الشعر الكردي هو شعر الإنسان المتسائل عند حافاته عن مصيره وحريته، إنه شعر الكائن الحاضر والتائه والاستعادي الذي يجعل صناعة الشعر ملحمته الأثيرة، تلك التي تحمل جذوة جوهره خارج تهويمات التشويش الكوني الذي يمحو ويطرد سارقي النار أبدا.. هكذا يستهل الكاتب علي حسن الفواز أنطولوجيا الشعر الكردي التي أعدها وترجمها وقدم لها الناقد والشاعر عبد الله طاهر البرزنجي، وصدرت بعنوان "أرواح في العراء أنطولوجيا الشعر الكردي الحديث"، ورسمت خارطة الشعر الكردي الحديث منذ رائده عبد الله كوران وحتى الآن وضمت ما يزيد عن مائة شاعر.
وتساءل الفواز في استهلاله للأنطولوجيا، التي حمل غلافها لوحة الفنان العراقي الكردي صلاح الدين عثمان قادر والصادرة عن المسار: "كيف لنا أن نقرأ تأريخ هذا الشعر المحمول على سلالات طويلة من المثيولوجيا؟ وكيف لنا أن نتلمس طريق الشعراء الكرد سارقي النار، هذا الطريق لا يشبه طريق الحرير حتما؟ إنهم شعراء يكتبو تأريخ وقوفهم القديم عند الحافة، يكتبون تأريخ الغابة، غابة الإنسان الذي صمم له الآخرون حروبا طويلة من الخوف والإقصاء والعزلات القاسية ـ شعراء يكتبون أيضا تأريخ الإنسان المضاد لغابته وحافاته، يجاهرون بفؤوسهم وأصواتهم وشفراتهم، يحملون شهوة الحرية، حرية الوجود، حرية الكلام المباح، حرية اصطياد الغبار، حرية الجسد العارم في تناسله واحتجاجه، حرية التمرد على مهيمنات الغياب والمقبرة ـ الشاعر الكردي صانع زمانات سرية مضادة".
وفي مقدمته للأنطولوجيا التي ترصد للفترة من 1920 إلى 2007 سعى الناقد والشاعر عبد الله طاهر البرزنجي إلى تشكيل رؤية كاشفة لمشهد الشعرية الكردية وأطياف حداثتها، قال إن عمر الحداثة الشعرية في الأدب الكردي يناهز عشرة عقود أو أقل منها بسنوات، سبقتها جهود شعراء النهضة التي أصبحت مدخلا أوليا لولوج أبواب الحداثة. ففي شعر النهضة تم التأكيد على قضايا ومواضيع تخص العصر دون التخلي عن الأساليب والأدوات التقليدية، منها مثلا التعويل على العمود الشعري والبنية العروضية الصارمة والأوزان الخاصة بالشعر العمودي وتفخيم دور البلاغة، فظهرت دعوات لجعل الشعر العمودي وسيلة لإبراز ما يستجد في الساحة والعصر. غير أن هذا يعد خللا وتناقضا ما بين ثنائية المبنى والمعنى، فليس صحيحا أن يتخلف المبنى عن تقدم المعنى وينفصل عن الرؤى. إذ لم تعد البنى التقليدية تستوعب المعاني والتوجهات والرؤى الحديثة".
وتابع أنه في مطلع القرن العشرين استجدت الأمور إلى حد ما على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والأدبية والثقافية والاجتماعية والفكرية، وحمل المساعمر معه شيئا من معالم حضارته في المجال الإداري والسياسي والصناعي، رغم النوايا المعلنة والمعادية لكياننا ووجودنا إلا أنه فرض علينا كعامل خارجي استنهاض الهمم وفتح عيوننا على عالم حديث اغتنى بالتطور الصناعي والفكري والفكر التنويري والتقنية الحديثة. ومن جانب آخر كان لاحتكاك شعرائنا ومثقفينا احتكاكا مباشرا بالأدباء الترك والثقافة التركية آثارا واضحة وملموسة على النواة الأولى للحداثة الكردية، كان بعضهم مناصب إدارية في الحكم العثماني في المدن التركية، وتمكنوا من الاطلاع على الثقافة الغربية والنصوص الشعرية الحديثة فيها من خلال ترجمتها إلى اللغة التركية، من هؤلاء الشاعر عبد الله كوران رائد الشعر الكردي الحديث والشاعر المعروف شيخ نوري شيخ صالح الذي يعد منظرا للتحديث في الشعر الكردي، كذلك الشاعر والصحفي بيره مرد الذي تولى مناصب هامة في مدن تركية مختلفة فتشبع بثقافة تركية حديث انعكس في شعره وأسلوبه والصحفي وحياته اليومية".
وأكد البرزنجي أنه في عشرينيات القرن المنصرم أعلن عبد الله كوران من خلال نصوصه الحديثه وشيخ نوري شيخ صالح من خلال كتاباته التنظيرية الداعية إلى جذب الانتباه إلى الحديث، انقلابا على الأطر الشعرية البالية والأدوات المستهلكة والقيم التقليدية البالية، فبدأ الشعر الكردي يقطع شوطا جديدا، وضع كوران لبنته الأولى، رفعها اللاحقون من الأجيال الشعرية المختلفة. لقد ثار كوران على البحور الشعرية القديمة وسكونية البيت والعمود المتحجر ومنح الشاعر حرية التصرف بتقليل أو إكثار عدد التفاعيل في السطر كي يتواءم ذلك مع النفس الحرة والرؤى الطليقة للشاعر، وهجر الأغراض الشعرية المعهودة والمترسخة، وتوخى قد الامكان الحد من سطوة البلاغة والتفخيم اللغوي والصرامة اللغوية الممنطقة".
وتوضيحا للمشهد الشعر الكردي خلال مائة عام قسمه البرزنجي لثلاث أجيال وثلاثة مراحل مع تحفظه بصدد تحديد الجيل الشعري بعقد أو عقدين، وأضاف أن الحداثة الأولى أو مرحلة الرواد تعتبر مشهدا شعريا خصبا ومتميزا في الشعر الكردي ففيه ثم التمرد على إرث شعري واسع وعريض ضارب بجذوره في الأدب الكردي الذي ترسخت فيه تقاليد شعرية صارمة وحدود فنية فرضت سيطرتها على الذهنية. استطاع عبد الله كوران ومجايلوه أن يعلنوا تمردهم على تلك العلامات الفارقة وبنتشلوا القصيدة من الركود والذوق التقليدي السائد إذ غيروا أفق انتظار النص وأفق توقع القارئ فلم تعد القصيدة منذ مرحلة الرواد منسجمة مع آفاق القصيدة الكردية في القرنين الـ 17 و18 على سبيل المثال، بل حدثت فجوة بينهما كانت في صالح الشعر الحديث.
وأوضح أن شعراء الحداثة الأولى ركزوا على روح النضال ضد كل الجبهات الخارجية المتمثلة بجبروت المستعمر ومقارعة الظلم والوقوف داخليا بوجه التفاوت الطبقي والفاقة والفوارق الاجتماعية والهيمنة الذكورية وتهميش الأنثى وإلغاء دورها في الحياة الاجتماعية والمدنية والإدارية، وتم طرح هذه الأشياء بروح إنسانية هادئة ومعنويات عالية ورؤى مشبعة بالتفاؤل والاطمئنان على دور النضال وتوهج الكلمة للذود عن قيم الحرية واستنهاض الهمم. وتميز المشهد الشعري بحس جمالي حديث وسمات مميزة للنهوض والتفاؤل، حيث ظهرت جراء ذلك أساليب وأدوات فنية ملائمة لتلك التجربة.
وقال البرزنجي أن اندلاع نيران الثورة الكردية وقضايا السياسة في الستينيات أبعد شعراء كثيرين عن مواصلة المشروع الحديث والبحث الدائم عن شحن الشعرية بحس جمالي متواصل. فهناك من ارتمى في أحضان السياسة كسياسي داخل حلبة السياسة أو كأديب ملتزم بهموم جماعية وقومية خارج إطار السياسة، فلم يعد معظم الشعراء يستطيعون الحفاظ على تحقيق الموازنة بين الهموم الجماعية والقومية والسياسية المستحدثة وبين مواصلة رفد حركة الحداثة الشعرية بمياه أخرى وحس جمالي فني متألق. من هنا طغت السياسة والإيديولوجيا في معظم الأحيان على النصوص الشعرية فشهدت المرحلة ظاهرة الهم التحريضي التي جلبت معها تشكيلا شعريا يجمع بين النظرة الخطابية والغنائية.
ورأى أن الثورة الكردية والنظام الشمولي المتسلط في المركز قسما شعراء هذه المرحلة أو لنقل عقد الستينيات إلى فئتين الأولى انخرطت في صفوف الثورة والتزمت بالخط السياسي ومنهم من لم يساير السياسة لكنه استجاب فراح ينشر في أدبيات الثورة علنا ومنهم من لم يساير سياسة محددة لكنه التزم بما تتطلبه المرحلة القومية. والفئة الثانية آثرت البقاء في المدينة منكمشة على نفسها زاهدة في النشر أو ممتنعة بسبب غياب الحرية وفرض قيود صارمة على النشر... إن هذه الظروف الصعبة المستجدة خلقت عوامل موضوعية عائقة تمخض عنها الانكفاء وبطء تقدم حركة الحداثة وظاهرة تكرار واجترار الحديث المنتج في العقود الشعرية السابقة.. وهكذا نرى أن الستينيات في الشعر الكردي تعد من الفترات المظلمة بعكس الستينيات في الشعر العربي أو الفارسي مثلا.
وأشار البرزنجي إلى أن بوادر الحداثة الثانية في الشعر الكردي بدأت وتجلت في السبعينيات وفيها ظهرت أصوات مطلعة على رموز الشعر العربي والغربي الحديث وآخر التطورات والقناعات التي وصلت إليها الحداثة الشعرية. وقال "إنها أصوات توخت في مسعاها الخروج والتحرر من سطوة عبد الله كوران ومجايليه خصوصا على صعيد تناول الطبيعة والمرأة وسحرهما الأخاذ الطاغي على جوانب عريضة من المشهد الشعري. بدايات شيركو بيكس ولطيف هلمت وعبد الله بشيو وآخرين، مثلا، شملتها تلك السطوة إلا أنها سرعان ما انحرفت عن منظومتها الجمالية والشكلية والمعنوية.
وتابع إن الحداثة الثانية أرادت في خطواتها الجادة المتطورة تجنب الركود الذي خلقه اجترار الحديث المنتج من قبل الرواد ولم يكن غريبا أن يأتي شاعر مثل أنور شاكلي "فرها شاكلي" ويكتب في الصفحة الأولى من مجموعته الشعرية الموسومة "مشروع انقلاب سري" المطبوع في بغداد 1973 والمتضمن عدة نصوص كتبها في الأعوام من 1969 إلى 1972، أن يكتب خمسة أسطر وبخط عريض يدعو فيها إلى التخطي والتجاوز، كتب "بكل فخر واعتزاز تتوجه قصائدي نحو القراء وتاريخ أدبنا وتعلن عن نفسها كريادة لمرحلة تتجاوز مرحلة عبد الله كوران وتحدد معالم شعر الحاضر والمرحلة الراهنة في كردستان".
ولفت البرزنجي إلى أن هذه الجمل القصار تشبه بيانا شعريا وتشير ضمنا إلى وجود مرحلتين أو حداثتين في الشعر الكردي. الأولى حداثة عبد الله كوران ومجيليه والثانية التي بدأت تعلن عن نفسها من خلال تصريحات ومقابلات ومناقشات وبيانات شعرية "بيان روانكة الذي أصدره شيركو بيكس وحسين عارف وجلال ميرزا وكاكه مم وجمال شاربازيري" وبيان الشاعرين "لطيف هلمت وأنور شاكي" الذي لم ير النور في حينه وبقي مخطوطا حتى نشره في العدد الثاني من مجلة بروزة الصادرة في عام 1992.
وأوضح أن الشاعر السبعيني بدأ يفيد من الأسطورة والقناع ويبذل الجهد ليطرق أبواب الأصوات المتعددة مستفيدا في ذلك من البعد الدرامي المستعار أساسا من الفنون الأخرى "القناع وظفه شاعر مثل أنور قادر محمد والبعد الدرامي أضفاه شيركو بيكس على نصوصه، وتوظيف الموروث الديني تجلى في نصوص لطيف هلمت وتقنية المشهد السينمائي استخدمها نوزاد رفعت في نصوص له رصدت الأفعال والحدث. في نصوص كثرت الاهتمامات المتعددة بإنتاج بنية التعدد والإخفاق.
ولاحظ البرزنجي أن معظم شعراء الثمانينات من أرومة سبعينية أي أنهم برزوا في أواخر السبعينيات وتصلبت عودهم في الثمانينات وأصبحوا رموزا هامة تصدرت المشهد الشعري، فلا غرابة أن يحملوا معهم في هذه الحالة شيئا من عبق الشعر السبعيني إلا أنهم تميزوا بهدوئهموجلدهم في اللغة والرؤيا وتناول الذات وتسليط الضوء على ما يقع خارج أنفسهم. وعند قراءة النصوص الجادة لمشهد الثمانينيات لا تشعر بصراخ أو صخب أو عنف في النسيج اللغوي في تركيب الصور ولا في الإيقاع بل إنها تتميز بنبرة خافته هادئة موحية تحملها تقنيات فنية عالية.
المشهد الشعري الثالث ينطلق من التسعينيات وفقا للبرزنجي "إذ برزت عوامل وظروف ومستجدات على صعد عديدة أعطت الباحث أو الناقد مبررا لاعتباره مرحلة جديدة وتجربة مختلفة في الطرح والتناول والمعالجة. لقد أحدثت التغيرات والتطورات الهامة التي شهدتها المنكقة شرخا في الجدار فتركت آثارها في مناحي الحياة والثقافة، إذ تأسست عشرات المؤسسات الثقافية والجرائد والمجلات المختلفة، ثقافية وسياسية وأدبية بعيدة عن المراقبة ومقص الرقيب".
وأضاف "في التسعينيات كتبت نصوص كونكريتية وبصرية مستغلة الانفتاح على الأجناس الأخرى ومستثمرة بياض الورقة وجدلية الأبيض والأسود على مساحات الورقة وفضاءات النصوص. واليوم يقتنص الشاعر لحظات حافلة بالانكسار عبر لقطات مهشمة وصور غائمة وجمل مضببة تفجع فيها الأشياء وتتمزق فيها الكائنات وتذبل فيها الأحلام ويكتب محطما المعايير وتخوم الأجناس لانجاز قصيدة النص وقصيدة النص الفتوح وأحيانا قصيدة ما تسمى بالكتابة".