لطيفة الزيات .. شهرزاد الراوية، التي تمتلك الحكاية، تعرف كيف تستهل النص وتنزل أستار النهاية وكيف تصعد بالأحداث إلى ذُروة الصراع، ترسم شخصياتها بإسكتش سريع، ثم تغرق في رسم التفاصيل للكاراكتر باحترافية الحكاءة لتدخلنا عالم الحواديت بخيال متقد وواقعية مخملية.
أحد أيقونات مصر في الرواية والنقد والنضال، ندخل عالم الزيات بكثير من الشغف والامتنان أن وجدان لطيفة مر من هنا من وادينا ومنحنا دفقة من الأدب والثقافة والسياسة، فأيقظ شعورا بالحب، بالوطن، بالإنسانية، كان لها الريادة في الكتابة الواقعية والنقد، كيف صورت لنا خبيئة النفس وبصيرة الروح، كيف منحتنا ذلك الباب وأوصتنا بأن نفتحه لينفذ الضوء من تلك الفُتحة لتزهر ذواتنا ونتلمس في الطريق الحقيقة عبر فك ارتباطنا بالموروث الثقيل وقراءة العصر بوعي ... بانفتاح ومسئولية حفزتنا عبر مسيرتها النورانية على التعلم والاختيار وقوة الانحياز.
لطيفة الزيات ورائعتها رواية الباب المفتوح 1960
عمدت في الباب المفتوح إلى السرد، واستطاعت التغيير في بنيوية الرواية لتوظيف اللحظات الدرامية المتراكمة التي تؤدي إلى اكتمال المعنى والتأثير الجمالي معا بتسلسل زمني ومكاني متصل، أيضًا استطاعت استحداث الجديد بالنسبة لتراكيب الجمل الحوارية في اللغة، إذ جعلتها سهلة للغاية تخلو من الكليشيهات المحفوظة الجامدة السائدة آنذاك في الرواية العربية.
تقول الكاتبة الزيات في حوار لها مع الإعلامية سهام صبري، في برنامج" شموع": عندما كنت في مدرسة السنية الثانوية أهداني أخي كتاب "عودة الروح" "لتوفيق الحكيم" كنت اقرأ كتب شارلوك هولمز والكتب التي يقرأها الصبية الصغار، عندها تعرفت على الأدب ووجدت نفسي راغبة في الكتابة، لكنى كنت منهمكة أكثر في القراءة والدراسة، حتى بعد التحاقي بالجامعة ظللت متورطة أكثر مع المؤلفات الأكاديمية، حتى شاهدت أثناء زيارتي لبلدتي دمياط طفلًا مريضا بالسل يعمل في صناعة الأحذية، كانت هذه الصناعة تؤدي إلى إصابة الأطفال بالسل، هذه القصة أثرت في خيالي وجعلتنى أكتب عن البؤس الذي يعانيه الأطفال، ونشرت قصتي الأولى عن هذا العالم البائس بمجلة "الهلال"، بعدها نشرت عددا من القصص القصيرة وتنامى طموحي في الكتابة الأدبية بفضل هذا الطفل.
ليأتي هذا العام وتسرد مجلة "الهلال" مسيرة شهرزاد الراوية، حيث أشارت "الزيات" إلى واقعية توفيق الحكيم، وكيف كان له أثر كبير على كتاباتها لأنه، ورغم كل محاولات التجديد التي أمارسها، إلا أنني لا أزال أميل إلى الجانب الواقعي في الأدب، ومثلما يقول الكتاب الروس إنهم جميعهم خرجوا من معطف ""نيقولاي غوغول"، فأنا أيضا أحب أن أقول إنني وجيلي خرجنا من معطف توفيق الحكيم.
تسهب "الزيات" أيضا في سرد ذكرياتها عن رسالة الدكتوراة، وتقول " كنت وقتها متزوجة، وطلب زوجي أن أهديه الرسالة، فقلت له أنا مستعدة أهديك الرسالة بشرط أن تسافر كي أستطيع أن أُنهي رسالتي ولم أهدِها لأحد". وتوضح أن المرأة عندما تكون زوجة يكون عليها مسؤولية كبيرة.
وعن تجربة رواية "الباب المفتوح"، التي تحولت إلى فيلم بطولة فاتن حمامة، تقول" كنت مهتمة بالقضية الوطنية من سنة 1946، في "الباب المفتوح" عن رؤيتي لتاريخ مصر في الفترة من 1946 إلى 1956، بطريقة روائية وتأريخية وسلوكية، ثلاثة مستويات للمعنى، معنى مرتبط بتاريخ البطلة وتطوراتها من الصغر إلى المراهقة والنضوج، ومعنى مرتبط بتاريخ مصر بنفس الإيقاع من المراهقة إلى النضوج، ومعنى مرتبط بتعليقي على القيم الأخلاقية للطبقة الوسطى وضرورة تعديل هذه القيم.
كانت "الزيات" تعتبر كاتبة "بنت عصرها"، ولابد أن تكون متغيرة ومتجددة، يعنى "وأنا أكتب في الستينيات غير وأنا أكتب في أواسط الثمانينيات، في كتابة ذاتية لأن الدنيا تغيرت ورؤيتي للحياة أصبحت أكثر تعقيدا وأكثر عمقا مع تعقيد الحياة نفسها".
حاولت "الزيات" تفسير السبب في بداية انتشار الرواية أكثر من القصص القصيرة في فترة الثمانينيات، والتي تعد الفترة التى شهدت فيها الرواية المصرية بدايات صعودها وترسخها، فتقول "هذه الفترة مثمرة للغاية لأن الرواية بدأت تجتاح المجال الثقافي في مصر، وروايات ممتازة رواية بعد رواية، بينما كنا في الستينيات وجزء من السبعينيات، نتجه إلى تغليب العالم الداخلي على العالم الخارجي، وكنا نتجه إلى الغرق في الذات دون العالم الخارجي، ابتدت هذه الرواية تستعيد التوازن بين العالم بشكل يبشر بكل خير، ففقدان الصلات بالمجتمع والتحلق حول الذات لا يخدم الأدب بشكل كبير".
وصرحت في حوار لها مع الشاعر والإعلامي فاروق شوشة، أنها مارست النقد بخلفية أكاديمية لكنها موصولة أيضا بشكل من التبسيط والوعي كي تشرك القارئ العادي في عملية تحليل النصوص، إن النقد لا يستحق أن يسمى نقدًا إلا إذا أصبح حركة فعالة بين الجماهير والقراء، يشكل مجموعة من الأفكار والقيم والمفاهيم تؤثر إيجابًا وسلبًا في الآخرين.
وأضافت: مفهومي عن النقد مفهوم بسيط، أنا أتوسط بين الكاتب وبين القارئ، أنا الوسيطة التى أستطيع أن أبدى نواحي الجمال في العمل الفني التى قد تغيب عن القارئ، وأنا التي أحلل العمل الأدبي إلى جزئياته وأبرز العلاقة بين هذه الجزئيات وأوضحها للقارئ، وكيف استطاع الكاتب أن يحدث هذا التأثير الفني المعين، أجعل هدفي الأساسي خدمة القارئ ومعاونته على فهم أدبيات وأبعاد النص، وتوضيح ما قد يستغلق عليه، مهم جدا وجود النقد في ظل التجريب لأنه من ناحية يحترم التجريب ومن ناحية أخرى يصر على ألا يكون التجريب تجريبا في سبيل التجريب.
لا يزال صوت "ليلى" فاتن حمامة، يسكنني وهي على شاطئ البحر المتوسط بمدينة بورسعيد الباسلة وهي تحاور "حسين" صالح سليم، "المايسترو"، بطلها في رواية غزلت من خيوط حريرية التكوين، نسجت من ذات ليلى تلك الفتاة المصرية التي سجنت روحها واستطاع "حسين" تحريرها لتقدم رؤية مغايرة لتلك الفترة الزمنية التي تحفز المرأة آنذاك للتحرر من قيود المجتمع الأبوي وتفتح بابًا للحياة أن أرواحنا تحلق فقط عندما نُشفى من جروحنا، وأن لكل ألم شفاء ولكل انكسار التئامًا، وأن معاناتا نُبلنا، ورحلتنا لاكتشاف الحقيقة "ولعل ثٌقباً أصاب قلبك جعله الله لك عيناً تٌبصر بها الحقيقة"، كما علمنا مولانا "الرومي" الذي تحل في 30 من سبتمبر ذكرى ميلاده 813، وتنحت عبر ملامح ليلى ملامح مصر التي عانت كـ ليلى من الاحتلال والقيود، وكيف قاومت وانتصرت، وترصد معركة 1956 لشعب بورسعيد المقاوم الذي هزم الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس آنذاك. صوت أمواج البحر بما يحويه من السر بالبوح بالتناقضات الكبرى لثنائية البر والبحر والثبات والتغير في الحركة والسكون يرمي بظلاله على الحوار لتشكل البيئة المكانية سينوغرافيا المشهد الحواري البحري ذا الجُمل المنحوتة على رمال تتشكل كقصور أحلام المحبين المشعة.
لقد وجدت "الزيات" الحقيقة في مسيرة شديدة الثراء والتنوع خاضت تجارب حياتية وإنسانية شكلتها، وميزت إبداعها، وأثرت اتجاهاتها الفكرية والأدبية.
تعد "الزيات" ظاهرة نسائية، ليس فقط بإنجازاتها المتعددة على صعيد الرواية والقصة والنقد والمسرح, ولا حتى على صعيد النضال السياسي, سواء فيما يتعلق بالعمل الوطني في الجامعة أو الانضمام إلى حركة اليسار في زمن كان الانضمام إلى اليسار ليس سهلا ويعرض صاحبه للاعتقال والحصار, أو فيما يتعلق بالنضال ضد الاستعمار الإنجليزي قبل الانسحاب أو في معارك بورسعيد عام 1956, على النحو الذي أشارت إليه في روايتها العظيمة "الباب المفتوح", ولكن على صعيد كل التجارب التي عاشتها والتي توجت باعتقالها عام1981، على النحو الذي أشارت إليه في سيرتها الذاتية، وكان الاعتقال بسبب دورها في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية التي ترأسها المناضل الكبير عبد العظيم أنيس، والتي أصدرت مجلة دورية اسمها "المواجهة"، كانت حائط صد مهمًا وقويًا ضد جهود التطبيع الثقافي مع إسرائيل.
"الزيات" رائدة كأكاديمية، لأنها بدأت العمل الأكاديمي في وقت كانت النساء الأكاديميات قليلات, ورائدة كـ "يسارية"، لأن النساء اللاتي انضممن إلى اليسار في ذلك الوقت كن يُعدّنّ على الأصابع, ورائدة كـ "روائية"، لأن المصريات اللاتي كتبن الرواية قبلها كن قليلات وكانت في نفس الوقت من أولى الروائيات اللاتي كتبن الرواية التي تنطق بصوت المرأة وتعبر عن قضاياها وهمومها.
ونفس الأمر يسري عليها ككاتبة قصة قصيرة، ورائدة كـ "ناقدة"، لأن مصر لم تعهد قبلها ناقدات من النساء إلا قليلات مثل الرائدة الأخرى سهير القلماوي؛ وكانت أيضا رائدة في كتابة السيرة الذاتية، لأن المرأة المصرية لم تعتَد على كتابة السِير الذاتية ولم يسبقها في هذا المجال سوى الدكتورة نوال السعداوي، وقبلهما كانت "بنت البادية"، ملك حفني ناصف، وكانت لطيفة الزيات، فضلاً عن ذلك، رائدة في العمل الحزبي عندما نشطت في حزب التجمع منذ نشأته وحتى وفاتها، وكانت رائدة في مقاومة التطبيع مع إسرائيل.
إنها واحدة من رائدات العصر الحديث في مصر، وواحدة من اللاتي فتحن بابًا لحركة المرأة التي توجت بمشاركتها اللافتة في ثورة 25 يناير2011، وموجتها الكبرى في 30 يونيو 2013.
توفيت لطيفة الزيات في 11 سبتمبر 1996، عن عمر ناهز الـ 73 عامًا بعد صراع طويل مع مرض السرطان، بعد وقت قصير من حصولها على جائزة الدولة التقديرية للأدب.
احتفى محرك البحث جوجل بذكرى ميلادها الـ92 على مستوى العالم العربي في 8 أغسطس 2015، حيث ظهرت صورة الراحلة وهي ممسكة بورقة مكتوبٍ عليها "ليلى"، وهو اسم بطلة أشهر رواية لها "الباب المفتوح".
الكتابة عن "الزيات" لن تتوقف، وسنظل شغوفين برشاقة الحرف وسردية التشكيل، سنظل نفتح الباب لنتجدد ونمُر عبر ممرات الشفاء ونرتقي في مقامات المعرفة، وننصت لصوتنا الداخلي، ونرتشف من نهر الحياة العذبة، ونمُر على صحراء الوقت مُخضوضر فينا التأويل، فيتجلى فينا بهاء النص.