الخميس 16 مايو 2024

"الشحاذ".. بين معنى الحياة وماهية الوجود

فن11-12-2020 | 17:21

رواية الشحاذ لنجيب محفوظ نشرت عام 1965، ما هى إلا تعبير مُكمل للبعد الفلسفي والنفسي والصوفي الإنساني، حيث مزجت بين الواقع والرمز فهي عمل يقوم على بطل واحد، وهي تعبير صادق عن بحث الإنسان عن ماهية وجوده، والبحث عن ذاته، فمن خلال شخصية بطل الرواية "عمر الحمزاوي" المحامي الناجح الذي يزهد في كل شيء فجأة دون إبداء أي أسباب، وهوثوري قديم، كان محبًا للشعر وينظمه، ولكن بعد سقوط أحلامه الثورية، وإلقاء القبض على صديقه عثمان الذي يدخل السجن ليدفع ثمن أفكار جيلاً كاملاً كان يحلم بالحياة والحرية، ومن ثما ينفرط عقد أصدقائه ليتخل كل واحد منهم عن أحلامه، فهو يتخلى عن الشعر، وصديقه مصطفى المنياوي يسعى وراء الثراء الذي توفره الرأسمالية لمريدها.

يستيقظ "حمزاوى" ذات يوم فاقدًا لهويته، يفقده شغف بأِياء كثيرة بإهتمامه بعمله ومكتبه، وزوجته زينب التى على وشك الولاده، وبإبنته الكبرى بثينة التى ترث موهبة الشعر من أبيها،ويهيم على وجه ويطرق أبواب الملاهى الليلية، ليبحث عن إجابة لأسئلته، فبات يسأل صديقاته الذى يتعرف عليهن فى سهراته المتعددة فى تلك الأماكن،فنراه يسأل صديقته وردة قائلاً"خبرينى يا وردة لماذا تعيشين؟"

"إنى أعيش، هذا كل ما هنالك، فقال لها أنتظر منك ردًا أفضل من هذا، ففكرت قليلاًثم ردت"لنقل إنى أحب الرقص، والإعجاب، وأتطلع إلى الحب الحقيقى، هذا يعنى أن الحياة عندك هى الحب".

وعندما سأل مسيو يزبك ماذا تعنى لك الحياة؟

"رفع الرجل حاجبيه الخفيفين فى دهشة ،ولما قرأ الجد فى وجه صاحبه قال: الحياة هى الحياة"

لذلك يخرج"عمر حمزاوى" فى رحلة طويلة تاركًا بيته ومكتبه، ليبحث عن معنى الوجود، ومعنى الحياة، ويمضى فى كل اتجاه ليجد ضالته، باحثًا عن تلك المعانى، يشحذ الحب تارة، والجنس تارة أخرى، ففى ظل عبثية الحياة والتيه فى  البحث عن معنى لوجودنا فى الحياة، يدور الإنسان يشحذ المعنى فى محاولة بائسة ليجد الطريق الذى يظن أن سيرشده إلى ماهية وجوده الحقيقى فى الحياة،حيث الشك والشكوى من الوضع الموجود ، فيتكشف الوضع الموجود وهى تبين الواقع المر المركون إليه فهى مزيج من الفلسفة والعرفان، فأحداث الرواية تدعونا إلى الإاعتزال لكن اعتزال مع تأمل فى مسار الحياة، فمن خلال مأساة "عمر حمزاوى" يتبين لنا تعاسة الإنسان وحيرته فى عالمه هذا، وأن الإنسان فى حاجة إلى كشف ذاته، فهو فى الواقع يشحذ ذاته وحقيقته، فيسأل عن ثنائية الموت والحياة التى أولى الوجوديين لها الإهتمام فى فلسفتهم الوجودية.

تعج الرواية من بدايتها حتى نهايتها بالتأمل فى ذات الإنسان وحقيقته الضائعة، فنرى الرواية تبدأ بوصف لوحة معلقة فى عيادة الطبيب والرواية مُلئت بالرموز والإشارات نلاحظ السحب الناصعة البياض التى تسبح فى محيط أزرق والخضرة التى تعطى سطح الأرض فى إستواء وإمتداد ترمز إلى النظرة التقليدية إلى هذه العناصر والتى تُعدها رموزًا للصفاء والنقاء الطبيعى، رغم أنها فى نظر"عمر" لا تتعدى الإحساس بالإستواء والإمتداد الذى سيظل يلاحقه طوال أحداث الرواية محاولاً الهروب منه،لتحقيق هدفه المنشود بعيدًا عن روتين الحياة، فقد مزج محفوظ بين تلك اللوحة وبين الصحراء التى فر إليها "حمزاوى" لتعبر عن مرحلة التيه التى وصل إليها.

نلاحظ أن شجرة السرو تم ذكرها بين ثنايا النص الأدبى أكثر من مرة وهى لها دلالة رمزية ، فهى ترمز إلى "الخلود"، أى الحياة ما بعد الموت ولذلك وجدت تلك الشجرة كثيرًا عند قبور الشعوب المختلفة كالإغريق والشعوب الرق أوسطية،والهند والصين وغيرها، فهى ترتبط إرتباطًا وثيقًا بالشؤون الخاصة بدفن الموتى والتى كان من شأنها حفظ الجسد بعد الموت.

تتجه رواية"الشحاذ" نحو الوجودية والبحث عن الحقيقة المطلقة، هذه الحقيقة التى تعبر عن الموقف المضاد ،الذى يجده بطل الرواية أجدر من أن يكون هائمًا فى المطلق، غارقًا فى روتين حياته الوئيد، فمن خلال الرواية نلاحظ تتطور التجارب ونوعها واختلافها فى المضامين والشخصيات، متحولة ومتغيرة بين الأمكنة والأزمنة التى تحكم النص الأدبى، فنرى أن بنية الأحداث محكومة بالإنفتاح والتطور وفق منطق قصصى قوامه ثنائيه وهم الإنفراج وواقع التأزم أحداثًا والمساعد والمعرقل شخصيات والإنغلاق أطرًا، غير أن تلك البنية فى وجهها الذهنى تبدو مغلقة على نفس الثنائية لا تتغير ثنائية"التأزم والإنفراج"، فقد وصل "الحمزاوى" إلى مرحلة أراد فيها أن يتوقف عن حياته المعهودة والمشروطة بشروط الولاء للأسرة والعمل، فأراد أن يهرب من مقدرات الحياة المأمنة، ويبحث عن الحياة المأمولة، عن حياة أخرى يجد فيها وجده وسلوانه عن ضياع أسئلته ومرارة الأجوبة التى تجعله يدور فى تلك الدائرة المفرغة التى لا مناص منها.

لذا نلاحظ الرواية متأزمة من بدايتها إلى نهايتها، حيث البحث عن معنى يبحث عنه البشر بأكمله ألا وهو معنى الوجود فنلاحظ العزلة التى اجتاحت "الحمزاوى" فى بداية الرواية:" يا إلهى شيئ واحد، زيب والعمل والداء الذى زهدنى فى العمل، هو الذى زهدنى فى زينب،هو القوة الكامنة وراء العمل هى رمزه، هى المال والنجاح والثراء، وأخيرًا المرض، ولأنى أتقزز من كل أولئك فأنا أتقزز من نفسى، أو لأنى أتقزز من نفسى، فأنا أتقزز من كل أولئك".

وأثناء شعوره المضجر بالحياة، وفى كل لحظات رفض الواقع المسيطر عليه، كانت تبرز دائمًا فى مخيلته ذكرى عثمان خليل الذى يتمثل دائمًا فى ذهنه ثائرًا قويًا يضرب أروع الأمثلة فى الصبر والجلد والقوة فهو الشاب الثائر الذى قضى سنوات شبابه بين جدران السجون، بينما هو وصديقه المنياوى انطلقا نحو طريق السعادة وحياة الترف والثراء المتخم، ومن ثم انغمس فى عزلة قاتله يبحث عن الحقيقة ذاتها فيقول "سأدق الجدار الأصم فى كل موضع حتى يرن صوت أجوف يشى بالكنز المدفون".

وفى معاناة البحث عن حقيقة الحياة تلك، هناك دلالاتين الأولى هى الرغبة فى إيجاد عقيدة جديدة راسخة علها تملاً فراغ النفس والدلالة الثانية هى الثأر من سنوات الراحة والترف،وطمأنينة النفس التى أُتخمت بفعل ثرائه الفاحش،وهو يعلم أن كل هذا كان ثمنًا غاليًا دفعه صديقه"عثمان" من حياته.

تصل أزمة"الحمزاوى" إلى ذروتها عندما يكتشف طريقًا جديدًا للبحث عن الحقية وعن أصل الوجود، حيث الهروب من الواقع، وإيقاع العقاب على النفس وذلك عندما قرر ترك كل مظاهر الترف، وينتقل إلى كوخ صغير يستجدى فيه اللحظات القاتمة التى عاشها فى الصحراء، يشحذ الإجابات من عالمٍ تسوده خيالات يحكمها منطق غير منطق الواقع،إلا أن تعلقه لم يفارقه فهو دائمًا يرى أفراد أسرته وأًدقائه،ولهذا كان يتسأل بعد حلمه" ماذا يعنى هذا الحلم،إلا أننى لم أبرأ بعد من نداء الحياة".

إن رحلة"الحمزاوى" الطويلة التى انتقل فيها من بيتًا إلى بيت ومن إمراءة إلى أخرى ومن الصحراء إلى كوخه أوصلته إلى الحقيقة التى حاول شحذها من الواقع الأليم، فكان عنوان الرواية ذات دلالالة رمزية على فعل بطل الرواية حيث كان من بدايتها إلى نهايتها كان شحاذصا يستجدى ذاته الضائعة بين تقلب الأيام والناس وتقلب نفسه، فكانت رحلة فى الكيان الإنسانى تسبر أغواره، ليتكشف لنا مدى تعقد التركيب النفسى للإنسان المعاصر، فعمر وصديقه كان دائم المقارنة بين الفن وتطور العلم الذى أوصل الإنسان إلى المريخ، وعوالم أخرى غير مكتشفة، ولكن فى النهاية بعد إصابة"الحمزاوى" أثناء مطاردة الشرطة لصديقه القديم"عثمان عزيز"، الذى تزوج بإبنته وعلى وشك أن تنجب له حفيدًا، كانت بمثابة لحظى تكشف الحقيقة، وعودة الروح المعذبة إلى مستقرها، فبعد إفاقته من غيبوبته، كان عليه أن يربى حفيده وامتداد صديقه القديم ولذلك عندما داهمت الشرطه كوخه محاولة القبض على صديقه، سمع صوت من بعيد يقول كل شيئ انتهى، ليهمس "الحمزاوى" بين سكرات غيبوبته ويوقل" ليس لشيئ نهاية"، وذلك إيذانًا بعودته إلى حياته وسيرته الأولى من جديدة بعد تجربة طويلة ورحلة مضنية.