السبت 28 سبتمبر 2024

محمد صبري «السربونى».. ظُلم حيًا وميتًا

أخرى3-12-2020 | 23:47

يعد محمد صبري السربوني (1894-1978)، واحدا من المثقفين الكبار، ورغم ذلك، لم يحظ بما يستحق من عناية الأوساط الثقافية أو المؤسسات المعنية بالثقافة والتعليم، أو حتى من النقاد والمؤرخين. رغم أنه قدم للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب وبحث أكاديمي، في مختلف المعارف التاريخية والأدبية، فقد ظهر نبوغه منذ فترة مبكرة من حياته، حينما أصدر كتابه الأول (شعراء العصر) في جزئين، الأول صدر في عام 1910 م، وهو طالب بالمدرسة الخديوية، بتقديم مصطفى المنفلوطي، وأصدر الجزء الثاني عام 1912 م، بتقديم صدقي الزهاوي .

 

نشأ السربوني وسط الفلاحين، فقد كان والده يعمل مفتشا للزراعة، مما اضطره للتنقل إلى أماكن عديدة في ريف مصر، وعن هذه الفترة من حياة الرجل يقول: "أكاد أقول كما قال الشاعر الفرنسي لامرتين.. لقد ولدت بين الرعاة". ومنذ صغره كان لديه ميل فطري نحو الأدب والشعر، وقد صرفه شغف القراءة عن العناية بدراسته في المرحلة الثانوية، لذا لم يحصل على الثانوية (البكالوريا) إلا في عام 1913 م، وفي هذه الفترة المبكرة من حياته راح ينظم الشعر وينشره في صحف ومجلات كالأهرام والمؤيد والأفكار، وغيرها من الصحف الأخرى .

 

توقف السربوني عن كتابة الشعر حينما قرر السفر إلى فرنسا، عقب حصوله على الثانوية لمواصلة دراسته الجامعية في السربون، وقد أشاد به أساتذته نظرا إلى ذكائه المفرط ومقدرته الفائقة على تعلم اللغات (الفرنسية واليونانية واللاتينية). في عام 1914 م، عاد إلى مصر بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، بعدها عاد إلى فرنسا في نهاية 1915 م، وكان زميلا لطه حسين، الذي أشاد بقدرته الفائقة على التحدي، ومقدرته على إجادة الفرنسية واليونانية واللاتينية، ويقول طه حسين عن السربوني: "لقد اجتاز اختبار الترجمة في الليسانس بكل اقتدار".

 

حصل السربوني على درجة الليسانس 1919 م، وهو العام الذي وصل فيه سعد زغلول ورفاقه إلى باريس (11 أبريل 1919 م) ليعرضوا قضية مصر على مؤتمر الصلح، وقد التقى بالوفد المصري، وتوثقت علاقته بسعد زغلول، الذي اختاره سكرتيرا ومترجما للوفد. أعتقد أن هذه الفترة من حياة السربوني قد غيرت من مساره العلمي ، حينما دار حديث بينه وبين سعد زغلول، حينما قال له السربوني: "قبل السلاح والحماسة علينا أن نكتب تاريخ مصر أولا وبشكل دقيق"، وقد أجابه سعد قائلا: "ما تكتبه يا فالح حاكتبه أنا ؟ ". وقد أثارت هذه الكلمة شجون السربوني، فأصدر في باريس باللغة الفرنسية الجزء الأول من كتابه (الثورة المصرية) 1920 م، وكتب مقدمة الكتاب المؤرخ الفرنسي الشهير (أولار)، وقد أحدث هذا الكتاب ردود فعل هائلة لدي الأوساط السياسية والأكاديمية في باريس، ثم أصدرً الجزء الثاني عن الثورة المصرية 1919 م، بعدها بعام 1921 م، ثم عاد السربوني إلى مصر، وقد واصل كتاباته، حينما أصدر كتابا مهما عن (الحركة الاستقلالية في إيطاليا) 1922 ، وآخر عن الثورة العرابية في مصر 1924 م، وكتاب ثالثا عن الثورة الفرنسية ونابليون 1927 م، وأعتقد أن عنايته بهذه الثورات يرجع إلى رغبته في بعث الروح الوطنية لدي المصريين .


لم يكن السربوني مجرد مثقف معني بالتاريخ والأدب، وإنما كان سياسيا منخرطا في قضايا وطنه، على درجة رفيعة من المعرفة بالتراث العربي، الذي رأى انه يستوجب التجديد والنقد، باعتباره أهم مظاهر الشخصية القومية. أنهى السربوني دراسته للدكتوراه في صيف 1923 م، ( دكتوراه الدولة) حصل عليها من السربون، وكان موضوعها (نشأة الروح القومية في مصر) ، عاد بعدها إلى مصر 1924 م، لكي يعمل مدرسا للتاريخ في مدرسة المعلمين العليا، وبعد عامين التحق بالعمل في الجامعة المصرية لمدة عامين آخرين. وفي عام 1926 م أصدر كتابه الشهير (تاريخ مصر من محمد علي إلي اليوم)، بتكليف من وزارة المعارف المصرية، التي قررته على طلاب المدارس الثانوية ، وهو الكتاب الأول الذي أعاد الاعتبار إلى أحمد عرابي، الذي سبق وهوجم من قيادات سياسية وثقافية كثيرة ، لدرجة أنهم حملوه مسئولية الاحتلال البريطاني لمصر، وقد نالته أقلام كثيرة من قبيل ما كتبه عنه مصطفى كامل، وأحمد شوقي وخليل مطران، وغيرهم كثيرون، فقد اتهموه بالتهور والرعونة وحب الشهرة، إلا أن ما كتبه السربوني عن هذا الثائر المصري قد أعاد له المكانة اللائقة، وخصوصا وأن الكتاب قد أصبح مقررا على طلبة المدارس المصرية .


اختمرت في ذهن السربوني فكرة الكتابة عن تاريخ مصر، خلال القرن التاسع عشر، في عدة مجلدات، اعتمد فيها على الوثائق الأجنبية من كل دول العالم، من تركيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا، إضافة إلى الوثائق المصرية التي لم يسبق لأحد الاعتماد عليها، وقد انتهى من المجلد الأول (الإمبراطورية المصرية في عهد محمد على والمساألة الشرقية)، وقد صدر في باريس باللغة الفرنسية 1930 م، وفي عام 1933 م أصدر الجزء الثاني (الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل والتدخل الإنجليزي الفرنسي)، وقد تناول في هذا الجزء التوسع المصري في السودان والصومال، وصولا إلى أوغندا.


لم يكمل السربوني الجزئين الثالث والرابع من مشروعه الطموح، فقد اختارته الحكومة المصرية مديرا للبعثة التعليمية في چنيڤ 1934-1937م ، وفي هذه الفترة لم يتوقف شغفه للمعرفة، حينما راح يتردد على المتاحف والمعارض الفنية، وفي هذه الفترة الهادئة من حياته نشر كتابا باللغة الفرنسية عن نوبار باشا، وعقب عودته من چنيڤ أصدر كتابه (مصر في أفريقيا الشرقية)، وقد كتبه باللغة العربية، وقد أشاد فيه بدور مصر في نشر الحضارة ومحاربة الفوضى في هذه البلاد، ولعله أول مؤرخ عربي يكتب عن شرق إفريقيا باللغة العربية.

 

على الرغم مما كتبه السربوني من موضوعات متعددة في التاريخ المصري والإفريقي والأوربي، وشيوع سمعته كمؤرخ كبير في الأوساط المصرية والأجنبية، إلا انه لم يغفل هوايته الأولى .. الأدب والشعر والتراث، لذا عاد عام 1944 ليصدر سلسة أدبية تحت عنوان: (الشوامخ) عن شعراء ما قبل الإسلام، وقد اعتبرهم بمثابة النبع الصافي لكل ما هو جديد، صدر الجزء الأول والثاني عام 1944، وقد اختلف مع طه حسين الذي قال بأن معظم الشعر الجاهلي منحولا ،قائلا لو سلمنا بهذه الفكرة لكان كل التراث الإنساني منحولا بما في ذلك الصور والتماثيل ، لأنها غالبا لا تحمل توقيع أصحابها).

 

وكانت قضية تناولتها الصحف والمنتديات الثقافية في حينها، وقد أصدر السربوني الجزء الثالث عام 1946 م ، ثم لحقه بالجزء الرابع في العام التالي .


كان الرجل في كل ما كتب أدبًا وتاريخا شديد الاهتمام بجماليات التعبير، معولا كثيرا على الذوق السليم، باعتباره من أهم عوامل النهضة الأدبية واللغوية والاجتماعية، كما غلبت على كتاباته الطابع الفني الأكاديمي، لكن يبدو أن شخصية الرجل كانت خشنة، وقد انعكس ذلك على علاقته بالناس بما فيهم زملاء الدراسة سواء في السربون أو في مصر، كما انعكس ذلك على رؤيته للطبيعة حينما انحاز إلى جماليات الصحاري والجبال القاحلة، أكثر من ميله إلى الطبيعة الغناء بحدائقها وأشجارها، لكن كتابات السربوني تميزت بتوثيق العلاقة بين الأدب والتاريخ .

 

استقر السربوني في القاهرة  بداية من عام 1947 م ، بعد أن انتهى من كتابه باللغة الفرنسية (السودان المصري1821-1889م) وقد كتبه بتكليف من الحكومة المصرية لكي يكون مرجعا علميا عند عرض قضية السودان على مجلس الأمن، وقد ترجم إلى العربية فيما بعد. ولم تقدر الحكومة المصرية الرجل حق قدره ، فعقب ثورة 1952 ، فصل الرجل من عمله متهما بأنه من أنصار النظام القديم ( 2 ديسمبر 1952) ، ورغم هذه القسوة إلا انه لم يتوقف عن الكتابة، حينما كتب كتابه الشهير (أسرار قضية التدويل واتفاقية 1888 )، وهي القضية التي أضاعت حق مصر في قناة السويس، ثم لحقه بكتاب (فضيحة السويس) عقب حرب السويس 1956، وعندما كان يتوقف عن الكتابة التاريخية يعاود الكتابة في النقد الأدبي، وقد أثار كثيرا من القضايا من قبيل المقارنة بين أحمد شوقي والمتنبي، متهما شوقي بالسطو على تراث المتنبي، كما خاض غمار الكتابة في قواعد اللغة، التي رأى ضرورة إخضاعها للذوق وليس إلى القواعد اللغوية المتعارف عليها .

 

كان الرجل رغم ما ناله من ظلم بيّن شغوفا بالحياة، محلقا في عوالم فسيحة من الثقافة والأدب، يتغنى بجمال كل الأشياء، أما وقد اشتدت عليه قسوة الخصوم فقد تبرم من الأصدقاء في نهاية حياته، حينما لم يلق ما يستحق من تقدير سواء في الأوساط الثقافية أو الحكومية، ويبدو أن جرأة الرجل وصراحته في القول وشجاعته في الرأي، لذا لم يحظ بمحبة رفاقه من المثقفين، فقد كان الرجل، بعلو قامته وتميزه عن أقرانه الذين لقبوه بالسربوني من قبيل السخرية، لأنه كثيرا ما كان يقول عن نفسه أنه أول من حصل على دكتوراه الدولة من السربون، وليس دكتوراه الجامعة، التي حصل عليها أقرانه .

 

لقد أساء الرجل الظن بكل الناس، بعد أن تعرض لمضايقات كثيرة سببها له الآخرون، فقد فصل من عمله، ولم يقف بجانبه أحد، وتركته زوجته السويسرية عائدة إلى بلدها تاركة له ثلاثة من الأبناء الصغار، وقد زهد في كل شيء ، وأصبح رافضا للحياة، وفي مساء الأربعاء 18 يناير 1978، فاضت روحه إلى بارئها، وكانت جنازته متواضعة لا تليق برجل قدم لوطنه وللثقافة كل هذه الخدمات الجليلة، ولم يشترك في وداعه إلا القليل من عارفي قدره الذين لم يتجاوزوا سبعة أشخاص .

 

أعتقد أن من الإنصاف أن يعاود المؤرخون ونقاد الأدب الكشف عن تراث هذا الرجل، الذي أعتقد أن الكثيرين ما يزالون يجهلون ما قدمه من معارف تاريخية وأدبية جعلت منه أديبًا ومؤرخا كبيرا .