السبت 29 يونيو 2024

فى ذكرى ميلاد مؤسس «دار الهلال».. حسين مؤنس يكتب: تاريخ التمدن الإسلامى

فن14-12-2020 | 18:38

يُعدّ جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 أخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.

 

تنشر «الهلال اليوم» مقال الدكتور حسين مؤنس:

 

فرغ جرجى زيدان من الجزء الأول من هذا الكتاب سنة 1910، أى بعد عامين من إنشاء الجامعة المصرية القديمة، وكانت مؤسسة أهلية حفز على إنشائها نزوع الشعب المصرى نحو العلم والمعرفة، وكانت السنوات التى انقضت بين ميلاد القرن العشرين وقيام الحرب العالمية الأولى فى سنة 1914 فترة خصبة ذات أثر حاسم فى تاريخ الفكر المصرى الحديث، فقد تخلص فى سهولة وسرعة تدعوان إلى العجب، من أسار الماضى وقيوده، واحتفظ فى نفس الوقت بلباب الحضارة المصرية وجوهر الفكر الإسلامي، ونجا كذلك من الانحرافات التى يتعرض لها الفكر المحلى عندما يواجه تيارات حضارية فكرية جارفة، كما كان الحال مع تيارات الفكر الغربى التى اجتاحت العالم كله آنذاك ونهج لنفسه نهجاً وسطاً حراً تجتمع فيه الآراء كلها دون شطط فى الجدل أو لدد فى الخصومة، كما يحدث عادة عندما تتلاقى تيارات فكرية مختلفة بل متعارضة، فمضى السلفيون يدبجون وينشئون ومضى المجددون يقرأون ويفكرون ويكتبون، وساد أولئك المجددين حماس شديد للاطلاع ونهم إلى المعرفة بل إن من كانوا ينشرونه إذ ذاك على صفحات «المقتطف» و«الهلال» و«البيان» من مقالات وبحوث ليشعر أنهم كانوا فى سباق كل منهم يريد أن يحمل إلى قرائه أقصى ما يستطيع من مادة فكرية نافعة، وكان شيوخ الفكر المصرى اليوم إذ ذاك شباباً متطلعاً طموحاً يتعلم اللغات دون معلم ويتطلع إلى العالم الجديد ويتصوره تصوراً سليماً دون رحلة، ويدلج فى مهامه الكتب القديمة دون مرشد، ويتصل بمفكرى الغرب ويساجلهم ويحاورهم عن تمكن وأصالة ويوفق فى ذلك كله توفيقاً يدعو إلى الإعجاب، وبفضل هذا الصبر الدءوب وضع ذلك الجيل المبارك أساساً سليماً للحركة الفكرية المعاصرة فى مصر والعالم العربى كله.

 

وجرجى زيدان من أعلام هذه المدرسة المكافحة فى سبيل العلم والمعرفة، ولد فى بيروت فى 14 ديسمبر 1861، وفى الثانية والعشرين من عمره أخذ طريقه إلى مصر مقتفياً آثار سلسلة طويلة من أعلام المدرسة الفكرية التى أزهرت فى ربوع الشام -ولم يكن قد تقسم بعد على الحال التى نراه عليها اليوم- خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، واستقر فى القاهرة حاملاً معه ثروة من التجارب احتشدت فى سنوات عمره القليلة على نحو لا نجد له مثالاً إلا فى الأقاصيص، فهذا الشاب خرج إلى الدنيا على شيء، وأراد هو أن يكون شيئاً آخر، وجد نفسه وهو فى السابعة من عمره يشقى من البكور إلى منتصف الليل ليعين أباه فى تحصيل رزق قليل، وتنقضى السنون وهو أبعد ما يكون عن عالم الفكر والعلم، ولكن وجدانه يهيم فى وادى الكتب وآفاق المعرفة، وإذا به يشق طريقه إلى بحر المعرفة شقا لا يتسع المقام لبسطه فى هذه السطور، ولقد حكى هو بنفسه قصة ذلك التحول فى مذكراته وقص علينا فى بساطة وصراحة كيف وجد طريقه، وكيف ثبت قدميه فى ذلك الطريق بكفاح صبور يروع النفس، وأنا أشير إلى ذلك هنا لأن قصة كفاحه تلك هى أحسن تفسير لما نجد فى مؤلفاته من التبحر والإحاطة وصدق الملاحظة وعمق النظرات، فما كان هذا كله ليتأتى لرجل إلا إذا كانت حياته قد أذكت فى كيانه فحولة كفيلة بالوصول بصاحبها إلى ما لا يصل إليه من لم يعرف مغالبة الظروف ومطاولة الأيام.

 

استقر جرجى زيدان فى القاهرة فى أكتوبر سنة 1883، واتخذ مصر له وطناً من ذلك التاريخ، وكان قد قرأ فى العربية قراءات طويلة عميقة فى الكتب العربية ، وملك ناصية اللغة الإنجليزية بعد سنوات من الدرس الصبور، وبهذه الأدوات أخذ يهيئ لنفسه مكاناً فى عالم الترجمة والتأليف والصحافة فى مصر، وانقضت سنوات وهو يؤلف ويترجم ويكتب، واستهوته الصحافة الأدبية فعمل فى المقتطف، ثم أنشأ مجلة الهلال فى عام 1892، وأخذ ينشر فيها مقالاته وبحوثه، واستهواه التاريخ وتاريخ الأدب فمضى يؤلف فيهما.

 

وقد أخرج جرجى زيدان الجزء الأول من تاريخ التمدن الإسلامى سنة 1910، بعد أن مهد لذلك الكتاب طويلاً، فقد أخرج قبل ذلك «روايات تاريخ الإسلام» لكى يهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومدارسهم لمطالعة هذا التاريخ بما نشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعاً فى «الهلال»، لأن مطالعة التاريخ الصرف تثقل على جمهور القراء وخصوصاً فى بلادنا، والعلم لا يزال عندنا فى دور الطفولة، فلا بد من الاحتيال فى نشر العلم بيننا بما يرغب الناس فى القراءة، والروايات أفضل وسيلة لهذه الغاية كما قال فى مقدمة الكتاب، ولا شك أنه قرأ كثيراً جداً لكى يكتب هذه القصص التاريخية التى لم يدانه فيها أحد من كتاب العربية، فكأنه كان يعد نفسه لدخول ميدان تاريخ الحضارات بتلك القراءات المتطاولة، وكان قد عانى فى أثناء ذلك كتابة التاريخ، فأخرج فى سنتى 1888 و1889 «تاريخ مصر الحديث» فى مجلدين، و«تاريخ الماسونية» و«التاريخ العام» وهو موجز فى تاريخ قارتى آسيا وإفريقيا، وعلى الرغم من أن دراسة الأدب قد استهوته فى مطالع حياته الأدبية والعلمية، حتى أن أول كتاب ألفه كان فى فقه اللغة العربية، فإن التاريخ أخذ يجتذبه رويداً رويداً، ولقد عبر المرحلة من الأدب إلى التاريخ وهو يؤلف روايات تاريخ الإسلام، ولو أننا تتبعناها بحسب تواريخ تأليفها للاحظنا كيف أن الخيال القصصى فى البواكير منها أغلب، والبحث التاريخى فى الأخريات أظهر.

 

ومنذ أن أنشأ مجلة الهلال سنة 1892 تجلى اتجاهه نحو التاريخ، حتى أن اهتمامه بالأدب تحول إلى اهتمامه بتاريخ الأدب، ولو أننا تصفحنا السنوات الأولى من الهلال لوجدنا معظم كتابات جرجى زيدان دراسات وأبحاثاً تاريخية، ولعل أظهر مثال لذلك سلسة مشاهير الشرق، وهى تراجم بارعة تذكرنا بتراجم ابن خلكان.

 

وقد تهيب جرجى زيدان التأريخ للحضارة الإسلامية، ووصف شعوره هذا فى مقدمة الطبعة الأولى للجزء الأول من تاريخ التمدن الإسلامي، وكان محقاً فى ذلك التهيب، فإن الميدان كان مجهولاً على أيامه، بل كان فن التأريخ للحضارات جملة فناً جديداً فى طور التكون فى العالم كله إذ ذاك.

 

ولم يكن التاريخ قد أصبح إذ ذاك علماً محدد المعالم كما هو الحال فى أيامنا، بل كان فى الغالب لوناً من الفلسفة.. كانت مذاهب تفسير التاريخ فى عنفوانها، وكان المؤرخون منقسمين إلى هيجليين وهيجليين محدثين وماركسيين وابتداعيين (رومانتيين) وداروينيين، وتعددت المذاهب وكثرت الأسماء، فلا نجد بلداً غربياً واحداً إلا حفل بعشرات من المؤرخين المفكرين الذين خلفوا من الكتب ما لم تتضاءل قيمته إلى اليوم وإن تقادم العهد بما فيها من معلومات، فقد كان هذا عصر ليوبولد رانكة وسانت بيف ودرويسن وماكولى وفينلى وتيكنور وتريتشكة ومومسن ودى توكفيل وفوستل دى كولانج وميتلاندوتين وبرونتيير ورينان وبوركهارت، وغيرهم ممن لا يحصون كثرة.

 

كان هذا دون شك هو العصر الذهبى للتاريخ كفن، وكان التاريخ كعلم ومنهج يأخذ طريقه رويداً نحو الثبات، وكان المثقفون فى العالم كله يتجهون نحو التاريخ، حتى الشعراء مثل شيلر، والكتاب مثل كارلايل، أصبحوا أميل إلى المؤرخين منهم إلى أهل الشعر والأدب، وهذا هو الذى يفسر لنا تحول جرجى زيدان من الأدب إلى التاريخ، ويفسر لنا أيضاً كيف أصبح مؤرخاً ثابت القدم، فقد كانت كتب التاريخ أحسن ما تخرجه المطابع فى ذلك العصر، وكان الرجل شديد النهم إلى القراءة والاطلاع، فنهل من هذه المناهل وروى عن سعة، وسار فى ركب المؤرخين فلم يلبث أن فارقه تهيبه، وأصبح بفضل دأبه على العمل وصبره على المطالعة والبحث، عمدة مؤرخى العرب على أيامه.

 

وكانت الظروف مواتية له لإدراك هذه الغاية، فقد كان الاستشراق على أيامه فى أزهى عصوره.. كان الشرق يبدو أمام أوروبا إذ ذاك وكأنه هدية ثانية أهدتها المقادير لها لتتابع عملية الفتح والاستيلاء والاستغلال والاستعمار التى بدأتها عندما اكتشفت العالم الجديد، فتغلبت الأمم الأوروبية على معظم بلاد إفريقيا وآسيا وتقاسمتها فيما بينها مستعمرات وحمايات ومناطق نفوذ، وأخذت كل دولة أوروبية تجود أدوات الاحتلال والاستعمار الدائمين، وكان الاستشراق إحدى هذه الأدوات.. فقد كان لا بد من دراسة هذه البلاد وأهلها وكل ما يتصل بها وبهم، حتى تقوم السيطرة على أسس ثابتة من العلم بكل شيء.

 

من هنا قامت جمعيات الاستشراق ومعاهد الدراسات الشرقية فى كل بلد أوروبي، وأعانت الحكومات ذلك كله بمالها وتأييدها المادى والأدبي، واجتهدت الجامعات فى إنشاء كراسى للدراسات الشرقية وتوفير الأساتذة الذين يقومون عليها، وأرسلت الجمعيات الجغرافية المستكشفين والمستطلعين والجواسيس من كل صنف ولون، وقامت مجلات الدراسات الشرقية بنشر نتائج ذلك كله، وأصبح الشرق وأهله موضوع اهتمام فكرى علمى عام، حتى كبار الأدباء والمفكرين اتجهوا إلى المشرقيات يكتبون فيها، ومن ذلك النشاط كله نشأت طوائف من العلماء والباحثين اختلفت أمزجتهم بين عالم أحب هذه الدراسات لذاتها فأخلص لها وكتب فيها بشيء من الإنصاف، لأنه بطبعه عالم حر لا يخضع لنزوات السياسة ومطامع السياسيين إلا بمقدار، وعالم وضع علمه كله فى خدمة السياسة وغدا داعية خبيثاً يستخدم العلم فى تأييد قضايا سياسية وأغراض استعمارية شريرة تتنافى مع مبادئ الإنسانية، وفيما بين هاتين الطائفتين جماعات تميل إلى هذا المذهب أو ذاك، وانضم إلى هؤلاء جميعاً نفر من رجال الدين من شتى طوائف النصرانية أقبلوا على هذه الدراسات وتسارعوا إلى بلاد الشرق للدراسة والبحث ظاهراً، وللتبشير الدينى ظاهراً وباطناً.

 

واكب هؤلاء جميعاً على الدراسة والبحث، وأقبلوا على الرحلة والكشف بما عرف عن الأجناس الأوروبية من صبر ودأب، فلم يلبثوا أن أحاطوا بالكثير، ووصلوا فى العلم بأمور الشرق وأهله إلى نتائج لا تخطر على البال فقرؤا أو ترجموا معظم ما وصل إلى أيديهم من كتب ومخطوطات ووثائق ونقوش ونصوص، وألفوا فى ذلك كله كتباً وأبحاثاً على أعظم جانب من الأهمية لدارسى الشئون الشرقية عامة والعربية والإسلامية خاصة، وطبقوا فى البحث والتأليف مناهجهم العلمية التى يدرسون بها شئون أنفسهم، فبدت أبحاثهم ومنشوراتهم وكتبهم وكأنها أهدى إلى الإحاطة بشئون الشرق من مخطوطات العرب وكتبهم التى كانت إلى ذلك الحين ساذجة بسيطة كما كانت فى العصور الوسطي.

 

وسط هذا الجمع الحاشد من الباحثين والدارسين ظهر جرجى زيدان، وانفرد من بين معاصريه من مثقفى العرب بالمعرفة التامة للإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية والإلمام بأطراف من الإيطالية والإسبانية، مع معرفة بأصول فقه اللغات، وكان قد توفر عليه زماناً حتى برع فيه، فأقبل يقرأ ويدون ويسجل بهذا الشوق إلى المعرفة الذى كان أظهر خصاله، وأكب على ذلك العمل ست عشرة ساعة متوالية فى اليوم، حتى لقد كان يكتفى من النوم بأربع ساعات إلى آخر حياته.

 

وكانت الدراسات العربية فى مهدها فى الشرق إذ ذاك، وكان من يكتبون فى تاريخ الإسلام يجرون على منهج رواة المسلمين القدامى مع شئ من التحسين القليل، كما ترى فى «محاضرات التاريخ الإسلامي» للشيخ محمود الخضري، ولم يكن بعالم الاستشراق أو بالأبحاث الجديدة صلة، فظهر جرجى زيدان بمعرفته للغات واطلاعه على المناهج الحديثة، فكان أشبه بهمزة وصل بين الحركة العلمية العربية الناهضة وحركة الاستشراق المتدفقة النشاط فى أوروبا وأمريكا، واتصلت العلاقات بينه وبين أعلام مثل تيودور نولدكه ويوليوس فلهاوزن ومارجوليوث واجناتس جولدتسيهر وأمدروز وإدوارد سخاو ووليام رايت ودنكان بلاك ماكدونالد.

 

وكان معظم هؤلاء يفدون على القاهرة للدراسة أو للبحث عن المخطوطات أو لنشر بعض ما يعدونه من مخطوطات عربية، فاتصلوا بجرجى زيدان وأخذوا عنه وأخذ عنهم، ووجدوه يبحث على أسلوبهم مع تفوقه عليهم فى العلم بالعربية فعظمت قيمته فى أعينهم وأقبلوا يقرأون ما يكتبه فى الهلال وما ينشر من كتب، وتصدى نفر منهم لترجمة بعض روايات تاريخ الإسلام، فكانت هذه الروايات من أول ما ترجم إلى اللغات الغربية من عيون الأدب العربى الحديث، وعندما أعلن عن عزمه على التأليف فى تاريخ الحضارة الإسلامية استقبل الخبر فى مجلات الاستشراق استقبالاً عظيماً، وتلقف المستشرقون والمسلمون فى الهند وفارس وتركيا الجزء الأول بترحاب كبير، وعجب الكثيرون من المستشرقين من قدرته على تأليف هذا الجزء على هذا النحو، وشرع بعضهم فى ترجمته إلى الإنجليزية والفرنسية، وأفرد كارل بروكلمان لجرجى زيدان فصلاً مطولاً فى تاريخ الآداب العربية.

 

وأثار الكتاب لأول ظهور أجزائه الأولى نشاطاً واسع المدى فى أبحاث التاريخ الإسلامي، وأقبل الناس عليه يتدارسونه، وكانت الجامعة المصرية قد قامت وكثر الطلاب فى قاعات الدرس وكانوا يستمعون إلى محاضرات كارلو نالينو وإينو ليتمان إلى جانب ما كانوا يسمعون من محاضرات الشيخ الخضري، فوجدوا فى «تاريخ التمدن الإسلامي» طلبتهم وأصبح معتمدهم، وتنبهت الجامعة إلى مكانة هذا العالم الجليل، فدعته إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات فى التاريخ الإسلامى فأعد المحاضرات، ولكن الظروف حالت بينه وبين إلقائها فسلم الجامعة مخطوط هذه المحاضرات كاملاً، واندرج المخطوط بين كتب مكتبة الجامعة، حتى نبهنى إليه الأستاذ الصديق إميل زيدان، فقرأته ثم نقلت منه صورة فوتوغرافية تمهيداً لنشره، وأرجو أن يتيسر ذلك فى القريب بإذن الله.

 

وقد طبع «تاريخ التمدن الإسلامي» بعد ذلك مراراً، ولم يؤلف أحد من العرب فى الموضوع كتاباً يشبهه إلى الآن، وإن كان الكثيرون قد ألفوا فى نواح مختلفة من الحضارة الإسلامية، ولكنهم لم يمسوا النواحى العسيرة التى أقبل جرجى زيدان على التأليف فيها فى ذلك الزمن المبكر، كالناحية المالية وهى من أعسر نواحى التاريخ الإسلامي، ومعلوماتنا عنها قليلة متفرقة فى عدد قليل من الأصول، والكتب العربية القديمة شيء عجيب، فربما استقصيت كتب الخراج والأموال بحثاً عن شئ يتصل بالنظام المالى فلا تجده، ثم تتناول كتاباً فى مختار الشعر لترفه به عن نفسك، فإذا بك أمام ما تطلب، وقد تبحث عن معلومات تهمك عن معاوية بن أبى سفيان، فلا تجدها فيما بين يديك من كتب التاريخ، وتجدها مع ذلك فى مادة «برذون» فى كتاب «حياة الحيوان للدميري» وهكذا، وليس أمامك والحالة هذه إلا أن تقرأ كل شيء مطبوع أوغير مطبوع إذا ساعفك الصبر وامتد بك الأجل، ولهذا فقلما يستقصى إنسان موضوعاً ولا يجرؤ واحد منا على القول بأنه قرأ كل ما كتب فى موضوعه، لأنه بادئ ذى بدء، لا يعرف أين تفرقت أشتات المادة التى يطلب، وقد حكى جرجى زيدان فى مقدمة الكتاب كيف استخرج رواتب القضاة من معلومات متفرقة فى ثلاثة مراجع متباعدة، وكل مؤرخ من يستطيع أن يروى شيئاً مما اتفق له من هذه النوادر، فإذا نحن تصورنا الحشد الهائل من المعلومات التى أتى بها جرجى زيدان فى كتابه هذا بأجزائه الخمسة، استطعنا أن نقدر الجهد الذى بذله فى القراءة والتنقيب.

 

كان هذا الكتاب فريداً فى بابه يوم صدر لأول مرة، ولا يزال فريداً فى بابه إلى اليوم، ولقد أبدى مؤلفه فى سياق كلامه آراء أثبتت الأبحاث التى جدت بعد ذلك صحة الكثير منها، وظهرت بعد ذلك أصول جديدة أضافت إلى معلوماتنا أشياء جديدة هنا وهناك، فحرصت عند إعداد هذه الطبعة على إضافة ما جد من المعلومات والآراء والمناقشات والنتائج فى الهوامش، وحافظت على نص المؤلف سليماً كما تركه صاحبه، فيما عدا تعديلات قليلة فى ألفاظ فى المتن.

 

كان لا بد من إخراج هذه الطبعة الجديدة من هذا الكتاب، وقد قمت بها إكراماً لعميد من عمداء الفكر العربى الحديث، وتكريماً لأستاذ من أساتذة المدرسة المصرية فى التاريخ، وأعتقد أن دار الهلال تقدم لأهل التاريخ والدراسات الإسلامية عامة خدمة جليلة بقيامها على نشر تاريخ التمدن الإسلامى على هذه الصورة.

 

مقدمة الطبعة الأولى

لا مشاحة فى أن تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن فى العصور الوسطي، أو هو حلقة موصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث، فيه انتهى التمدن القديم، ومنه أشرق التمدن الحديث، وقد علقنا بدرس هذا التاريخ منذ أعوام، وكنا نغتنم ساعات الفراغ من إنشاء «الهلال» ونعلق ما يبدو لنا من حقائقه على أمل التفرغ لتأليف تاريخ مطول فيه، وقد أعلنا عزمنا على ذلك غير مرة، ولانزال على هذا العزم بعون الله ونظراً لما نعتقده من افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم-لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم - ما فتئنا نختلس الفرص لنشر ما يسهل تناوله وتدعو الحاجة إليه فى حينه مما يتعلق بهذا التاريخ، وأخذنا نهييء أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعاً فى «الهلال»، لأن مطالعة الصرف تثقل على جمهور القراء وخصوصاً فى بلادنا، والعلم لا يزال عندنا فى دور الطفولة ، فلابد لنا من الاحتيال فى نشر العلم بيننا بما يرغب الناس فى القراءة، والروايات أفضل وسيلة لهذه الغاية.

 

وقد صدر من تلك السلسلة إلى الآن ست حلقات تتضمن وصف أهم وقائع التاريخ الإسلامى إلى مقتل بن الزبير وخلوص الخلافة لعبد الملك ابن مروان، وقد آنسنا من جمهور القراء شوقاً إلى التوسع فى هذا التاريخ واستطلاع كنه التمدن الإسلامي، ورأينا أفاضل كتابنا تطلعاً إلى البحث فى هذا التمدن والنظر فى علاقته بالتمدن الأوروبى الحديث، وكتب إلينا غير واحد من أهل الأدب يسألوننا رأينا فى ذلك، فرأينا أن نجعل تتمة السنة العاشرة من الهلال كتاباً فى هذا الموضوع نبين فيه تاريخ هذا التمدن ونستطرد مع الكلام إلى علاقته بالتمدن الإفرنجي.

 

وتاريخ الأمة الحقيقى إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها، لا تاريخ حروبها وفتوحها، وخصوصاً على ما تعوده مؤرخو العرب فى تاريخ الإسلام، فإنهم يسردون الوقائع على علاتها، وقلما يشيرون إلى الأسباب التى تربط تلك الوقائع بعضها ببعض بحيث يرتاح العقل إلى تعليلها والنظر فيها وترسخ فى ذهنه حقيقة تلك الأمة، على أننا نظنهم معذورين فى ذلك باعتبار ما كانت تدعوهم إليه الحال من تجنب الخوض فى أسباب تلك الوقائع، وأكثرها لا ينجو الباحث فيه من الانتصار لأحد الجانبين وهم يتجنبون ذلك، ولعل لهم عذراً آخر.

 

أما الآن فليس هناك ما يمنعنا من الخوض فى هذا العباب، وقد حاول غير واحد من المستشرقين، من الإفرنج وغيرهم استطلاع كنه ذلك التمدن، فلم يجدوا فى كتب القوم ما يشفى غليلاً، لتشتت تلك الحقائق وتبعثرها، ولذلك لما نشرنا فى العام الماضى عن عزمنا على تأليف هذا الكتاب، كتب إلينا جماعة من هؤلاء الأفاضل يستغربون أقدامنا على ركوب هذا المركب الخشن.

والحق يقال إننا أعلنا هذا العزم ونحن لا نتوقع العثور على ما يزيد على صفحات تتمة السنة العاشرة من مجلة «الهلال» (160 صفحة) فشمرنا عن ساعة الجد وبذلنا جهد المستطاع فى مطالعة ما كتبه العرب فى الأدب والتاريخ والسياسة وسائر العلوم فيما وفقنا إليه من الكتب المطبوعة والمخطوطة.

 

ومن أمثلة ما قرأناه من كتب التاريخ والفتوح والتقاويم مؤلفات البلاذرى والمسعودى وابن الأثير وابن خلكان وأبى الفدا وابن خلدون وابن طباطبا والسيوطى والمقرى من المؤرخين، وابن خرداذبة والاصطخرى وياقوت الحموى من الجغرافيين ومن كتب الأدب الأغانى لأبى الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكشكول والمستطرف للإبشيهى وسراج الملوك للطرطوشى وغيرها، ومن كتب التفسير والحديث والفقه تفسير الرازى والزمخشرى وصحيح البخارى ومشكاة المصابيح والهداية وغيرها.

 

ومن كتب السياسة والإدارة كتاب الخراج لأبى يوسف، وكتاب الخراج وصنعة الكتابة لقدامة بن جعفر، والأحكام السلطانية للماوردى والعقد الفريد للملك السعيد ومقدمة ابن خلدون، وغير ذلك من الكتب فى موضوعات أخرى لا يخطر للمطالع أنها تفيده فى هذا الموضوع،وقد عثرنا فيها على فوائد جمة، مثل حياة الحيوان للدميرى وعجائب المخلوقات للقزوينى وغيرهما، فضلاً عن المعاجم والفهارس مثل كشاف اصطلاحات الفنون للنهانوي، وكتاب كشف الظنون لحاجى خليفة وكليات أبى البقاء وغيرها وكل ذلك فى اللغة العربية.

 

ثم طالعنا مايستطاع الوصول إليه مما ألفه الإفرنج فى الإسلام وتاريخه وآدابه فى اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، مثل كتاب جستاف لوبون الفرنسى فى تمدن العرب وكتاب ليبو فى تاريخ الدولة الرومانية الشرقية المعروفة بالبيزنطية ومقالات فى المجلة الأسيوية الفرنسية، وكتاب فون كريمر بالألمانية فى تاريخ تمدن المشرق، وكتاب مولر الألمانى فى تاريخ الإسلام فى الشرق والغرب، وكتاب ستانلى لين بول الإنجليزى فى الدول الإسلامية وكتاب إدوارد جيبون الإنجليزى فى اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها وغيرهم.

 

وقد زاد عدد ما طالعناه من الكتب العربية والإفرنجية على مائتى مجلد عدا ما راجعناه من القواميس العامة والموسوعات على اختلاف اللغات والموضوعات، مع ما رسخ فى ذهننا من مطالعة تاريخ المشرق بتوالى الأعوام، فوفقنا بعد كل ما تقدم إلى ما يملأ أضعاف الكتاب المطلوب من الأبحاث الفلسفية فى تاريخ ذلك التمدن العجيب، من الوجوه السياسة والإدارية والعلمية والأدبية والأخلاقية، فلم نر بدأ من تقسيم الموضوع إلى أجزاء نصدر الجزء الأول منها الآن، ثم نصدر ما يليه من الأجزاء تتمة للسنين التالية من الهلال إن شاء الله.

 

فالجزء الأول، وهو هذا أساس مايليه من الأجزاء، وقد صدرناه بمقدمات تمهيدية فى العرب والتمدن وحال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة قبيله، والحكومة فى الجاهلية وتاريخ الكعبة وقريش إلى ظهور الدعوة الإسلامية وكيفية ظهور هذه الدعوة، وانتشار الإسلام والفتوح الإسلامية إلى قيام الدولة الأموية فالعباسية فالأموية الأندلسية فالفاطمية فغيرها، وقد نظرنا فى كل ذلك نظر الناقد، فلم نذكر حادثة إلا اسندناها إلى عللها وأسبابها وبينا ما نتج عنها وذكرنا علاقتها بما بعدها وخصوصاً فيما ساعد العرب على فتح المملكتين الفارسية والرومية (البيزنطية) مع قلة عددهم وضعف معداتهم، وهو بحث فلسفى لم يستوفه أحد فى لغة من اللغات على ما نعلم - إلا ما قد تراه فى كتب الباحثين من الإفرنج وأكثره مختصر لا يروى غليلاً، ولا يعابون فى ذلك والموضوع بعيد عنهم ولا علاقة له بأحوالهم ولا بأديانهم و لا بآدابهم ولا بتاريخهم إلا قليلاً - وإنما اللوم علينا نحن أبناء هذا اللسان - وقد سبقنا الإفرنج إلى البحث فى تاريخ بلادنا وأمتنا وآدابنا وأخلاقنا.

وعمدنا بعد تلك المقدمات إلى النظر فى المملكة الإسلامية فى إبان عزها وفى إحصائها . ثم فى الدولة الإسلامية وإدارتها وكيف نشأت ونشعبت إلى الوظائف المتعددة كالخلافة وما يتبعها والوزارة وولاية الأعمال وبيت المال والجند وسائر الدواوين، ثم ذكرنا تاريخ كل من هذه الإدارات والوظائف وما تفرع منها أو ألحق بها، وقد عانينا المشاق الكبرى فى استخراج حقائق تلك التواريخ من كتب القوم، فربما قرأنا المجلد الضخم فلا نستفيد إلا فقرة أو فقرتين، وقد لا تتم الحقيقة الواحدة إلا بمطالعة المجلدين أو الثلاثة.

 

ومن أمثلة ما تفق لنا من هذا القبيل أننا بعدما كتبنا تاريخ ولاية الأعمال وتاريخ القضاء فى الدولة الإسلامية، عمدنا إلى البحث عن رواتب العمال ورواتب القضاة فى زمن الخلفاء الراشدين، فوجدنا فى فتوح البلدان للبلاذرى أن عمر بن الخطاب «بعث عماراً بن ياسر على صلاة أهل الكوفة وجيوشهم، وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض.. إلخ» لكنه لم يذكر مقدار عطاء أحد منهم، ثم وجدنا فى كتاب سراج الملوك للطرطوشى فى باب سيرة السلطان فى الإنفاق من بيت المال وسيرة العمال قوله:« ولم يقدر عمر الأرزاق إلا فى ولاية عمار فأجرى على عمار ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه، وعبد الله بن مسعود مائة درهم كل شهر.. إلخ» ولم يذكر منصب عمار ولا منصب ابن مسعود.

 

ولكننا جمعنا بين الروايتين فاستنتجنا منهما أن راتب من يتولى الجيوش والصلاة فى عمل من الأعمال، كان على عهد عمر بن الخطاب ستمائة درهم وراتب القاضى مائة درهم فى الشهر، وعلمنا من قرائن أخرى أن الذى يتولى الصلاة والجيوش فى أيام عمر هو العامل، ومن قرائن أخرى أن عماراً كان عاملا لعمر على الكوفة، فتحققنا من مجموع ما تقدم أن راتب العامل كان على عهد عمر ستمائة درهم وراتب القاضى مائة درهم - وقس على ذلك.

 

وسنبحث فى الجزء الثانى عن ثروة المملكة الإسلامية وغنى أهلها وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء فى مجالسهم وألعابهم واهتمامهم بالعلم والعلماء والشعر والشعراء والدخول عليهم وجلوسهم للناس وقصورهم وبذخهم وركوبهم وضيافتهم وكرمهم والأبنية الإسلامية والمدن الإسلامية ......إلخ.

 

والجزء الثالث يبحث فى العلوم والآداب والشعر والصناعة وحالها فى الشام والعراق قبل الإسلام، وكيف ارتقى إليها المسلمون وتاريخ ذلك الارتقاء ومقداره والجزء الرابع يبحث فى الآداب الاجتماعية فى تلك العصور الزاهرة على ما يقتضيه المقام، وسنختم المقال ببيان نسبة التمدن الأفرنجى الحديث إلى التمدن الإسلامي، ويكون الكلام فى ذلك جلياً واضحاً بعد تفصيل عوامل هذا التمدن فى الأجزاء السابقة.

 

فترى مما تقدم أن الموضوع شاق ووعر، فضلاً عن حداثته فى عالم التأليف مع قصورنا فى هذا الشأن، وفى ذلك تمهيد للعذر على ما قد يشوب هذا الكتاب من النقص ونتقدم إلى أهل الفضل أن يؤازرونا بملاحظتهم وآرائهم للانتفاع بها فيما سيصدر من الأجزاء التالية إن شاء الله تعالي.

مقدمة الطبعة الثانية

ظهر هذا الكتاب منذ بضع عشرة سنة، فتناوله الأدباء والعلماء بالتقريط والانتقاد فى الصحف العربية وغيرها وجاءتنا كتب أهل العلم من أقطار العالم الإسلامى ينشطوننا ويستحدثوننا، وفيهم من جاهر صريحاً أنه لم يكن يظن تأليف مثل هذا الكتاب ممكناً لقلة المآخذ المساعدة على ذلك.

 

فزادنا تنشيطهم ثباتاً على هذا العمل حتى ظهر الكتاب فى أجزائه الخمسة وكان له وقع خاص عند أدباء اللغات الأخري، فأخذوا فى نقله كله أو بعضه إلى ألسنتهم فنقل إلى أهم اللغات الشرقية - نعنى الفارسية والأوردية والتركية، ظهر مطبوعاً فيها كلها، ونقل إلى أهم لغات أوروبا، نعنى الإنجليزية والفرنسية، وقد ظهر جزؤه الرابع فى الأولى وسيظهر جزؤه الأول فى الثانية، وتضاعف الإقبال على الطبعة العربية حتى نفدت نسخ هذا الجزء منذ بضعة أعوام، ونحن نتحين الفرص لإعادة طبعه، فلم نتمكن من ذلك إلا الآن.

 

وما برحنا منذ صدور الطبعة الأولى ونحن نجمع ما يمر بنا من الفوائد التى يحسن إدخالها فى هذا الكتاب عند إعادة طبعه، فاجتمع لدينا من ذلك شيء كثير أضفناه إلى هذه الطبعة، ونذرنا وصل إلينا من انتقادات المنتقدين أو ملاحظات الملاحظين مما نشر فى الصحف أو الكتب أو جاءنا فى الكتب الخصوصية ، وتدبرناها كلها بإخلاص وروية فأصلحنا ما صح عندنا وأغفلنا الباقى - وهو الأكثر - وإنما توهم المنتقدون خطأه لأنهم نظروا فيه من وجه غير الذى نظرنا منه نحن ، أو إننا اطلعنا عليه فى مصادر لم يطلعوا عليها، فاكتفينا فى هذه الحال بذكر المصدر الذى عولنا عليه فى ذيل الصفحة.

 

فجاءت هذه الطبعة أكبر من الأولى وأوفر مادة وأحسن ترتيباً وأكثر صوراً وأشكالاً، وفيما أضفناه من الصور أو الخرائط ما يزيد البحث إيضاحاً.

 

فعسى أن يقع عملنا هذا موقع الاستحسان وحسبنا أننا قمنا ببعض الواجب فى سبيل أداب هذا اللسان.

مدرسة زيدان الأدبية.. رواية تتشكل وأدب يتجدد

 

إدريس الخضراوى

تسعى هذه القراءة إلى إبراز الأهمية التى تكتسيها مساهمة جرجى زيدان فى تكون المؤسسة الأدبية الحديثة فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وبالتالى الموقع الذى شغله هذا المثقف ضمن هذه المؤسسة بحكم ريادته فى تقديم الرواية بوصفها جنسا أدبيا جديدا فى مواجهة النص الثقافى الذى كانت تحرص المؤسسة الأدبية التقليدية على استمراريته.

 

من هذا المنظور، نعتبر أن العمل الذى نهض به جرجى زيدان مع مثقفى عصره فى إطار المؤسّسة الأدبية الحديثة مَثلَ خلاصة أساسية لتكون رأسمال نوعى خاص شجع الكتاب والمثقفين الحداثيين على النهوض بمراجعة عميقة لوظيفة الأدب وعلائقه بالمبدع والمتلقي، تلك العلائق التى تلائم استقلالية الأدب فى مجتمع مركب قيد التشكل، ومن ثم إعادة بناء مفهوم الكتابة انطلاقا من تبئير أسئلتها حول شرط إنسانى مرغوب وغائب، ومواجهة التعابير الثابتة والرّاسخة بفعل التقليد ووضعها موضع تساؤل ومراجعة، وتفكيك ما تنطوى عليه تلك التعابير من توجهات جمالية وأسلوبية بل سياسية أحادية الجانب.

 

إن السّعى لملامسة مفعولات هذه المساهمة فى الحداثة العربية يتطلب منا التوقف قليلا عند ملامح المرحلة التى تشكلت فيها، والتعرف إلى أنماط الخطابات السائدة فيها، باعتبار علاقتها بالحقل الاجتماعى والفئات التى تتشكل فيه. وفى هذا السياق يمكن التمييز فى الحركية المزدوجة التى طبعت الحقل الثقافى العربى خلال مرحلة النهضة، بين مبدأين هما مبدأ الاستعادة والاستعارة. لقد تمثلت الاستعادة فى عمليات الإحياء التى لم تقتصر على اللغة العربية، وإنما امتدت إلى الأجناس الأدبية. وفى هذا السياق تتعين الجهود التى انطلقت من جرمانس فرحات (ت. 1732) إلى ناصيف اليازجى (ت. 1871) فإلى أحمد شوقى (ت1931) باعتبارها الحاضنة التى انطلقت منها أهم ورشات العمل التى نهض بها مثقفون كثيرون، منها ما تناول اللغة والمعجم (فى الجاسوس على القاموس)، والنحو والصرف(مبحث المطالب) والبلاغة والعروض...، ومنها ما تناول الأجناس الأدبية كافة، فتعاقبت المقامات (مجمع البحرين)، والرحلات إلى أوروبا والعالم الإسلامي، والإخوانيات الحقيقية منها والمتخيلة، والشعر بأغراضه كافة، كما انكب الأدباء على شرح دواوين السلف، أو ممارسة أساليب النقد القديم كما فعل حسين المرصفي(الوسيلة الأدبية إلى علوم العربية (1875).

 

ومع فارق زمنى بسيط يسجل بطرس الحلاق تصاعد الاقتباس من التراث الغربي، حيث تعرّف الأدب العربى لأول مرّة على جنسين أدبيين جديدين هما المسرح والرواية. ومع بداية القرن العشرين أصبح تحت تصرف القارئ العربى مئات من المؤلفات المتفاوتة الصنعة، احتلت فيها روايات جرجى زيدان موقع الصدارة.

 

يمكن القول إذا، إنه بتأثير من نشاط الترجمة ومساراتها وما عبّرت عنه من ضروب إعادة تملك المعرفة والعلوم الأجنبية خاصة الغربية منها فى الحقل الثقافى العربي، واعتبار تلك العلوم عنصرا حاسما فى تأسيس الثقافة العصرية والتفكير المنطقى ورؤية جديدة للعالم، أصبح الأدب موضوعا إشكاليا للتأمل والتفكير، ولبناء المعرفة بمفهومه وبإشكالاته المعقدة فى إطار المؤسّسة الحديثة التى يقوم عملها على جهود فرق من المؤلفين والمترجمين والنقاد والمجلات الصادرة عن دور النشر ومؤسسات ومعاهد، مستفيدة من الثقافة العربية الغربية، وما أحدثته من ضروب الحاجة إلى المراجعة الجذرية للتصورات والأفكار التى كانت تستند إلى الضوابط التى تضعها بلاغة «الإحياء» لتحديد مفهوم الأدب والدور المنوط به، وكذلك الأدب المسموح به.

 

من أهمّ المجلات التى تعينت باعتبارها دعامة من دعامات هذه المؤسّسة الأدبية الحديثة يمكن الإشارة إلى (الجنان) 1870 لبطرس البستاني، ثم لسليم البستاني، و(المقتطف) 1876 ليعقوب صروف و(الهلال) 1892 لجرجى زيدان و(الجامعة) 1899 لفرح أنطون و(الروايات الجديدة)1910 و(السّفور) 1917، وقد كانت المنافسة بين هذه المجلات شديدة فى ما يتعلق بنشر المعارف العصرية وغير الدينية وكذلك المفاهيم والمقولات والمذاهب الجديدة المتعلقة بالأدب والتاريخ، والتحرّر من سيطرة النص التقليدى الذى ينتصر للبلاغة الكلاسيكية ونظرتها لما تعتبره أدبا رفيعا. ومعلوم أن ما تقدمه هذه المجلات كان يتعين فى إطار هذه المؤسّسة الأدبية بوصفه خيارات ومواقف يتم اتخاذها انسجاما مع ما يحدّده الحقل الثقافى كخيار ملائم لجمهور قراء الطبقة الوسطى الذين تعلموا فى مدارس حديثة بدل المدارس التقليدية.

 

لا يمكن أن ندرك أبعاد هذا التحديد الثقافى إذا لم نستحضر الخلفية الثقافية الحداثية التى انطلق منها المثقف العصرى فى تنظير مسألة الكتابة وعلاقتها بأسئلة الذات والمجتمع. لقد مارست تلك الخلفية الحداثية التى جرى تثمينها ومحاكاتها، على الذوق العربى وعلى النقاشات الجارية تأثيرا حاسما. ويمكن أن نلاحظ فى هذا السياق أن هذا التأثير يتجلى واضحا فى طروحات جرجى زيدان التى تتعين بوصفها لمّاحة ونفاذة لما تكتسيه من ملامح الجدة والاختلاف، سواء فى تمثله لقضايا التاريخ والتراث واللغة من منظور مقارن أو فى تعرّفه على الحداثة الغربية ومنجزاتها على الصعيدين العلمى والثقافي.

 

لقد تحقق لجرجى زيدان ما لم يتحقق لغيره فى السياق الذى ظهر فيه، فمعرفته للغات واطلاعه على المناهج الحديثة جعله أشبه بهمزة وصل بين الحركة العلمية العربية الناهضة وحركة الاستشراق المتدفقة النشاط فى أوروبا وأمريكا، وكانت علاقاته وطيدة بأعلام مثل تيودور نولدكه ويوليوس فلهاوزن ومارجوليوت وأجناتس جولدسهير وأمدروز وإدوارد سخاو ووليام رايت ودنكان بلاك ماكدونالد.

 

وبما أن القضية الكامنة فى خلفية الجهد الذى بذله جرجى زيدان فى أبحاثه فى التاريخ الأدبى وتاريخ اللغة، وكذلك فى الأعمال الروائية التى راكم فيها تجربة سردية لافتة للنظر، تتمثل فى قدرة المثقف على بلورة تلك المساحة التى تلتقى فيها ضرورة الاستفادة من مظاهر التقدم العلمى والثقافى للغرب الرأسمالي، وعدم الإخلال بالانتماء إلى الموروث، فإن السبل التى اجترحها لتحقيق هذا الهدف، انطلق فيها من مجابهة سؤال الكتابة، واجتراح الأجوبة التى تجد سندها فى النظرة إلى الكاتب الحقيقى من حيث أنه يتكون ضمن الهامش الذى تصنعه مساحة الاعتراض والاختلاف والتجاوز، وكذلك فى الإصرار على أن يكون جزءا من المتن الذى يشكله التراث الثقافى للمجموعة التى ينتمى إليها. هذه المعادلة الصعبة التى اختبر جرجى زيدان قسوتها وعسرها هى ما يؤكد من منظور المؤسسة الأدبية الحديثة ضرورة إيجاد تعريف جديد للكتابة والكاتب يحرّرهما من اللغة الزخرفية الضيقة التى يولدها الامتثال لثقافة التلقين والاستظهار والخضوع لمرجعية النص، ويجذرهما فى لغة الحياة التى هى وحدها كفيلة بإحداث ذلك التماس مع مرحلة تاريخية جديدة تجعل الرغبة فى التكرار عارية عن المعني، وبالتالى فإن تمثيل قضاياها بنحو أعمق لا يمكن أن يكون مجديا إلا فى إطار أدب مختلف على مستويى المفهوم والممارسة.

 

لم يكن جرجى زيدان منظرا للأدب عموما وللرواية بشكل خاص، ولكنه مع ذلك فكّر فى الأدب كما فكّر فى الرواية التى كتبها شأنه فى ذلك شأن أبرز كتاب عصره. ومن هذه الزاوية ليس غريبا إذا أن يعتبر زيدان من يتصدى للكتابة أو التأليف، يجعل نفسه خادما للمصلحة العامة. وعندما نستحضر أن الغائب الكبير فى مفهوم الكتابة الذى ساد طيلة خمسة قرون من الحكم العثماني، هو الشعب بكل فئاته وطبقاته، اتضح لنا أن هذا المنظور بصدد الكاتب يحيلنا إلى مفهوم المثقف العُمومى الذى يؤمن برسالة الأدب كرسالة إصلاح وتغيير وثورة اجتماعية، كما يرى إلى أن الكتابة بما هى التزام إزاء الذات والمجتمع. فهو مثقف يمتلك ثقافة واسعة، ويكتب وينتج بلغة مفهومة للعموم عن قضايا تهمّ المجتمع، كما أنه يساهم فى الفضاء من منطلقه، ولا تخلو مساهمته من مواقف، وليس فى الأمر أى تزيد عندما نعتبر جرجى زيدان نموذجا لهذا المثقف العمومي، ليس فقط بالنظر إلى موسوعيته التى كونها من خلال النهل من علوم عديدة وثقافات متنوعة، وهذا ما برز فى اتساع وتنوع أنشطته التى لا تقتصر على ميدان الأدب وحده، وإنما كذلك من خلال تأثيره على الظروف الاجتماعية للأدب.

 

هذا الربط بين وظيفة الكاتب وقضايا الأمة والانتماء للوطن، والذى يتعين بوصفه تجليا للإبداع الذى يغير مفهوم الأدب وأبعاده الإيديولوجية وطريقة تلقيه، يُبيّنُ أنّ مفهوم جرجى زيدان للكتابة يستند إلى وعى عميق بها بوصفها شكلا من أشكال التدخل فى العالم الذى نسكنه، وتظهيره بشكل يجعله مرئيا بالنسبة إلينا. ولكى تكون ممارستها منتجة يتعين عليها أن تنطلق من فهم حاجات جمهورها وتهييئه ومده بالمفاهيم والتصورات التى تساعده على استقبالها وتمثلها بنحو أفضل. وهذا ما اضطلع به هذا المثقف فى التأليف فى الحضارة الإسلامية عندما يقول: "ونظرا لما نعتقده من افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم- لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم- ما فتئنا نختلس الفرص لنشر ما يسهل تناوله وتدعو الحاجة إليه فى حينه مما يتعلق بهذا التاريخ. وأخذنا نهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعا فى الهلال.

 

إن ما يلفت الانتباه فى وجهة نظر جرجى زيدان هو بروز محفل التلقى لديه، وبالتالى الاهتمام الخاص الذى يوليه لهذا الجانب الحاسم فى تداولية الأدب. بهذا المعنى صار الأدب العصري، وجرجى زيدان من أقوى نماذجه، يختزل زمن النهضة كله، ويكثفه فى الأشكال التعبيرية الجديدة وفى طليعتها الرواية التى نهضت بوظيفة التحرّر ليس فقط فى مواجهة الأنماط السّردية التقليدية المتقيدة بقواعدها الشكلية واللغوية، وإنما كذلك فى مواجهة القوى المحافظة الحريصة على التوازن. وإذا كان بول غريمال يقول إن الرواية «فى عمقها ليست إلا رغم الأهمية التى ينطوى عليها المنجز الكتابى لجرجى زيدان فإننا نلاحظ أن التجربة الروائية التى راكمها على مستويى الكمّ والنوع هى من أكثر التجارب اختبارا لقسوة وظلم تاريخ الرواية العربية الذى جعل من نص زينب البداية الفعلية لتكون الرواية فى الحقل الثقافى العربي. وليس هذا فقط لأن جرجى زيدان كتب ما يزيد على عشرين رواية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وإنما كذلك لأن تجربته الكتابية نهضت بدور مزدوج. فهى أولا استئناسية، من جهة كونها تسلط الضوء على بداية التمرّس بالكتابة الروائية الحديثة على الحقل الأدبى العربي، والتدرب على كيفيات كتابتها واستثمار طرائقها السّردية من خلال تمثل النص الروائى الغربى باعتباره نموذجا، وثانيا لأنها مثلت عتبة أساسية نحو أفق روائى أكثر احتفاء بالتخييل والتميز والاستقلالية سيتجلى بقوة فى كتابات الجيل اللاحق. من هنا لم يكن غريبا أن تتعين تجربته بوصفها نموذجا يستلهمه كتاب عصره، وهو الذى تمكن من أن يخلق ذوقا عاما، وأن يروج لدور الرواية فى هذا المجال. فقد أشار كراتشكوفسكى إلى أن العمل الذى قام به زيدان بعرضه تاريخ الإسلام فى شكل سلسلة روايات أغرى أحد محررى الجرائد وألهمه فكرة كتابة روايات مماثلة عن تاريخ المسيحية، إن هذه الشهرة التى نالها جرجى زيدان بفعل انخراطه فى أسئلة عصره هى بالتحديد ما أشار إليه روجى ألن حينما اعتبر أن «جرجى زيدان كان حريصا فيما يبدو على إطلاع قرائه على السمات التاريخية للعرب والإسلام (كوسيلة لتشجيع وتبنى وعى ثقافى جديد)، وفى الوقت نفسه على توفير أعمال روائية تؤمن المتعة للقراء، شأن الروايات التاريخية الأكثر ميلودرامية فى أوروبا والتى كانت تنشر على حلقات فى الصحف.

 

لذلك، بقدر ما يوحى هذا القول بأن روايات جرجى زيدان كانت متأصلة فى التراث الثقافى العربى الإسلامى من خلال الأحداث والوقائع التاريخية التى نهض بتمثيلها وشق صدر المتخيل عليها لتقريبها من الجمهور العام الذى اعتاد قراءة الصحف، أو فى البيئة المصرية من خلال الرومانسك الذى التقطت نصوصه بعض تفاصيله، فإن هذا التبئير للسّرد على المكونين التاريخى والاجتماعى لم يكن لينكر عليها استقلاليتها أو بحثها عن أفق جمالى تتعين فيه الرواية تجربة ثقافية مختلفة، وجنسا أدبيا ملائما لسياق سوسيو ثقافى مختلف يبدو فى حاجة ماسة إلى الاستنارة. لذلك وجد الكاتب فى الرواية المجال الذى يمكن فيه للمثقف أن يأخذ من خلاله دور الفاعل الاجتماعى أملا فى أن يفتح من خلال سروده بصيرة القارئ، ويضعه على عتبة التحرر من أشكال الفكر الظلامي، على هذا الأساس نعتبر روايات جرجى زيدان دلالة على لحظة فارقة تعين فيها الأدب بالمعنى الحديث بوصفه أحد أهم خطابات المؤسسة الحديثة.

 

ورغم أن بعض النقاد لم ينصفوا هذه التجربة الروائية خصوصا فى سعيها إلى التناص مع الزمن التاريخى العربى وتمثيل قضاياه وأسئلته التى يتعالق فيها السياسى والاجتماعي، مثل طه بدر الذى يذهب إلى «أن القصة التاريخية (عند جرجى زيدان) مثلت مجرد رغبة فى التعرف على التاريخ، ولا ينبع عن إحساس قومى متبلور يندفع إلى محاولة بعث أمجاد الماضى القديم، ولم يظهر هذا الإحساس القومى فى ميدان الرواية متبلورا وواضحا إلا فى الإنتاج الذى ظهر عقب الحرب العالمية الثانية، والذى عبّر عنه نجيب محفوظ وعادل كامل وعبد الحميد جودة السحار وعلى باكثير وغيرهم»، فإن جرجى زيدان يتعين بوصفه واحدا من أهم حاملى لواء التجديد فى الأدب العربى والدراسات الثقافية، خصوصا الدراسات التى تناولت قضايا التاريخ الإسلامى والتمدن واللغة. ففى لحظة الانبهار بما تقدمه الكتابة الأدبية فى الثقافة الغربية من وعود بالنسبة لكثير من كتاب القصة والرواية خلال هذه الفترة، يختار جرجى زيدان الذى كان مطلعا على أقوى التجارب الإبداعية فى عصره، وهو الذى يمتلك القدرة على استلام سلطة توليد المعنى ليس من اللغة العربية وحسب وإنما كذلك من لغات غربية عديدة أن يغوص فى التاريخ العربى الإسلامى بحثا عن جماليات مختلفة يستجيب بها لحاجات قرائه فى التعرف على هذا التاريخ وعلى مكامن القوة والهشاشة فيه. لكأنه بذلك كان يؤمّن لكتابته ذلك الموقع الذى يجنبها السطحية فى العلاقة بالنص الروائى الغربى بوصفه نموذجا. وهو إن لم يكن يقتصر فى إنجاز ذلك التقصى على الرواية بوصفها جنسا أدبيا جديدا وإنما اختبره فى مجالات أخرى مغايرة، فإنه بدا بذلك مثقفا استثنائيا يدرك كيفيات تظهير ابتكاريته وأصالته فى هذا المجال من خلال قدرته على التفكير بنفسه وبمجتمعه، وهو يمزج بين كتابة أعمال تاريخية وأخرى فى التاريخ الأدبى وكذلك فى السّرد. وهى أعمال جادة تستحق اسمها فى هذه المجالات كلها.

 

لعل ما يلفت انتباهنا هو ما تستبطنه تصورات جرجى زيدان من علامات تحيلنا أثناء التأويل على تصورات لم يتعرف عليها القارئ العربى إلا فى العقدين الأخيرين من القرن الماضي، مثل تصورات ميخائيل باختين. ولا يعنى هذا أننا نقول إن جرجى زيدان كان سباقا إلى إنتاج تلك الأفكار، وإنما أردنا التوكيد على ما يطبع منظوره من عمق وجدة وقدرة على فهم الرواية فهما متجددا. فهو يعرّف الرواية فيقول: "نريد بالروايات القصص التى يعبّر عنها الإفرنج بالرّومان. وقد يتبادر إلى الأذهان أنها من الفنون الحديثة التى نشأت مع التمدن الحديث فاقتبسناها نحن فى جملة ما اقتبسناه من عوامل هذا التمدن. وربما صح هذا الزعم عند التخصيص وأما عند الإطلاق فالروايات قديمة جدا بل هى أقدم سائر فنون الأدب لأنها رافقت الإنسان فى عهد همجيته وارتقت بارتقائه وتنوعت بيئاته وإليك البيان.

 

يتبين من هذا التعريف أن هذا الكاتب المسكون بهاجس إنتاج الرواية التى تستطيع الاستجابة لتصوراته بخصوص عصره ورهاناته الكبري، لا يحيد عن نظرية الرواية الغربية التى تعتبر هذه الكتابة سليلة التحولات الكبرى الواسعة التى شهدها الغرب منذ عصر النهضة حيث استبدل بالصورة الموحدة لعالم القرون الوسطى ركاما غير منتظم من الأفراد الذين لكل منهم تجربته الخاصة. وإذا كنا نجد أن مفهوم الرواية نفسه يطرح ضمن سياق الثقافة الغربية الكثير من الالتباسات خصوصا عندما نتتبع اشتقاقاته ودلالاتها فى المعجم، فإن أغلب الظن أن جرجى زيدان يلمح إلى المعنى الحديث الذى تقرّر منذ القرن السابع عشر الذى يرتبط ارتباطا قويا بالتخييل الذى يستوحى التجربة الفردية المعاشة فى الزمان والمكان.

 

غير أن ما يلفت النظر، قبل كل شيء، فى هذا التعريف هو تقاطعه مع الفرضية التى جعل منها المنظر الروسى ميخائيل باختين أساس نظريته حول الرواية، إذ ذهب إلى أن جذور هذا الجنس الأدبى أعمق بكثير مما يمكن أن نتصور، وتقصى آثار هذا النوع المحتقر فى الملحمة وفى كتابات أخرى كثيرة. لتتعين الرواية فى نظريته كتابة ثرية ومتجددة دوما، والنوع الأعظم حرية على الإطلاق، ومعلوم أن الدلالة (الربط بين نشأة الرواية والمجتمع البرجوازي) التى تقع فى صميم النظريات المتمركزة التى تنسب امتياز إنتاج الرواية إلى ثقافة دون غيرها، هى التى يفككها جرجى زيدان عندما يعتبر الرواية منجزا إنسانيا عابرا للثقافات والعصور، لأنه يصدر عن حاجة الإنسان إلى السرد باعتباره الوسيط الذى يجسد من خلاله ذاته، ليس فقط ضمن الجماعة التى ينتمى إليها، وإنما كذلك بالنسبة للعالم. وبما أن السرد يتبأر فى الثقافة التى يتكون ضمنها، ويغترف من معينها ذلك النسغ الذى يمكنه من إضاءة الطريق نحو مجهولات الذات الفردية التى يلاحقها، فإن ما ينتجه الكتاب من روايات يتباين من حيث ما يميز الثقافة التى يتمثلونها من تغليب لدلالة أو قيمة معينة على ما سواها من الدلالات والقيم. "فالشعوب الراغبة فى الحرب والشجاعة تكثر فى مسامراتها نوادر الحروب والقبائل الميالة إلى التدين تكثر عندها القصص الدينية. وأهل الكرم أكثر حوادثهم عن الكرم والضيافة. وقد تختلف ضروب القصص فى الأمة الواحدة باختلاف العصور لاختلاف أدوار تمدنها. وقد تجمع القصة الواحدة الحرب والكرم أو الحرب والتدين أو كل ذلك مع الحب أو غير الحب مما لا يحصره وصف ولكنها فى كل حال تمثل آدابهم وأخلاقهم.

 

على هذا الأساس يشيد جرجى زيدان نمذجة للرواية يستند فيها إلى الحفر فى ذاكرة السّرد فى ثقافات مختلفة ومنها الثقافة العربية، ليصل إلى استخلاص العناصر المهيمنة التى تسمح له بإدراج التجارب المختلفة ضمن خانات محددة تدل على تدرج الرواية منذ العصور القديمة نحو المفهوم الجديد الذى اتخذته خلال الفترة الحديثة والذى شكل فيه الإيهام بالحقيقة حجر الزاوية فى رهانات الكتابة. وبما أن الإبداع الأدبى بصفة عامة يتجدد من خلال ضروب الانتهاك التى لا يكف الكاتب عن إحداثها سواء فى علاقته باللغة من حيث توسيع قدرتها التعبيرية وتجذيرها فى عصرها أو فى ما يتصل بمعايير الأجناس الأدبية من حيث القدرة على التحرر من إرغاماتها بإنتاج النص الذى لا يكتفى بتثبيت تلك المعايير، وإنما يسائلها ويتطلع إلى تجاوزها، فإن الكتابة الروائية، وهى تراكم عبر تاريخها الطويل تجربة ثرية فى ارتياد مناطق الكلام الممنوع ومجادلة البلاغة الآمرة وتفكيك قوى القمع والكبح، أصبحت تتعين باعتبارها "أصنافا يختلف نسق تأليفها باختلاف الغرض المقصود منها وفيها التهذيبية والتاريخية والعلمية والأدبية وغير ذلك.

 

على سبيل التركيب 

إن المرحلة التى برز فى إطارها جرجى زيدان تتعين بوصفها مرحلة تجديد أدبى وثقافي، وبحث فى سبل تحقيق هذا التجديد فى التراث العربى وعند الإفرنج كذلك. وإذا علمنا أن جرجى زيدان نشر قصيدة أمين الريحانى المنثورة «الحياة والموت، أو الخريف وغياب الشمس فى لبنان» فى مجلة الهلال، وقدم لها بمقدمة يقول فيها «إن الشعر عند الإفرنج منظوم ومنثور، والمنظوم قد يكون غير مقفى أو مقفي، والعمدة فى تمييز الشعر قوامها الخيال الشعرى والمعانى الشعرية»، تبينا قوة المساهمة التى نهض بها هذا الكاتب فى نطاق المؤسسة الأدبية الحديثة، ليس فقط على صعيد الكتابة الإبداعية ومحاولة التنظير لها، وإنما كذلك من خلال الصحافة التى تكرّس نشاطها فى فتح الباب واسعا للنقاش فى موضوع الأدب ووظيفته والوضع الاعتبارى للكاتب. 


إن ملامح جرجى زيدان الأدبية التى زاوجت بين النهل من الموروث والاستفادة من الوعود التى تقدمها الثقافة الغربية، تقدم أوفى دليل على ملامح المؤسسة الأدبية الحديثة التى لم يكن هذا التوتر بين الأصالة والمعاصرة عائقا أمام سعى كتابها إلى مأسسة الأدب وتخصيصه من خلال مفهوم جديد يقطع مع المفاهيم السابقة. بل إننا نلمس من خلال جرجى زيدان، الذى زاوج بين الاهتمام بالتراث والأجناس الأدبية الحديثة، كتابة وتنظيرا، فعالية هذه الثنائية وهى تتعين بوصفها ملمحا من ملامح النص الجديد فى النقد والتاريخ والأدب والثقافة. والحق أن هذه الهجنة أو التجاذب، من منظور هومى بابا، الذى يعيّن تلك اللحظة من التماس بين الهويات والثقافات والأمم والعوالم، ليس سوى نتاج لتجربة استضافة الآخر التى هى تحدد أساس لمفهوم الهوية عند جرجى زيدان، كما هى كذلك بالنسبة لغير قليل من مثقفى عصره الذين قادوا حوارا منتجا بين الأنا والآخر، يذكرنا بما يصفه إدوارد سعيد بالتأويل العلمانى لمشهد الأمة الحديثة المكتظ، حيث لا تفسير واحد يرجع المرء مباشرة إلى أصل واحد يمكن أن يكون كافيا، وأعتقد، من هذا المنظور، أن جرجى زيدان يمثل علامة بارزة ودالة على حساسية ثقافية وجمالية متفردة، لأنه استطاع أن يصهر فى زمن الحداثة بين الانتماء للتراث العربى والانفتاح على العصر.