بمناسبة
اليوم العالمى لمناهضة العنف ضد المرأة، بدأت فعالياته فى 25 من نوفمبر الجارى وتستمر
لمدة 16 يوم تحت شعار "حولوا العالم إلى البرتقالي".
"تنشر الهلال اليوم"، عددًا من المقالات الصحفية لمبدعات يُقدمن شهادتهن
حول ما تتعرض له المرأة من أشكال عنف فى المجتمعات العربية.
اكسر للبنت ضلع.. ضعف وأنانية وليس قوة
تربية
أذكر
الصفعة الوحيدة التى تلقيتها من أبى، كانت فى أول عام دراسى لى، عدت من المدرسة
ومعى "مقلمة" لا تخصنى، كنت سعيدة بها جدا، فسألنى من أين حصلت عليها،
قلت له: "إننى وجدتها فى الفصل"، فقال لي: ولماذا لم تسألى عن صاحبها،
فقلت له: إننى سألت والجميع قال أنها لا تخصه، فقال: ولكننى ذهبت للمدرسة وعرفت إن
هناك تلميذ يبحث عن "مقلمته فى فصلك" فارتبكت وقلت له بصراحة لم اسأل
فصفعنى للمرة الأولى والأخيرة ولذلك أتذكرها جيدا، قال أبي: "إياكِ والكذب على،
إياكِ أن تأخذى شيئا ليس لك، فهذه الأشياء هناك أب اشتراها لابنه وهو الآن يبحث
عنها ويعاقبه على فقدانها، أيرضيك أن يضار أحد بسببك؟".
بكيت
ودخلت غرفتى أنا وإخوتى وظللت أبكى كثيرا، حتى ذهب أبى للعمل وعاد فى موعده متأخرا
كالعادة ومعه العشاء، ونادى على وحدثنى بهدوء عن أهمية الأمانة والإحساس بالآخر.
وللحقيقة
لا أعرف لماذا لم يتكرر عقاب أبى بعنف لى مرة أخرى طوال حياتى، هل كنت ابنة صالحة
إلى هذه الدرجة! أم أنه كان أول وآخر خطأ تربوى وقع فيه وتداركه، الحقيقة أن أبى لم
يسيء إلى أو لإخوتى مطلقا، خاصة أختى وأنا، كان حنونا معنا لدرجة أزعجت الآخرين
فاعتادوا قول "اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24" بينما يرد أبى "البنات
نعمة وحنيين وبيسمعوا الكلام، لا يحتاجوا لكسر ضلع بل للحنية والإحتواء".
كان
باب بيت أبى وأمى مفتوح دائما، لا نقلق من خطوات مجهولة على السلالم، لا يزعجنا
صوت لعب الاطفال على درج البيت، لا نتوتر من المعارك الوهمية بين الجيران وبعضها
لأنهم بعد قليل يعودون "الجيران لبعضيها ".. كانت فى شقتنا تتجمع
الجارات بأولادهم كل صباح لفطور مميز يتكون من نفس الأنواع ولكن كل يوم كان له
بهجة مختلفة. أطباق المطبخ المميزة تلف وتدور بين الجيران فى محبة، طبق المحشى،
البصارة، الكشرى، أكلة كوارع وكرشة مطبوخة، كانت هذه الاطباق فاكهة المطبخ، ودائما
ما تطبخ لنا أمى فى "حلل" كبيرة وعندما أسألها لماذا كل هذا يا ماما؟
فترد ببساطة "افرضى حد جالنا فجاة.. لازم يلاقى أكل"، لم نكن أثرياء
يوما، لكن أمى كانت تشعرنا بالغنى الكامل، غنية جدا، لابد من أن يتذوق الجيران
الأحبة مما نأكل، ولابد من عمل الواجب فى المناسبات. كانت مدبرة منزل عظيمة وخيرها
يطول الجميع رغم قروشها القليلة، استطاعت أن تجعل بيتنا غنى بجنيهات أبى الحلال،
لم تطالبه يوما بأن يبذل جهدا فوق طاقته لأنها تريد أية رفاهية، كانت هى فى حد
ذاتها مصدرا للرفاهية، تفرح بزيارة أصدقائنا، أخواتها وأهلها وكأنها ذاهبة للجنة.
الباب
المفتوح للجميع كان يدخل منه المحتاجين وعندما يلومها الجيران فترد ببساطة، كلنا
محتاجين بعض، رزقه رزقى ورزقى رزقه، وكانت تتعارك مع سيدات السوق وهن يفاصلن
بائعات الخضار "يعنى ياختى شاريه كل ده وجاية تفاصلى الولية الغلبانة فى ربع
جنيه"، أمى هى من علمتنا أن الفصال لا يكون مع من يبيع سلعة بسيطة
ورخيصة أصلا. رقصتنا مع أمى كانت مبهجة، وعندما كانت تضحك يسمع الجيران ضحكتها
فيعرفون لمن، كان بكائها مكتوما لا يشعر به أحد، تبكى بحرقة وهى تسمع اغانى عبد
الوهاب أو أم كلثوم لأنهم كانوا يذكرونها بعائلتها وكانت كلما جاءت أغنية شادية
"مين قالك تسكن فى حارتنا" تحكى حكاية غرامها بأبى التى بدأتها معه منذ
طفولتهما حتى حفظناها جيدا.
كانت
أمى "فاطمة" لا تنظر لمن هم أعلى ولا تعيب على أحد كى لا يعاب عليها،
ولا تسخر حتى لا يسخر منها أحد، تخبر من يطالبها بأن تنتقم أو تعاقبنا على
أخطائنا، بأن الانتقام طاقة شر ويكفى تلك الغضبة التى تخرج مع الصوت العالى، فهى تذهب
للجبار الأعلى فدع المؤذى للقوى العادل، وأنها لا تحتمل إيلامنا من أجل أخطاء
بديهية لمن هم فى مثل أعمارنا الصغيرة.
كانت
لا تلوم المتباهى بنظرة أنه "لايرى من الغربال فهو ليس أعمى" هو فقط لم
يحصل على غرباله بعد وأن الوقت سيجبره على المرور من نفس الطريق الذى سيضطر فيه
للإمساك بنفس للغربال. كانت عالية الضحكة متباهية بالسعادة، تكره الشكوى وتسخر من
المشكلات وتكره الأطباء وترفض الأدوية لكنها كانت تلجأ للمسكنات، فإيمانها أن
الموت لا ينتظر مرض ولا يستأذن ليعبر أية ممرات.
عند
رحيل "فاطمة" طالبت الجميع بالإبتسام وأجبرتهم على الزغاريد حتى أجابت
نداء ملاك تراه وحدها وهى تضحك من قلبها.. "ها أنا آتية ليس على دين لأحد..
أسامح الجميع، فهم طيبون حتى من آذانى.. هو كان غاضب ربما منى وربما من غيرى وربما
من نفسه".
أظن
أنى ورثت الكثير من صفاتها.. صفات قد يراها الأقوياء تخص فقط الضعفاء منها مثلا:
"الحنان المفرط، الطيبة، التسامح، الأمل، القناعة والرضا"، ومنها أيضا:
"إحتوائها النفسى لكل من حولها، تصديق كل كاذب حتى وهى تعرف أنه يكذب، كانت
فاطمة دائما تلتمس الأعذار للكاذبين"، وورثت أيضا ملامحها وجسدها وعشقها
الجنونى لأولادها والذى دائما ما كانت تلام بسببه من قبل السيدات الواعيات اللاتى كن
يضربن أبنائهم بـ"الخرطوم" ويحرموهم من المصروف ويتفننوا فى وسائل
عقابية ماهرة، كنت أرى حزن أمى بسبب طيبتها معنا، نحن الأربعة الأشقياء، فى حين
كان أولاد الجارات طائعين هادئين ومتفوقين، لكنها تحملت بقوة غير طبيعة ورضا تام
كل تمردنا وتهورنا ولم تستخدم معنا يوما منطق تلك "الأمومة المثالية".
تمر
السنوات ويكبر الأولاد، جارتنا فى الدور الأول، طردها أبناءها خارج بيتها، وهى التى
كانت تتباهى بأبيهم الذى كان يعلقهم فى "جنش" النجفة
و"يكربجهم"، تزوج هؤلاء من بنات جارتنا التى سكنت الدور الثانى، كانت
أمهن قد أجبرتهن على إرتداء الحجاب فى طفولتهن وتتحدث بسوء عن كل الفتيات
الأخريات، كانت تتباهى بأن بناتها هن الأكثر أدبا وحشمة وكانت توسعهن ضربا اذا ما
تجرأت إحداهن وطلبت أن ترتدى بنطلون، ذهبن بعيدا وتركن أمهن وحيدة لسنوات حتى عرف
الجيران أنها ماتت بسبب الرائحة الآتية من شقتها فى الدور الثانى. أما جارتنا التى
كانت تسكن الدور الأخير، هربت ابنتيها، التى لم تلد غيرهن، ولم تعرف أين رحلتا.
فى
حين تمتعت "فاطمة" بقصص حبنا كمراهقة، كانت تحمينا بنصائحها وتطيب
خاطرنا من الوجع كالطبيب الروحانى، كانت تفرح بمغامرات الأولاد وتساعدهم على تغيير
أفكارهم، كانت كلما سألها أحد: "كيف حال أولادك"، ترد بفخر: "أولادى
عايشين بنى آدمين".
لم
أنس يوما تلك الجملة ومع الزمن اكتشفت أن "فاطمة" عندما احتضنتها انتقلت
إلى كل تجاربها، سلوكها وروحها، ولم أنس ابتهالاتها لله، وقت وفاتها، واستجابتها
لنداءه فى الرمق الأخير، فقد ردت وقالت: "أنا جاية أهو يا حبيبي" لم تنس
أن تهب ابنتها الصوت العالى نفسه.. فكان آخر ما حصلت عليه منها هو الاستجابة
للنداءات بصوت عال جدا.
لم
يميز أبى يوما بين إخوتى الصبيان، وبين أختى وأنا، كانت تسعد أمى برؤيتنا جميلات
متأنقات واثقات الخطى، واذا ما فكر أخ لنا فى التدخل بحيواتنا كان أبى يقول:
"أنا مازلت على قيد الحياة وأختك عاقلة، وتعرف ماذا تفعل، هى ليست أقل عقلا
منك"، وكان هذا يصيب أخى بالجنون، اليوم أراه يقوم بنفس الفعل مع أولاده، لا
يفرق فى المعاملة بين ابنه وابنته، وسمعته ذات يوم يقول لابنه نفس الجملة حين حاول
السخرية من أخته والهجوم عليها.
كلما
فكرت فى عقاب إبنتى التى تصيبنى بالجنون أحيانا من تصرفاتها، أتذكر قوة أمى النفسية
وهى تتحمل نزقى وتهورى، وأتذكر كيف إن تلك القوة جعلت منى إنسان قوى قادر على تحمل
المسئولية، وأعرف أن محبتى للحياة وللناس، مصدرهما تلك القوة التى كانت لأمى، لم
أخف من أى شيء فى حياتى، ولم أتردد فى قرار.
الأبناء
هم المرآة العاكسة لتصرفات أهاليهم، لذلك فأن العنف النفسى والسلوكى أحيانا يكون
أخطر من العنف البدنى على المرآة، فالبداية دائما تكون بما أحاط بتلك المرأة من
سلوكيات أثرت فى طفولتها، فهناك نساء يربين أبناءهن إمرأة مثلما تربين هن من
أهلهن، فأن كان المحيط عنيفا، فسوف ترى أبيها يعنف أمها ويقسو عليها، ومع ذلك،
فالأم مستمرة فى العيش معه، ستعتقد الفتاة أن هذه هى طبائع الأمور، وإن رأت أخ لها
يتمتع بمميزات لا تحظى هى بها، ويتم تمييزه علها فى كل شىء -بحجة أنه الولد- حتى
العقاب لا يكون بنفس القدر التى تتعرض له هى -خاصة أنه فى كثير من الأحيان يكون
خطأ الولد أخطر من خطأ البنت- فأنها سوف تربى أولادها بالمثل وتستمر فى دائرة
التمييز بين أولادها وبناتها.
اكتشفت
بالتجربة مع أهلى -وتجربتى فى الطريق- وتجارب الآخرين، أن قوة التربية ليست فى العنف،
التربية القوية تكون فى الصبر، الإحتمال، التفكير الهادىء والسيطرة على الغضب،
التربية القويمة تكون فى التضحية ببعض من رغباتى الأنانية لفترة حتى يحقق أولادى
غايتهم ويستطيعون الوصول إلى مبتغاهم -خاصة البنات- فالبنات لا تحتاج
إلا لشيء واحد فقط فى التربية، البنات تحتاج إلى الحب، إذا ربيت البنات بالحب
والإحتواء، ستجد أكثر إنسان مطيع فى الحياة ويخاف عليك، سوف تخاف على نفسها من أن
يؤذيها أحد، لأنها تعلم أنها لو آذت نفسها ستؤذى شخصا يحبها كل هذا الحب.