الإثنين 17 يونيو 2024

«وسط آسيا».. من كتاب «أحجار على رقعة الأوراسيا»

فن16-12-2020 | 13:42

تنشر بوابة «الهلال اليوم» جزءًا من الفصل الخامس من كتاب «أحجار على رقعة الأوراسيا»، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار «سما» للنشر والتوزيع، وجاء فيه:


وسط آسيا

ولأن دول وسط آسيا جزء من الأرض المحورية، كما وصفها هالفيرد ماكيندر، في نظرية الهيمنة على العالم؛ فهي تمثل جزءًا من المحور الأوراسي الجيواستراتيجي الثالث، وقد أشار له برجينسكي في كتابه (لوحة الشطرنج الكبرى) كمحورٍ يضمن بقاء الهيمنة الأمريكية على رقعة الأوراسيا، في عالم ما بعد السوفيتية، فهذه الدول يجب أن تظل منطقة سكانية غير متماسكة سياسيًّا، ومتشظية تنظيميًّا، من أفغانستان، وباكستان، إلى كازاخستان، وقيرغيزستان، بما يضمن تحقيق المصالح الجيوسياسية الأمريكية على الأرض المحورية، ومن ثم ضمان الهيمنة على رقعة الأوراسيا.

فالعلاقة بين الأصولية الإسلامية التي خرجت من عباءة تنظيم الإخوان المسلمين، والمساحة المشتركة داخل المجتمعات الإسلامية في القوقاز، ودول آسيا الوسطى، وحتى داخل مدينة شينغيانغ الأويغورية الصينية، تأتي في مقدمة التحديات الأمنية العابرة من المنطقة العربية والشرق الأوسط، لقطبي الشرق الأوراسي (روسيا – الصين) وتُعد كابوسًا مزعجًا لكليهما، ربما تزيد خطورتها على تمدد حلف الأطلسي على رقعة الأوراسيا، ونستدعي هنا كلمات فيلسوف الأمريكان، المستشرق (برنارد لويس) في حوارٍ له مع مجلة الشؤون الخارجية عام 1992 قال فيها:

«نتيجة لذلك.. تتفكك الدولة، كما حدث في لبنان، وتنخرط في صراعاتٍ واقتتالٍ فوضوي بين الطوائف والقبائل والمناطق والأحزاب.. وإذا سارت الأمور بشكلٍ سيئ وانهارت الحكومات المركزية.. يمكن أن يحدث الشيء نفسه، ليس فقط في بلدان الشرق الأوسط الحالية، ولكن أيضًا في الجمهوريات السوفيتية المستقلة حديثًا (وسط آسيا) حيث الحدود المصطنعة التي رسمها سادة الاستعمار السابقين الذين تركوا كل جمهورية مع مجموعة من الأقليات والمزاعم من جيرانها»(5).


تيوليب قيرغيزستان بنكهة مشروع القرن 

تولى عالم الفيزياء الرئيس (عسكر آكاييف) حكم قيرغيزستان منذ العام1990، كأول رئيس لدولة مستقلة حديثًا عن الاتحاد السوفيتي.. تمكن آكاييف خلال فترة رئاسته الأولى من نقل البلاد بنهضةٍ إصلاحية حقيقية، إلى مصاف دول وسط آسيا، وامتدت سياسته الإصلاحية خاصة في قطاع الزراعة، من الشمال إلى الجنوب، وظهرت الأحزاب السياسية، وحرية الصحافة، كما سمح آكاييف بتأسيس منظماتٍ للمجتمع المدني، التي بدأت تتلقى التمويلات من هيئة (نيد) ومن منظمة المجتمع المفتوح لجورج سوروس.

تم انتخاب آكاييف لفترةٍ رئاسية ثانية في العام 1995، ثم لفترةٍ مماثلة ثالثة عام 2000.. وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ووفقًا لمخطط «إعادة بناء الدفاعات الأمريكية» الخاص بمشروع القرن الأمريكي، الصادر في سبتمبر من عام 2000، والمفضي إلى الفرض المباشر للقواعد الأمريكية في جميع أنحاء آسيا الوسطى والشرق الأوسط ؛ سمح آكاييف بإقامة قاعدةٍ عسكرية أمريكية في مطار ماناس الدولي القريب من العاصمة (بشكيك) بغرض استخدامها كقاعدة ترانزيت لطائرات التحالف العابرة لضرب أفغانستان، ولطمأنة موسكو منح آكاييف قاعدة عسكرية مماثلة للروس على أراضيه.

 نجحت قوى المعارضة في استغلال الحدث، لتأليب الجماهير ضد آكاييف، بوصفه حليفًا لأمريكا، واتهمته بتزوير الانتخابات عام 2005، بغرض تمديد الحكم لفترةٍ رئاسية رابعة.. فاندلعت الثورة البنفسجية (التيوليب) في مارس من نفس العام، حينما قادت المعارضة ثورة جماهيرية انتقلت من الجنوب، حتى العاصمة بشكيك في الشمال، وتم الإطاحة بعسكر آكاييف، وتعيين (قربان بيك بقاييف) رئيسًا منتخب على جمهورية قيرغيزستان. 

قربان بيك، باع موارد البلاد القليلة إلى الشركات الأمريكية (أي الكوربوقراطية) فتدهور الاقتصاد، وتضخمت الأسعار، وارتفعت معدلات البطالة إلى (40%) ولهذا اندلعت انتفاضة شعبية جديدة بسلسلةٍ من العصيان المدني، في أبريل من عام 2010، قادت إلى خلع الرئيس (قربان بيك بقاييف) بعد أحداثٍ دموية شهدت مقتل (60 مواطنًا) من جميع أنحاء البلاد، وسيطر زعماء المعارضة على العاصمة بشكيك، التي قامت بتشكيل حكومة انتقالية برئاسة زعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (روزا أوتونبايفا( حيث ظلت الرئيسة الثالثة للبلاد حتى ديسمبر.2011

وقبل القفز على استنتاجٍ خطأ، يجب أولًا إدراك حقيقة الوضع في قيرغيزستان؛ فالثورات في هذا البلد، لها وجه آخر لعملة تدار على لوحة الشطرنج الكبرى، بين لاعب الغرب الاستراتيجي المتموضع على الجانب الغربي من رقعة الأوراسيا (أمريكا) في مواجهة لاعبي الشرق المتموضع على الجانب الآخر منها (الصين – روسيا).

موسكو وبكين تخشى من القاعدة الجوية الأمريكية في قيرغيزستان، التي أنشئت على الحدود منها، لهذا وتحت الضغط أعلن الرئيس (قربان بك باقييف) قبل عامٍ من الثورة التي أطاحت بحكمه عام 2010، عن نيته إغلاق قاعدة ماناس الجوية، وقد أحالت الحكومة الطلب إلى البرلمان القرغيزى الذي أقره في19  فبراير 2009.

فإنه وبعد مشاوراتٍ طويلة قادتها (هيلاري كلينتون) وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، نجحت واشنطن في البقاء على القاعدة، بعد أن تم تغيير الاسم من (قاعدة باناس الجوية) إلى (مركز شحن الترانزيت).

آنذاك اتهمت واشنطن، موسكو، بتقديم دعمٍ مالي لقيرغيزستان، من أجل الضغط لإغلاق القاعدة العسكرية، وقد جاء رد (سيرجي لافروف) وزير الخارجية الروسي على هذه الاتهامات، بعزم بلاده على مساعدة الولايات المتحدة في نقل الشحنات غير العسكرية إلى أفغانستان، في سخريةٍ واضحة.

 العام 2012، أعلن الرئيس القيرغيزي الرابع (المازبك اتامبايف) عدم جواز إبقاء أي قواتٍ أجنبية في مطار ماناس المدني، بعد صيف 2014، وهو تاريخ انتهاء الاتفاقية المبرمة بين دولته، والولايات المتحدة الأمريكية، متعللًا بتهديداتٍ قادمة من إيران، بضرب أي بلدٍ أجنبي تتواجد على أراضيه قواعد عسكرية أمريكية تهدد الأراضي الإيرانية.

 تم تنظيم تظاهرات شعبية ضخمة أمام السفارة الأمريكية بالعاصمة بشكيك، عقب هذه التصريحات، تطالب بغلق القاعدة الأمريكية والرحيل عن أراضيهم، ولم تفلح إغراءات واشنطن بزيادة القيمة الإيجارية التي تدفعها للحكومة القيرغيزية، من أجل تمديد عقد الاتفاق، في ظل تعنت (اتامبايف) وبالفعل تم إغلاق القاعدة عام 2014، ورحل الجنود الأمريكان عن قيرغيزستان.

قامت الصين وروسيا، بتعويض خسائر ميزانية قيرغيزستان، جراء فقدانها المبالغ الطائلة التي كانت تدفعها أمريكا مقابل استغلال قاعدة ماناس الجوية؛ فالصين مثل روسيا، ترى أن وجود مثل هذه القاعدة الأمريكية على حدودها، يؤثر على ميزان القوى في آسيا.

ولهذا أقرت (منظمة معاهدة الأمن المشترك) التي تأسست بعد تحلل الاتحاد السوفيتي، في اجتماعها بموسكو خلال جلستها المنعقدة في ديسمبر من عام 2012؛ حظر إنشاء أي قواعد عسكرية أجنبية، على أراضي الدول الأعضاء في المنظمة، إلا بموافقة سائر أعضائها، وهو القرار الذي التزم به الرئيس القيرغيزي بنهاية عقد الاتفاق المبرم بين دولته، والولايات المتحدة.

وتظل قيرغيزستان بالنسبة للدول الثلاث، مجرد قاعدة عسكرية، يمكن أن تغير من موازين القوى لصالح طرفٍ على حساب الآخر على رقعة الأوراسيا.