببًا أهم لارتفاع سعر هذه السلعة، وهو «جشع» الجزارين، وإذا نظرنا إلى مستهلكي «اللحوم» سنجد أنهم فئة كبيرة: منهم سائق التاكسي والمدرس والميكانيكي والطبيب والفاكهي والسباك... وغيرهم، إن هذه الفئات المختلفة عندما تستشعر «جشع» الجزار تصاب هى الأخرى بهذا الداء، فنجد كل فئة من تلك الفئات تمارس الجشع على بقية الفئات الأخرى، إذ يحاول سائق التاكسي الحصول من الراكب على أكثر من حقه، كما يقوم المدرس بإعطاء دروس خصوصية، والطبيب والميكانيكي والسباك يغالي كل واحد منهم في أجره... وهكذا.


إذا تأملنا هذا الوضع، نجد أن هناك جشعًا متبادلاً، فالجزار وسائق التاكسي والطبيب والسباك، يحاول كل منهم «بالجشع» الحصول على كل ما في جيب المدرس من نقود!! ماذا يفعل المدرس في هذه الحالة؟ إنه يحاول عن طريق «الجشع» أيضًا أن يسترد ما فقده من مال بالحصول على أكثر مما يستحق، فيقوم بإعطاء دروس خصوصية للتلاميذ والطلاب، وقد يكون من بينهم ابن الجزار أو سائق التاكسي أو السباك أو الطبيب، وما يصدق على المدرس يصدق على بقية الفئات، كل إنسان في مجتمعنا يحاول أن يدافع عن نفسه ضد الجشع، وذلك باسترداد ما فقده من مال، فيجد في نهاية الأمر أنه هو نفسه يقوم بفعل «الجشع». الكل جناة وضحايا!! غير أن هناك فئة صغار الموظفين لا يستطيعون ممارسة الجشع حتى لو شاءوا، وذلك لأنهم لا يملكون أي وسيلة تمكنهم من ممارسة الجشع، وهؤلاء هم المعذبون في الأرض، إلا من استطاع منهم - من خلال التعامل مع الجمهور - الحصول على بعض الرشاوى!! لا شك أن «الجشع» أنواع، ويتحدد حجم الجشع من حيث الضخامة والضآلة وفقًا لدرجة نفوذ صاحبه وما يملكه من سلطة وعلاقات.


ولو أردنا معرفة خطورة هذا الوضع المشين، فلنتخيل أن كل فرد فى المجتمع تخلى عن جشعه، وامتلأ قلبه بالرحمة نحو غيره من أبناء وطنه. من المؤكـد أن جـزءًا كبيرًا من العبء الذي يثقل كاهل الجميع سوف يزول، ومع هذا يحق للمرء أن يتساءل: إذا بدأت أنا بالتخلي عن الجشع، فما الضمان أن بقية أفراد المجتمع سوف يلتزمون هم أيضًا بالتخلي عن الجشع؟!


في واقع الأمر، إن مثل هذا التساؤل يكشف عن عدم جدوى الحل الأخلاقي لمشكلة الجشع الاجتماعي التي نعاني منها، ومن ثم يتحتم أن يتدخل طرف ثالث لديه الصلاحيات والقدرات التي تمكنه من البطش بكل جَشِعٍ مستغل، لابد من تدخل ذلك الطرف الثالث كي يحطم تلك «الحلقة الجهنمية» التي ندور بداخلها جميعًا.. نصرخ.. ونصرخ، نعرف أننا ضحاياها وننسى أنها من صنعنا، إن الطرف الذي يمكنه تحطيم دائرة الجشع المتبادل هو الحكومة.. الحل إذن في يد الحكومة، فهل يا ترى سيطول انتظارنا لهذا الحل؟!

 

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة