الجمعة 10 مايو 2024

«الطاعون» في قصر ثقافة الأنفوشي

8-5-2017 | 09:23

الإسكندرية : أحمد إبراهيم أحمد

مسرح البير كامو

اشتهر ألبير كامو (1913 /1960) برواياته (الغريب، والطاعون والسقوط) وبإنتاجه الفكري في فلسفة العبث مثل (الإنسان المتمرّد، والإنسان الأول، وأسطورة سيزيف، ورسالة إلى صديق ألماني) كما عُرف بتراجيدياته مثل (العادلون، وكاليجولا - قدمها الراحل نبيل الألفي على خشبة المسرح القومي تحت اسم (الإمبراطور يطارد القمر) ومسرحية سوء تفاهم) وتخالف كلها في بنيتها الفكرية مسرحيته (الحصار) التي تقدمها حالياً الفرقة القومية بالإسكندرية على مسرح قصر ثقافة الأنفوشي باسم (الطاعون) من إعداد فريق مكون من أيمن الخشاب، وسامح عثمان، وعلي عثمان. استخدم أسلوب ازدواج الخطاب فحافظ على الخطاب اللغوي الفصيح في بعض المواقع، واستخدم اللهجة العامية في مواقع يحسب لها دقة الاختيار.

وتعتبر مسرحية (الحصار)من الأعمال المركزية في تاريخ المسرح العالمي وسبق عرضها على عديد من المسارح العالمية منذ عرضت لأول مرة عام 1948 م على مسرح مارينيـي الفرنسي إخراج جان لويس بارّو، بمشاركة خمسة وعشرين ممثلاً في عرض دام ثلاث ساعات ومسارين أحدهما غنائي على طريقة كلوديل، والثاني هزلي على نهج أريسطوفانيس.

ويعتبر عرض هذه المسرحية بمسرح الجيب بمونبرناس بباريس من أشهر العروض التي قدمتها فرقاً مسرحية لهذا النص، فقد أعادت المخرجة الشابة شارلوت روندليز كتابة النص ليصبح معاصراً، يطرح قضايا الواقع الآني واكتفت بستة ممثلين في عرض لا يدوم أكثر من الساعة وربع الساعة دون أن تهمل فكر وفلسفة كامو انطلاقاً من قاعدة فكرية مفادها أن أفكار كامو ليست أوثاناً معبودة لا تمس، بل أدوات لتغيير الحياة لذلك التزمت بمقولته واستفادت من قوله: حرصت على ربط كل أشكال التعبير الدرامي منذ المنولوج الغنائي إلى المسرح الجماعي، مروراً بالتمثيل الصامت، والحوار البسيط، والعرض الهزلي، والجوقة الجماعية."

فكرة النص

تقوم فكرة المسرحية على كوميديا سوداء تتناول موضوعاً جاداً حظي باهتمام المفكرين والمبدعين على مدى التاريخ البشري هو الاستبداد حيث يسخر كامو من الاستبداد والهيمنة على مصائر الشعوب برصد أحداث حياة مدينة يحكمها حاكم مستبد يسوس شعباً ذليلاً راضياً، ويعيش خاملاً دون أن يحرك ساكناً لتغيير وضعه، حتى يأتي (الطاعون) هو وسكرتيرته ليستفيد من جدلية استبداد الحاكم وخنوع الشعب، فيستولي على الحكم بقوة الموت، مستغلاً طبيعة الحاكم المستبد الذليلة، ويُخضع المدينة الخانعة لنظام حكم قمعي؛ لكن يواجه مقاومة رجل وحيد (ديجو) يتمرّد على سلطته الجائرة بعدما أدرك أنه يستمدّ قوته من الخوف الذي فرضه، والفكر الذي كرّسه، وتعنته مع الرأي المخالف، فلا يجد حيلة لإخماد دعوة التحرر التي يرفعها (ديغو) إلا قتله.

يهزم قتل (ديجو) الخوف فينهزم الطاعون، ويصبح تحرر المدينة ممكناً لكن تتحقق نبوءة الطاعون: إذا كان الظلم والجور والقسوة يدفعون الناس للتمرّد، فإن الغباء يثبط العزائم، حتى يعيا الرجالَ (المتمرّدون) من رؤية الغباء ينتصر على الدوام، فيستسلمون ويلوذون بالصمت، فيستعيد النظام الفاسد السابق سدة الحكم نتيجة الخنوع والخمول الجمعي ورضا الناس جميعاً.".

بيئة العرض

تدور أحداث العرض المسرحي (الطاعون) في فضاء تحده خلفية ديكور ثابت للفنانة دنيا عزيز عبارة عن خلفية ذات لون واحد مع فروق تظهرها الإضاءة على سطح يتميز بنسيج مريح للعين، ويتيح تنفيذاً سهلاً للإضاءة المسرحية تتوزع عليه فراغات تقود للبانوراما الخلفية السوداء كأنها فتحات كل منها هوة إلى مجهول مما يتيح لخيال المشاهد تخيل ما يجري فيما وراء السينوغرافيا التي تتم عليها الأفعال الدرامية.

لكن فشلت الإضاءة للأسف في الوصول لعمق العرض الدرامي فكانت المؤثرات البصرية في بداية العرض غير ضرورية وطويلة بلا مبرر، كما أن الألوان الساخنة التي طغت على خطة إضاءة العرض أجهدت بصر المتفرج، وشكلت عبئاً على المشهد المسرحي؛ فإذا أضفنا لذلك افتقاد العرض لحالة (الإنارة) باعتبارها مفردة من مفردات الإضاءة نجد أن الإضاءة من عناصر ضعف العرض.

كانت إدارة الصوت في عرض الطاعون لمحمد مصطفى ومعتز مجدي من الأفضل على الإطلاق حيث تفادت ضجيج السماعات الضخمة التي تمثل عبئاً على غالبية العروض المسرحية؛ كما تمت الموازنة بين أصوات الممثلين والخلفيات الصوتية سواء كانت موسيقى أو مؤثرات صوتية بحرفية شديدة بحيث لم تطغ الخلفيات الصوتية على الحوار وأصوات الممثلين.

الفرجة المسرحية

نجح فريق الإعداد والمخرج في إزالة كل ما يحيل على زمن بعينه حتى لا تُردَّ المسرحية وخطابها إلى مرحلة معينة، وحتى يمكن أن تعبّر المسرحية عن هموم المجتمع وشباب اليوم على وجه الخصوص حيث استوعب فريق الإعداد والمخرج فكر كامو الذي يؤمن باللحظة الراهنة وتوهج العمل الآني، ويستدعي الفعل القادم، ويخاطب الإنسان الواعي بغده والحالم بصنعه على هواه، فمثل صوت المجاميع في العرض المسرحي صوت الإنسان في كل مكان رغم أن بيئة مسرحية كامو مجرد مدينة تعيش الفرح الغامر نتيجة حادث عابر، أو فوضى عارمة يسودها اللغو والجدل عقب اكتشاف مرارة الواقع في أعقاب حادث عابر آخر.

استطاع المخرج محمد الطايع، ومصمم حركة المجاميع (الكريوجرافر) محمد ميزو صنع مشهد مسرحي بعدد كبير من الممثلين يقارب الثلاثين ممثلاً وممثلة ملئ بالحركة التي لا تخلو من جمال، ويحسب الإيقاع السريع للميزانسين الذي كسر حدة الملل في نص فكري بامتياز، يحتاج لتركيز المتلقي حتى يتواصل مع رسالة العرض المسرحي التي تقول لنا إن المسرح أداة لتغيير الحياة.

لكن أخطأ المخرج للأسف خطأً منهجياً معيباً رغم النجاح المحسوب له في تحويل نص كامو إلى فرجة مسرحية حين مزج بين أسلوب (كسر الحائط الرابع) بإشراك الصالة في العرض بنزول شخصيات من العرض بين الجمهور ودخولهم للعرض من الصالة وبين أسلوب «العلبة التقليدية» باستخدام الستارة في بداية ونهاية العرض حيث تقيم الستارة الحائط الرابع بين الجمهور وخشبة المسرح، وتجعل الستار حداً فاصلاً بين الصالة وعلبة العرض، والحفاظ على هذا الفاصل/الحائط أو كسره تقنيتان مختلفتان في الوظيفة والنتيجة.

وتمكن العرض رغم سوداوية الواقع أن يسخر من جو طافح بالمرارة بهزل محسوب لم يسمح بالخروج على النص، وحافظ للمسرحية على توازنها وانسجامها، واستطاع الحوار أن يمزج بمهارة بين ما يناسب الواقع العصري وعمق النص الأصلي الناطق بفكر كامو والمعبّر عن فلسفته مما شكل عرضاً هزلياً جذاباً، يعكس واقعاً راهناً لا يقتصر على البلدان العربية التي ثارت ثورات الربيع التي تم إجهاضها أو الاستيلاء عليها، وفي أحسن الأحوال تحويلها عن مجراها كما حدث في الغرب في ثورة الطلاب في فرنسا في الستينيات... هذه الثورة التي أسقطت الرئيس (ديجول) البطل القومي الفرنسي عن سدة الحكم حين نجح الطاعون والحاكم المستبد رغم صراعهما معاً في قمع الشعب للأسباب التي حذّر منـــها ألبير كامو منذ أكثر من نصف قرن.

الأداء التمثيلي

يضعنا العرض أمام مجموعة من الممثلات والممثلين يستطيع أي منصف أن يصنفهم على مستوى الأداء الاحترافي الراقي رغم بعض الهنات البسيطة التي يمكن تجاوزها بمزيد من التدريب على آليات وأدوات الممثل، فنحن لا نستطيع أن نتجاهل الأداء الواثق للفنانة ريهام عبد الرازق في دور السكرتيرة التي تمر بتحول موقفها نتيجة التأثر العاطفي حين تقع في حب البطل محمد حمادة الذي لعب دور ديجو والذي قدم شخصية الفتى الأول (جان) بلا رتوش تقليدية يعيشها من يشعرون بأنهم فتى أول، فكان أداؤه تعبيرياً منصباً على تجسيد الشخصية الفنية بلا نرجسية.

ولا يمكن تجاهل الأداء الراقي والمحترف للفنان عزت الإمام الذي قدم شخصية الحاكم بحنكة ومهارة رغم محدودية حركة الشخصية في الفضاء المسرحي فقد استطاع عزت الإمام من خلال التلوين الصوتي واستخدام تعبيرات الوجه التعبير عن تحولات الشخصية بمهارة ممثل مسرحي خبير ومحترف؛ كذلك استطاع الفنان أنسي الجندي أن يقدم شخصية القاضي المتلون الفاسد بأسلوب مبتكر خفف من حدة جدية النص بأداء كوميدي متمكن استطاع به انتزاع ضحكات الجمهور دون أن يخل بالمضمون التعبيري للشخصية وللمشاهد التي يشارك فيها.

ويحسب للفنان محمد يسري تقديمه شخصية الراوية المعلق على الحدث من الخارج والمشارك فيه في نفس الوقت في تركيبة فنية حماسية شديدة الذكاء، كذلك دور الصياد الذي لعبه الفنان ماجد عبد الرازق بمهارة وخفة دم مكنته منها ملامحه التي تقترب كثيراً من ملامح الفنان إسماعيل يس وأدائه الكوميدي الذي يقترب من العفوية بحساسية فنية تنم عن خبرة مسرحية عريقة.

قدمت الفرقة القومية المسرحية بالإسكندرية عرضاً مسرحياً راقياً يمكنه المشاركة في أي مهرجان للمسرح سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي وستكون مشاركة الفرقة القومية في أية مناسبة محلية أو خارجية مشرفة، تعكس قيمة المسرحيين الجدد خارج دائرة ضوء العاصمة حيث نجد أنفسنا أمام عرض مسرحي متوازن العناصر استطاع مخرج ماهر أن يديره ويسيطر عليه بمهارة واحتراف... «شابووو» فرقة إسكندرية القومية المسرحية.

    Dr.Radwa
    Egypt Air