الإثنين 29 ابريل 2024

صناعة الفن.. وحكاية موسى

مقالات6-5-2021 | 19:52

ليس من المستحسن في أبجديات المعرفة الانطلاق من كونك صاحب الرأي السديد والصواب، ثم من نافذة بيتك الهش كبيت العنكبوت تملي نظرياتك الشائهة وأفكارك السائلة وعبواتك السريعة المهدرجة. العلم واحترام أهله غير ذلك والرسوخ باب عظيم امتدح أهله وإنما جاء الرسوخ من فعل المعاودة والمثاقفة والقراءة الناقدة غير المتهيبة.

في مجتمع غير تقليدي وبوعي غير جديد أو مستجلب ينظر غير الراسخ ويقول غير الفاهم ويتفصح غير المدرك ثم ينطلق فعل الغثاثة والوهن. الذين كتبوا رواية أو اثنتين يعلمون الناس كيف تكون الكتابة وشروط الفن الروائي والذين كتبوا كتابا يعلمون الناس كيف يكون التنظير والذي لم يذهب مرة واحدة إلى السينما يقول إنها سينما متأرجحة غير مفيدة والذين لم يروا كاميرا التصوير في حياتهم يتحدثون عن الزووم ولقطة الكاميرا والقرب والبعد والذين يلحنون يتحدثون في الشعر وأهل الأدب سياسيون وأهل السياسة أدباء وأهل الزراعة فقهاء وأهل الفقه ضباط وأهل المغنى بلا معنى وأهل البيت يسمعون ولا يفهمون. بات المتلقي يعاني حالة رفض واضحة بفعل النقد السائب لكل ما هو جديد، لا تكاد تجد كلمة مدح وحيدة على صفحات مواقع الانفصال الاجتماعي الخبيثة. لقد تسلط علينا صغار الحرف يا سادة. تحكي أمي عن السيدة التي جاءت كي تبني لنا فرنا كبيرا وجمعنا لها كومة كبيرة من الأحجار وقطع الحديد واشترى أبي لوحا حديديا مسطحا للخبيز وقطع مساحة كبيرة من الجرن لعمل الفرن وانشغلنا يومين قل ثلاثة حتى انتهى العمل واستعد الفرن للخبيز. لحظات وتهاوى الفرن وضاع الجهد ووقف أبي يلعن سوء الاختيار. إذا لم تكن متمكنا فالعيب أن تتحدث وليس عيبا أن تصمت ففي الصمت نجاة، وإذا لم تكن موسوعيا فليس عيبا فلا أحد يطلب منك أن تكون خيالا أو قائد سرب للطيران ولا حتى صانعا ماهرا تطل علينا بتعاليمك القديمة المسروقة.

كلنا أبناء نصوص فلا تتهم غيرك أنه ابن لصوص لفرط بغضك لا لفرط علمك. لا أدافع مطلقا عن سارقي النصوص النباشين. ولا أدافع عن سارقي الأفكار الملاعين.لكنني أذكر أن امتداح غيرك واجب وحياة وزراعة الفضل والمدح أفضل من تصدير القبح. ما الذي يضعفك عندما تقول لشاعر صديق ما أفضلك. أو لباحث شريك ما أحسنك أو حتى لجمال روح ابنتك ما أجملك.. إنهم يمارسون زراعة الأمل ونحن نمارس حرقه. إن لم تكن مستعدا لنجاح غيرك فلا تتدعي أنك مفتاح باب النجاح وأنك الواحد. النجاح صناعة والمدح خلق لا يتقنه إلا الكبار. من أين تأتي الجرأة.. ليس من التصفيق والتهليل الماكر الذي يمارسه البعض للبعض وإنما من الاستواء والرسوخ الذي يعلمه الكل عن الشخص دون أن يدري أصلا أنه كذلك.

من طبيعة الفن أن نختلف في تفسيره تماما كاختلافنا في تحديد معناه إذ إنه من المفاهيم المطاطة والمتسعة والمتغيرة على نحو من الاستمرار لما يوافق طبيعة التلقي. ما عنده فنا راقيا الآن من الجائز أن يكون في زمنه خلقه الأول بسيطا وعاديا. على ذلك فليس بمقدور أحد أن يمسك بمشرط المعرفة ليمتدح هذا ويقلل من عطاء هذا، فكل الفنون تحت عين التلقي المحكوم بسياقات عدة تسمح بالاختلاف وتنوع القراءة.

كل السابق محاولة لقراءة مشهد يتكرر سنويا مع صناع الدراما التليفزيونية، الذي أقرر أنها صناعة مهمة وخطيرة في عصرنا الحاضر وبعيدا عن حسابات الإنفاق والمكسب واختراع الأولى وسوق التبريرات والتخريجات الفارغة. الدراما التليفزيونية لا يقوم بها شخص الممثل السوبر منعزلا ولا جملة الأبطال الذين يتحركون مع حركة الكاميرا وصوت المخرج ورؤية المؤلف. الدراما صناعة كبيرة لا تختزل في رفض ممثل أو رؤية نقص في المعالجة. فهذا القطاع يعمل فيه العديد من أصحاب المهن الأخرى الذين ينتظرون العام بعد العام، ويحملون عبء تسويق الأفكار والرؤى والتأثير التي يقدمها كاتب النص أو السينارست والذي أراه أهم طرف في هذه العملية الإبداعية بامتياز وإنما أهميته من أهمية الخطاب أو النص المقدم. ثم يدير البعض معارك زائفة حول جودة العمل أو رفضه.

أنا مقتنع تماما بأن بعض النصوص والمسلسلات خرجت عارية مشوهة لأسباب عديدة يجب أن يقف عندها كل المشاركين في هذه الأعمال الذين اقتحموا علينا بيوتنا بلون من الإسراف المخزي في الألفاظ والسلوك والأفعال ليقدموا لنا مصر الجديدة من واقع الأزقة الافتراضية وكأننا لا نعرف مصر ولا المصريين ولا أبناء الطبقات الذين يعتبرون حائط صد وقوة رادعة، لكنني لا أقلل من حجم الجهد الذي بذل في هذه الصناعة التي يجب أن نفيق نحن معهم وننصح بجودة اختيار النص المقدم، واحترام عالم الإبداع والمبدعين الذين يقدمون سنويا عددا لا بأس به من الروايات والقصص القصيرة والحكايات فضلا عن حدوته عالمنا اليومي الذي استوى فيه الحدث بطلا بامتياز.

ما يقرب من ثلاثين عملا دراميا محمولة على أكتاف ما يقرب من ثلاثين إعلانا ترويجيا استهلاكيا، وفي المقام الأول يحتل قطاع التسويق العقاري الطاغي المرتبة الأولى ثم قطاع الاتصالات والمنتجات الغذائية. على التوازي ومع هذه الأعمال تظهر لك مصر الطيبة لا مصر المريضة التي تنادي فيها العديد من المؤسسات العلاجية بالتبرع والادخار في الخير، ولا عيب في ذلك إطلاقا حتى لو تأذى البعض لكن وجه مصر الحقيقي الطيب يظهر هنا بوضوح. ووجهها الاستثماري القوي الراسخ يظهر في قطاع الاستثمار العقاري.

كل الدول تتقبل كافة تناقضاتها وتمارسها فعلا وقولا، حتى خطاب الديمقراطية الهش الذي باتت فرنسا توزعه سقط سقوطا مدويا في الاحتجاجات الأخيرة، وخطاب أمريكا الموارب الذي لا يؤمن إلا بلغة المصلحة ونزاهة الأمريكي، الذي رأيناه يمارس سلوك البلطجة الفج على مبنى الكونجرس الأمريكي. مصلحة المواطن الأمريكي فقط، وخطاب الأصدقاء القريبين الذين يلعبون في أخطر الملفات المصيرية التي تواجه مصر هو خطاب نفعي ماكر، ويجب ألا ننسى أن الدراما بحالة جذبها وقوة تأثيرها تملك الكثير من ذلك. الكل يراهن على رأس المال، السلاح الأقوى في هذه الحياة بلا فلسفة. وما دام أننا لا ندفع في مشاهدة هذه الأعمال مقابلا فمن حق كل قناة أن تحدد وفق خريطة برامجها نوعية الإعلان ومدته ووقت عرض المسلسلات وأيضا اختيارها. دائرة رأس مال منتظمة موعدها شهر رمضان وبطلها التليفزيون. والكلام هنا لا يعني دفاعا عن القبح الذي رأيته أيضا مادة موظفة في بعض الإعلانات، حديثي عن صناعة وطنية تمتلك دورا تنويريا مهما تنتظر منا جميعا أن ندعمها ونشكر القائمين عليها ونفعل النقد البناء لا النقد المبني على السخرية والاستعلاء والانتقاص من الآخر، لا النقد المريض الذي يبحث دائما عن العيب بغية كسر أصحابه والتقليل من المنجز والعمل.

لم أمتلك الوقت الكافي لمشاهدة كل ما قدم ويقدم في الدراما التليفزيونية هذا العام، ولم أنتخب عملا محددا كي أجلس أمام النص عندما يتحرك لمادة حية بمشاعر وعوالم تأثيرية منطوقة، لكنني لا أخفي أيضا إيماني بجودة ما قدم في العديد من الأعمال هذا العام وإن أغضبت البعض الذين هاجموا بضراوة كل شيء، ولا يزالون.

لا أجد سندا مقنعا حول تجنب مشاهدة مسلسل بسبب مواقف البطل وكأنه عقاب جماعي لكل المشاركين وظلم بين لجهد مستمر ومتواصل على مدار العام، وحديثي هنا عن مسلسل موسى للكاتب ناصر عبد الرحمن الذي أراه من أهم كتاب السينما في العالم العربي وصاحب رصيد مؤثر وراصد للبنية المجتمعية في مصر في السنوات الأخيرة (هي فوضى- دكان شحاتة – جنينة الأسماك- كف القمر – ومسلسل جبل الحلال..) ومن أصدق من يؤمنون بتجلي الشخصية المصرية وقوتها وتميزها، هذا الصدق الذي حاول أن يقدمه عن شخصية متأرجحة بين التخييل والواقع، وهي شخصية موسى الشاب الصعيدي الذي تعرض لظلم الهجانة وهرب للجبل وخاصمه واقعه الاجتماعي السيىء في أربعينيات القرن الماضي وتسلط الإنجليز على مصر، وحرب المخابرات العالمية الكبرى على الأراضي المصرية إبان الحرب العالمية الثانية، ورفض الشخصية المصرية التماهي مع فكرة مساندة طرف على حساب الآخر بل الرغبة في تحقيق الذات، وقيامها بواجبها الوطني والاجتماعي. لم يعد موسى بطلا متحركا يملك الحقيقة المطلقة، إنما جاء معبرا عن سلوك طبقة كانت تتاجر وتعمل وتغير في ظل الأزمة، حالة من التكوين والخط الدرامي الذي طغى فيه النص على بطل المسلسل، و شاركه حكايات أخرى من جوف مصر العظيمة الشيخ صالحين الذي يملك المعرفة والقوة والتغيير معبرا في حضوره عن الشخصية المصرية بامتياز، وحالة الرفض المستمرة لأي سلوك انتقاصي من خلال القوة المستمدة من الإيمان بجوهر معززات الهوية المصرية (اللغة– الدين – الأرض) وبخاصة خطاب الدين السمح المعبر عن الشخصية المصرية، لقد صور الخطاب الديني في فترة الستينيات من القرن الماضي بأنه خطاب هش وتابع وأحيانا متطرف أجوف. لقد ظهر الشيخ صالحين المعبر عن سماحة الدين الوسطي القائم بدوره في الحياة نصحا وإرشادا وتعزيزا سلوكيا تنويريا بامتياز، يعلم ويربي ويتزوج ويحب، دون رفض لأحد أو فرض وصايته على أحد باسم الدين. ومن ثم ليس ظلما لأبطال العمل جميعهم أن أصرح بأن بطل العمل هو الجد صالحين بامتياز.

ومثله يسير خطاب حدود مصر مع جيرانها وبعدها الإقليمي والإلماح المستمر من قبل صناع العمل على أهمية البعد الاستراتيجي المصري وقوتها في فرض وجودها الدائم على المناطق الرخوة التي تشكل في بعض الأحيان أوراق ضغط على مركزية الدولة، يسافر ويتاجر أبطال العمل إلى غزة المصرية دون أوراق سفر أو خوف من تسلط سماسرة الحركة الصهيونية اللئيمة، وهذا الخط التجاري المفعل بين مصر وغزة المصرية.

لا يقوم العمل على فكرة البطل الواحد، بل إن النص صنع أبطالا حقيقيين يسندهم التاريخ الواقعي في بعض تقاطعاته. من جملة الإصدارات المهمة التي أدعو لقراءتها جيدا إصدارات المؤرخ الرائع محمد رفعت الإمام حول تاريخ الجالية الأرمينية في مصر عبر أكثر من إصدار، وما يهمني الآن كتابه الأرمن في مصر من عام (1896-1961) وهي الفترة الألصق بتاريخ الأحداث التي جاءت بالمسلسل.

كان الأرمن نخبة منتقاة وجالية متميزة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وكانت مصر هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي استوعبت الأرمن الناجين، لقد استوثق الباحث من مصادر متباينة باللغات المختلفة، الأرمينية والعربية والإنجليزية وراجع وثائق منشورة وغير منشورة مثل التعدادات والالبومات والكتالوجات والمذكرات والذكريات والصحف، وتلك أدلة ظهر جانب الإفادة منها داخل المسلسل الذي عبر داخل تكوين بعض الأسر الأرمينية اجتماعيا واقتصاديا تدليلا لدور مصر الإنساني الحاضن، وظهر شهاب الذي أراه معادلا لشخصية أرمينية اشتهرت في هذه الفترة وهو الخواجة كريكور الذي عمل عضوا بغرفة صناعة الزيوت المصرية التي تأسست عام 1938 كما كان عضوا بغرفة صناعة الصابون والزيوت في القطر المصري.

ثمة تنقلات حادة وكسر لحركة الزمن عبر جملة من التقاطعات السريعة التي أثرت سرعتها على بنية الرمز المفعلة بقوة داخل خطاب ناصر عبد الرحمن عامة، حيث تشابك أكثر من خط درامي بعيدا عن الشخصية الأساسية: (لوزة، زتونة ) (شهاب وشفيقة) (هبة وحلاوتهم).. كلهم يبنون عوالمهم الخاصة بعيدا عن البطل ليقدموا لنا الحالة الإنسانية في تشابكها ورغباتها وانطلاقها بعيدا عن الحسابات الكبرى التي يقوم بها أباطرة رأس المال والساسة والنوازع الشريرة. خطاب الحب المسيطر على كل خطوط العمل، ثمة فعل استبطاني رائع يعززه فعل الحب الذي تتحلى به الشخصية المصرية عامة التي استوعبت كل حوادثها وأزماتها، واحتوت تيارات شتى من الاحتلال والنزوح، لكن مرونتها على حد تعبير جمال حمدان كانت هي الأروع، مرونة مستقاة من الحب والدين الوسطي. لا يطمح موسى للانتقام ولا يسعى إليه، ولا يؤمن شداد بالقتل عقابا للثأر من موسى، إنها أفعال المراوحة بين فعل القلب وشره النفس، لم تكن شفيقة بعيدة عن موسى طيلة الحكاية، وليس موسى ببعيد عن شداد الذي يطل علينا في أغلب مشاهده راغبا في الانتقام، إن كان يريد أن يفعل بحق، حالة من الحب تسكن كل قلوب أبطال الحكاية. لكنها الحياة بكل ما فيها.

ليست شفيقة هنا صاحبة الموال الأشهر في مصر في أدبنا الشعبي وحكاياتنا المورثة، شفيقة هنا المستوعبة لحركة زمانها، القادرة على امتلاك حدود اللحظة، المحافظة على حقها وتراثها وقيمها، شفيقة التي لم يغيرها فعل التأثير الآتي من الغرب السحيق ولا من الشرق القريب، ولا من متون السرد الكبرى، شفيقة هي مصر بكامل حضورها التي جمعت الأرمن والإنجليز والفرنسيين والعرب والأتراك واليونانيين والرومان وغيرهم ثم بقيت كما هي مصر الأمينة المحافظة الراقية القوية الحادة الناعمة الرقيقة، مصر التي علمت الفقير الرضا وعلمت الغني الرضا، الفقير الذي يأخذ وهو راض والغني الذي يعطي وهو راض.

هذه حكاية موسى كما أرى أبطالها بلا إسراف، فضلا عن شباب مصر من جميل المبدعين الكبار في هذه الصناعة الخطرة كما أسميها دائما (الإخراج – والتصوير – والإضاءة – الجيرافيك – والصوت- والديكور- الموسيقي التصويرية - الإنتاج...) وكلها أياد مصرية وخبرات جادة ننتظر منهم الكثير قدمت الأفضل وننتظر منهم الكثير. إنهم القوة الناعمة والحاضرة والقادمة. تحية لصناع السينما والدراما المصرية بكامل حضورهم وإن كان في الأمر شيء، فلا تخلو الحسناء من ذم.

أستاذ النقد وتحليل الخطاب - أكاديمية الفنون المصرية

Dr.Randa
Dr.Radwa