إن الإسلام جاء برسالة سامية، تدعو إلى الأخلاق والقِيَم، تؤسس لمجتمع نقي مترابط، تؤصل لقيم الحب والرحمة والألفة، ومن هذه الأخلاق "التسامح" .
والتسامح يأتي تحته قيم رائعة، منها قبول الآخر، وسعة الصدر، والعفو عند المقدرة، وكظم الغيظ، وعدم الغضب، واللين، والرحمة، والتعاطف، وتحقيق ثقافة الاختلاف، وفقه الحوار، والسلام، والصفاء، وغير ذلك مما يحمله التسامح من معان أخلاقية رائعة
.
فبالتسامح تتحقق الألفة لا الفرقة، وبالتسامح تتحقق ثقافة الائتلاف لا ثقافة الاختلاف، وبالتسامح تتحقق ثقافة التدبير لا التبرير، وبالتسامح تتحقق ثقافة التيسير لا التشديد، وبالتسامح تتحقق ثقافة التدافع لا الصراع، وبالتسامح تتحقق قيم الحب والاحترام لا قيم الكراهية والاحتدام، وبالتسامح تتعمق قيم الرحمة لا القسوة.
إذن فبالتسامح تسمو النفس إلى مرتبة أخلاقية رائعة تحقق تلك المعاني مع غيرها، فما أطيبه من خلق كريم إذا التزمت به النفوس انعكس ذلك على المجتمع، فأصبحنا أمام مجتمع نقي صاف مترابط، تسوده قيم الوحدة بكل معانيها .
التسامح وثقافة الألفة والهداية:
ومن صور التسامح أن تتعاون مع غيرك لتجتث منه حظ النفس والشيطان وتتعاون معه لتأخذ بيده وتنقله من الضلالة إلى الهداية، وانظر إلى هذا النموذج الرائع حين تعاون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع وحشيّ قاتل عمه حمزة، وكيف أن رسول الله (صلى الله عليه سلم) صبر عليه بعفو وكظم غيظ وتسامح وعفو ورحمة لينقله من الظلمات على النور، بالرغم من أنه قاتل عمه حمزة (رضي الله عنه)، ومع ذلك لم يمنعه ذلك من دعوته إلى طريق الخير، فما بالنا وهناك من يبتكر ابتكارًا في إيذاء الآخر والبحث عن أسباب ووسائل الفرقة والخصام .
فعن ابن عباس قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه: يا محمد كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى (يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، وأنا صنعت ذلك فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله عز وجل: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فقال وحشي: يا محمد هذا شرط شديد إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فلعلي لا أقدر على هذا، فأنزل الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فقال وحشي: يا محمد هذا أرى بعد مشيئة فلا أدري يغفر لي أم لا؟ فهل غير هذا؟ فأنزل الله عز وجل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قال وحشي: هذا نعم، وأسلم. (مجمع الزوائد، للهيثمي)
لقد جعل الإسلام طريق التسامح هو مقابلة الإساءة بالإحسان، فحين أغلظ الأعرابي على النبي (صلى الله عليه وسلم)، كيف قابل النبي هذه الغلظة بالتبسم والتسامح، معلّمًا لأمته كيف يكون التعامل مع الآخر، وكيف نتعاون معه في أن نجتث منه حظ النفس والشيطان؟ وكيف نقوده إلى طريق المصافاة والمودة، وكيف ندفع مساءة من أساء إلينا بالإحسان إليه كما قال ربنا جلا وعلا: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت 34)، وعن أنس بن مالك قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني (عباءة) غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة ـ (أي جذبه جذبة قوية) حتى رأيت صفح عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته (تركت الجذبة علامة على عنق الرسول)، فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.(أخرجه أحمد)
وهكذا كان تسامح النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه يقابل المنافقين والمشاركين بدعوة التسامح والرحمة والعفو، فهذا عكرمة بن أبي جهل، فلما فتح الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكة، فرّ هاربًا وترك أهله وماله، واتجه نحو اليمن يفكر في الذهاب إلى الحبشة، وحين عاد إلى مكة، قابله النبي (صلى الله عليه وسلم) بجملة أذابت جبالًا كان يتوقعها عكرمة؛ لأنه كان من أعدى أعداء النبي، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له بتبسم ولطف: "مرحبا بالراكب المهاجر" وبعدها أسلم عكرمة (أخرجه الطبراني).
والتسامح طريق رصين لتحقيق الأمن والاستقرار والتعاون :
إننا إذا نظرنا بشيء من العمق في كلام الله عز وجل، سنجد أن الله عز وجل قد وصف بقاعًا ثلاثة في القرآن الكريم بأنها أمان، أولًا: الجنة: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)، ثانيا: الحرم الشريف بمكة: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، ثالثا: مصر: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، والسؤال: كيف نستطيع أن نحقق الأمن والأمان وقيم الاستقرار؟
نعود إلى آيات الجنة في قول الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)، قال ربنا بعدها: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِل)، وكأن الله عز وجل يعطينا حيثيات الأمان والأمن، وهي نزع بواعث الكراهية والغل والبغض والحقد ، فعلينا إذا أردنا أن نعيش الأمن والاستقرار والهدوء أن نصفي أنفسنا من تلك البواعث، ومن ثم ننطلق إلى مرحلة البناء وعدم المعوِّقات لذلك البناء أن نصفي بواعث النفس من تلك الأخلاق المذمومة فتنعكس المحبة بيننا جميعا، وعندها يحدث التعاون للبناء إن شاء الله.
أليست هذه من أولويات تحقيق الأمن والاستقرار التي ينبغي تأسيس الأجيال عليها، ومن ثم التعاون للبناء الذي نرجوه جميعا، ومن ثم تقدمًا وتطورًا نواكب به الواقع المتغير في عصرنا، ونجد مكانًا لنا بين الدول المتقدمة، لا سيما ونحن أمة الإسلام (كل هذا يتحقق بالتسامح وإرساء القيم الإنسانية التي تنعكس عل المجتمع بالرحمة والألفة والتعاون).
التسامح.. السبيل الرئيس في النجاة من الحبس على القنطرة وتحقيق أهليتنا للجنة
لقد قال الله عز وجل عن الجنة: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) (الحجر :46-47)
وكلمة "نزعنا" كما علمنا السادة العلماء تدل على أن تغلغل العمليات الحِقْدية في النفوس يكون عميقاً، وفي المقابل ينبغي أن يكون خَلْعها أيضًا خَلْعاً من الجذور، وهذا هو قمة التسامح وأسماه، بل هذا هو السبيل الرئيس والأصل الأصيل لنحقق أهليتنا للجنة .
فعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):
يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ (يقصد: الصراط) فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولَ الْجَنَّةِ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا ). (أخرجه البخاري) .
والمعنى هنا أن المانع من دخول الجنة بعد مجاوزة الصراط هو ما تحمله الصدور والقلوب من كراهية وخصومة لبعضهم البعض، فلن يُؤْذَنَ لهم في دخول الجنة إلا مع نقاء وصفاء العلاقة بينهم، وسلامة الصدور من الأحقاد وما يشبهها من أخلاق مذمومة .
فعلى المسلم إذن أن يستحضر قِيَمَ الوُّدِّ والتواصل والتراحم والتسامح؛ حتى تنعكس الرحمة علينا جميعاً، ونحقق مجتمعًا نقيًّا مترابطًا كما أراده الله عز وجل، ودعا إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
إذن فلابد من العناية بهذا القلب، والحرص على تطهيره من آفاته وأمراضه من كل حقد وحسد وغل ورياء وكبر، وسبيل ذلك (التسامح).