الثلاثاء 21 مايو 2024

مفهوم العدالة الانتقالية

أخرى3-1-2021 | 16:16

يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التى ما تزال غامضة بالنسبة للكثيرين، لاسيما فيما يتعلق بالمقطع الثانى من المصطلح أى الانتقالية، إذ يثور التساؤل: هل توجد عدالة انتقالية وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية؟

وقد حظى مصطلح العدالة الانتقالية حديثا على الكثير من الاهتمام من كل من الأكاديميين وصناع القرار السياسي، كما حظى بالاهتمام فى المجالات السياسية والقانونية، وخصوصا فى المجتمعات التى تمر بالفترات الانتقالية السياسية، سواء من نظام تسلطى أو من الخلافات المدنية إلى الديمقراطية، ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية.

ما هى العدالة الانتقالية؟

تشير العدالة الانتقالية إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التى قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال حقبة سياسية معينة. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان تقصى الحقائق، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات. والتى تساعد فى النهاية على التأسيس لمرحلة سياسية جديدة يسود فيها القانون والاستقرار السياسي.

ووفقا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة رقم 616 الصادر فى 23 اغسطس 2004

ﻳﺸﻤﻞ ﻣﻔﻬﻮﻡ “ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻟﻴﺔ” ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻨﺎﻭﻟـﻪ ﻫـﺬﺍ ﺍﻟﺘﻘﺮﻳـﺮ ﻛﺎﻣـﻞ  ﻧﻄـﺎﻕ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴـﺎﺕ  ﻭﺍﻵﻟﻴــﺎﺕ ﺍلمرتبطة ﺑﺎلمحــﺎﻭﻻﺕ ﺍﻟـتـى ﻳﺒــﺬلها المجتمع ﻟــﺘﻔﻬﻢ ﺗﺮﻛــﺔ ﻣــﻦ تجــﺎﻭﺯﺍﺕ ﺍلماﺿــﻲ ﺍﻟﻮﺍﺳــﻌﺔ ﺍﻟﻨﻄﺎﻕ ﺑﻐﻴﺔ ﻛﻔﺎﻟﺔ ﺍلمساءلة ﻭﺇﻗﺎﻣﺔ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﻭتحقيق  المصالحة.

ﻭﻗﺪ ﺗﺸـﻤﻞ ﻫـﺬﻩ ﺍﻵﻟﻴـﺎﺕ الإجراءات ﺍﻟﻘﻀـﺎﺋﻴﺔ وغير ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻮﺍﺀ، ﻣﻊ ﺗﻔﺎﻭﺕ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺕ المشاركة اﻟﺪﻭﻟﻴﺔ(ﺃﻭﻋـﺪﻡ ﻭﺟﻮﺩﻫـﺎ ﻣﻄﻠﻘـﺎ) ﻭمحاﻛﻤــﺎﺕ ﺍﻷﻓــﺮﺍﺩ، ﻭﺍﻟﺘﻌــﻮﻳﺾ ﻭﺗﻘﺼــﻲ ﺍلحقائق، ﻭﺍﻹﺻــﻼﺡ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ، ﻭﻓﺤــﺺ ﺍﻟﺴــﺠﻞ  ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻟﻠﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯﺍﺕ.

تطور فكرة العدالة الانتقالية وبعض نماذج تطبيقها:  

رغم حداثة مفهوم وتطبيق العدالة الانتقالية، إلا أن البعض يرجع بدايات تطبيقاتها الأولى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية فى "محاكمات نورمبرج " فى ألمانيا وهى من أشهر المحاكمات التى شهدها التاريخ المعاصر، والتى قامت بمحاكمة مجرمى الحرب من القيادة النازية.

ثم كانت البداية الحقيقة لما يمكن أن يسمى تطبيق للعدالة الانتقالية، فى محاكمات حقوق الإنسان فى اليونان فى أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وبعدها فى المتابعات للحكم العسكرى فى الأرجنتين وتشيلى من خلال لجنتى تقصى الحقائق فى الأرجنتين 1983 وتشيلى 1990 ومن بعد ذلك فى العديد من دول القارة اللاتينية.

ــ مساهمات أوروبا الشرقية فى التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان من خلال فتح ملفات الأمن الداخلى كما حدث فى ألمانيا بعد سقوط حائط برلين، وكذلك أيضا عمليات التطهير التى حدثت فى تشيكوسلوفاكيا فى 1989.

- ثم جاءت تجربة دولة جنوب أفريقيا من خلال لجنة "الحقيقة والمصالحة " الشهيرة فى 1995 التى تشكلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التى تعرض لها السكان السود فى جنوب إفريقيا فى فترة التمييز العنصرى الطويل.

- تجارب دول أمريكا اللاتينية فى الأرجنتين وتشيلى والبرازيل .

 - التجربة الخاصة جدا التى شهدتها المغرب حين قام الملك الحسن الثانى بإجراءات التحول وتسليم الحكم إلى المعارضة فى عام 1995، والتى أفضت إلى إنشاء هيئة "الإنصاف والمصالحة " لتقصى الحقائق واختتمت أعمالها فى دفع تعويضات للضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات فى عام 2005. وبهذا العمل تكون المغرب صاحبة تجربة فريدة فى التعامل مع "العدالة الانتقالية "، والتى تمت من داخل النظام نفسه ولم يتم تنفيذها عقب انتهاء حرب أهلية أو ثورة.

ما أهمية العدالة الانتقالية؟

1- ارساء دعائم  الديمقراطية : يعتبر العديد من الأشخاص أن الديمقراطية لا يمكن بناؤها على أساس أكاذيب وأن جهوداً مستمرة ومنظمة وتوافقية لمواجهة الماضى يمكن أن تؤدى إلى ديمقراطية أكثر قوة. ويتم ذلك بشكل كبير من خلال إرساء المحاسبة (مثل مكافحة الإفلات من العقاب) ومن خلال بناء ثقافة ديمقراطية.

2- الواجب الأخلاقى فى مواجهة الماضي: يستدل نشطاء حقوق الإنسان والضحايا وآخرون بأن ثمة واجباً أخلاقياً فى التذكر، لقبول الضحايا والاعتراف بهم كضحايا. كما أن نسيان الضحايا والناجين من الفظائع يعتبر شكلاً من أشكال إعادة الإحساس بالظلم والإهانة.

3- من المستحيل تجاهل الماضي: ثمة تبرير آخر وهو أنه من المستحيل تجاهل الماضى أو نسيانه – فهو دائماً يطفو على السطح – لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة بنّاءة وشافية. ويمكن أن نسمى البديل الآخر "بثورات" الذاكرة حيث يغلى الغضب وعدم الرضا تحت سطح الحياة السياسية وبالتالى ينفلتان من وقت لآخر.

4- منع تكرار مثل هذه الأنتهاكات فى المستقبل: يعتبر هذا المبرر أن التعامل مع الماضى يخلق نوعاً من الردع. فالتذكر والمطالبة بالمحاسبة هما وحدهما الكفيلان بالوقاية من وقوع أشياء فظيعة مجدداً فى المستقبل.

عناصر وآليات العدالة الانتقالية

1- الملاحقات القضائية، لاسيّما تلك التى تطال المرتكبين الذين يُعتَبَرون أكثر من يتحمّل المسئولية.

2- جبر الضرر الذى تعترف الحكومات عبره بالأضرار المتكبَّدة وتتّخذ خطوات لمعالجتها. وغالباً ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية (كالتعويضات  النقدية أو الخدمات الصحيّة على سبيل المثال) فضلاً عن نواحٍ رمزية (كالاعتذار العلنى أو إحياء يوم الذكرى).

3- إصلاح المؤسسات ويشمل مؤسسات الدولة مثل القوات المسلّحة، والشرطة والمحاكم، للحد من  آلية الانتهاكات القمعية  وتفادى تكرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب.

4- لجان تقصى الحقائق أو وسائل أخرى للتحقيق فى أنماط الانتهاكات المنتظمة والتبليغ عنها، وللمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

العدالة الانتقالية و العدالة الانتقامية

مما سبق يتضح أن هدف العدالة الانتقالية هو أن ينتقل المجتمع من حالة الديكتاتورية ودولة القوة الباطشة إلى حالة الديمقراطية ودولة القانون بعد أن يكون قد تخلص من مظالم المرحلة المنتهية و ذلك وفق خطوات مدروسة ومنظمة.

أما ما يعتقده البعض أحياناً من أن مجرد انهيار نظام تسلطى واستبدادى يعنى الثأر من جميع أركانه وعناصره، وعدم انتظار أو اتباع الإجراءات القانونية والقضائية لبطئها، او للشعور  بعدم جدواها فى إنزال العقاب بالمتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة، لاسيما بعد مضى زمن ليس بالقصير دون اتخاذ اجراءات حاسمة لإقرار أحكام عادلة وناجزة، وخاصة أن معظم الأنظمة الاستبدادية كانت تضع احتياطات للإفلات من العقاب، مما قد يؤدى لاندفاع البعض لإنزال العقاب بنفسه طالما أن الجميع يعرف أن هناك انتهاكات و جرائم قد ارتكبت، وأيضا اتخاذ إجراءات العقاب السياسى الجماعى فليس ذلك سوى عدالة انتقامية. 

تجربة شخصية

من خلال ثلاث مشاركات فى عمليات لحفظ السلام مع منظمة الأمم المتحدة (كمبوديا – كوسوفو – السودان) وهى كلها دول عانت من حروب و صراعات اهلية فى ظل انظمة حكم اقل ما توصف به انها انظمة غير ديمقراطية، و قد نتج عن هذه الصراعات اما انهيار و اختفاء لأجهزة انفاذ القانون نتيجة للصراعات المسلحة وانهيار الدولة، أو وجود هذه الأجهزة ولكنها لا تؤدى مهامها بكفاءة ولا تعتمد على الأسس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان عند تنفيذ القانون.

 وقد اعتمدت سياسة الأمم المتحدة فى مجال تطبيق العدالة الانتقالية على أجهزة إنفاذ القانون (الشرطة – القضاء – السجون ....) على تنفيذ برنامج إصلاحى أطلق عليه R.R.R وهو اختصار للآليات التالية:

1- Reform وتعنى اصلاح مؤسسات إنفاذ القانون ومراجعة إجراءات العمل بها من أجل مستوى أداء أفضل.

2-Restructuring  وتعنى اعادة هيكلة التنظيم الداخلى لمؤسسات انفاذ القانون لزيادة كفاءتها .

3-  Rebuilding وتعنى اعادة بناء مؤسسات انفاذ القانون – فى حالة انهيارها – عن طريق توفير الموارد اللازمة و الدعم المالى اللازم لقيام هذه المؤسسات بمهامها

بعض الأنشطة المرتبطة بالإصلاح، وإعادة الهيكلة، وإعادة البناء

1. إصلاح النظام القضائى (مثلا : تغيير القوانين القائمة أو وضع قوانين جديدة)

2- إنشاء و تحديث البنية التحتية للشرطة من المعدات والأسلحة، والزى الرسمي....

3- تدريب أو إعادة تدريب الشرطة  وبناء معاهد لتدريب الشرطة وتضمين مناهجها ثقافة احترام حقوق الإنسان .

4- بناء السجون وتدريب حراس السجون على أساس أن السجن ليس عقاب فقط ولكنه أيضا للإصلاح وتعديل السلوك.

5-  دعم نشر ثقافة احترام حقوق الإنسان وأسس الشرطة الديمقراطية .