الأربعاء 22 مايو 2024

مراد حسن عباس يكتب: شعراء سكندريون (4)

فن12-11-2020 | 12:18

الواقع المقتبس.. قراءة في ديوان (حرب الردة) للشاعر ميسرة صلاح الدين.

حروب الردة هي تلك الحروب التي أقدم عليها سيدنا أبو بكر الصديق عندما أرادت بعض القبائل أن ترتد عن الإسلام بعد موت النبي ؛ ولكن الردة ليست حربا تاريخية فحسب إنها حالة فكرية؛ تمر بها المجتمعات الإنسانية حين تجد بعض الأفكار الفاسدة فرصة للنمو؛ وتؤدي إلى النكوص بالمجتمع عن مدارج التطور؛ هكذا يقدم الديوان نفسه في محاولة للبقاء على النموذج المشرق المشرف؛ والدفاع عن قيم الحياة في مقابل التراجع والتراخي والتخلف؛ يقسم الشاعر حربه إلى جولات متعاقبة في الديوان لكنها متوازنة ومتقاطعة في الواقع فحروب الردة ليست معركة واحدة إنها مجموعة من المعارك مع الذات والآخر المخاطب والآخر الغائب الذي له الخطاب؛ هكذا يعبر الديوان عن معاركه (الجولة الأولى (معايا) ، الجولة الثانية (معاكي) ، الجولة الثالثة (معاها))؛ أما الجولتان الأوليان (الأنا والآخر) فهما مقدمتان للجولة الأخيرة والحاسمة التي تتعلق بالمجموع أو (بالأنا/ الآخر) معا؛ ولذا جاءت قصيدة (حرب الردة) في تلك الجولة الثالثة.

والقصيدة تبدأ بما يشبه الاقتباس من القرآن الكريم؛ وكأنه يضعنا مباشرة في حالة الحرب؛ التي تدور رحاها بين حالتين متناقضين؛ أقول ما يشبه الاقتباس؛ وأقول حالتان متناقضتان؛ لأن النص الذي يقتبس منه الشاعر لم يكن منفيا؛ وكذلك المعنى الذي يؤديه الاقتباس يتعارض مع المعنى الأصلي.

"_ لو لم تكن شابا رقيق القلب

ما انفضوا من حولك_"

هكذا يبدو الاقتباس (كنت – لم تكن) – (فظا – رقيق القلب) (لانفضوا – ما انفضوا)؛ الجملة الأولى مثبتة كلها؛ والجملة الثانية منفية كلها؛ وهذا التناقض على المستوى اللفظي كان يمكن أن يؤدي إلى تماثل على مستوى المعنى؛ لأن نفي النفي إثبات؛ لولا أن المعنى ذاته قد تغير بتغير الثابت الأصلي في المعادلة (فظا – رقيقا)؛

إنها (الردة) التي جعلت الغلظة سببا في التئام الناس من حولك؛ تلك الردة التي يخوض الشاعر جولات حربها.

وتستمر حالة الاقتباس المتناقض 

"الطير كان أبابيل

أما البشر

كانوا فراش مبثوث

دلوقت بس 

القاهرة تنور

برعاية الهكسوس" 

إن قراءة النص نوع من الافتراض؛ لنفترض مثلا أن هناك منطقتين من الوعي بالمقدس؛ الوعي بالوطن والوعي بالدين؛ فمن المفترض أن تكون منطقتا الوعي متطابقتين أو على الأقل متقاطعتين أو متماستين على أبعد الفروض؛ لكننا هنا مجبرين على أن نفترض أن منطقتي الوعي هاتين من متوازيتان ولا التقاء بينهما أبدا؛ هنا يجب أن يتناقض النص مع ذاته مرة أخرى إذ يأخذنا الاقتباس الأول إلى حالة الدفاع عن الوطن؛ ومقدساته؛ حين يعجز الناس عن الدفاع عنه؛ فيأتي المخلص الذي يتمثل في الطير الأبابيل التي ترمي الأعداء بحجارة من سجيل؛ فتجعلهم كعصف مأكول؛ ويختزل النص كل ذلك دون أن يشير إلى أعداء الوطن؛ الذين أصابتهم الحجارة إلى حالة أولئك الذين يعيشون في الوطن؛ وهم البشر فينقلنا إلى حالة أخرى من الوعي وهي الوعي الديني الذي يجعل الناس كالفراش المبثوث حين يسألون يوم القارعة عن أعمالهم؛ فيكون الدفاع عن الوطن في مقابل الزود عن حياض الآخرة؛ في نقاط متوازية؛ لا أقول يناقض بعضها بعضا فقط؛ بل يلغي أحدهما الآخر؛ ويتطلب فناءه؛ هكذا تنير (القاهرة) _التي لم تكن بهذا الاسم في المستوى الأول من النص؛ وإنما في الحالة الراهنة_ برعاية أعدائها الأزليين (الهكسوس).

ثم يسير النص في طرقات التاريخ بطريقة عشوائية لاختبار أسباب هذه الردة فيعود إلى مجموعة من الشخصيات التي احتفظ التاريخ بأسمائها شاهدا على تحولات عظيمة عبر اقتباسات متناقضة وقد تحول كل شيء إلى نقيضه في القصيدة أو في (الواقع المقتبس)؛ وكل هذا يؤدي إلى انقسام الواحد الفرد إلى الشيء ونقيضه في الوقت نفسه أو كما عبرت القصيدة

"فات من هنا الثوار

واتفرقوا الأخين

الفرض جهر وعين"

إنها حالة من الشيزوفرنيا؛ تحتم أن يكون الفرض جهرا وعينا؛ لكن أي فرض؟ فرض الدفاع عن الوطن - كما يطرحه النص-  أم فرض الصلاة في هذه الرؤية المشتبكة؛ التي تطرحها تورية مرشحة؛ في قوله (جهر) لأن الصلوات الجهرية هي صلوات الليل (من المغرب إلى الفجر)؛ وترشحها أيضا وبطريقة معاكسة ومتناقضة في الوقت ذاته كلمة (عين) حين يصبح فرض الجهاد فرض عين.

ليس في القصيدة شيء لم يأت به الواقع؛ ولن تحل هذه المشكلة من الانقسام على الذات إلا بحل مشكلة الهوية التي أصبحت شرخا قويا يفصل الذات عن نفسها؛ والتي أراها مشكلة مفتعلة في الأساس.

وفي النهاية .. لا أظن أني استطعت أن أقف على شيء من الشعر السكندري؛ فما هي إلا مجموعة من القصائد الرائعة لمجموعة من الشعراء الأفذاذ؛ الذين وهبوا أنفسهم للشعر؛ وما كان تعليقي على هذه القصائد إلا انطباعا عابرا لا يرقى إلى قامة هذه القصائد.

د. مراد حسن عباس

رئيس قسم اللغة العربية - كلية الآداب – جامعة الإسكندرية

أستاذ كرسي جامعة نانكاي - الصين