قبل أيام احتفلت شركة التواصل الاجتماعى فيسبوك بتجاوز قيمتها السوقية حاجز التريليون دولار لتنضم إلى مثيلاتها من عمالقة التكنولوجيا الأمريكية ألفا بت مالكة جوجل وأمازون ومايكروسوفت وأبل.
تعدت قيمة سهم فيسبوك 355 دولارًا أمريكيًا فى البورصة الأمريكية، يتجاوز الحجم المالى لشركة فيسبوك ميزانيات عدد من الدول أما الحجم المالى لشركات التكنولوجيا العملاقة الخمس مجتمعة فهى تتعدى حواجز ميزانيات القوى العظمى، تعطى لغة الأرقام رؤية من جانب واحد حول مدى تأثير هذه الكيانات العملاقة فى حياة الأنسان فهذه الكيانات لا تحقق الأرباح فقط من وراء استعمال مليارات من البشر لخدماتها بل أصبحت تحدد كيف يمكن للبشر التعامل معها ومن يخرج عن هذه القواعد التى حددتها ستطرده على الفور من عالمها الذى تسيطر عليه.
حاول الكثيرون خوض المعارك القانونية والإعلامية ضد سادة التواصل الاجتماعى محاولين تحجيم سلطتها إلا أن الجميع فشلوا حتى الآن فى هز عرش شركات التواصل الاجتماعى لأن القانون الأمريكى الذى يلجأون إليه من أجل هذا التحجيم هو نفسه الذى يعطى هذه الشركات العملاقة الحرية الكاملة فى ممارسة السلطة على البشر. هناك دولة وحيدة نجت من سيطرة العمالقة الأمريكيين وهى الصين التى رأت أن الجانب الاقتصادى والمالى هو الأقل تأثيرًا بالنسبة لسطوة شركات التواصل الاجتماعى لكن الجانب الأكثر خطورة هو قدرتها فى إدارة عقل المجتمعات التى تتعامل معها، وأدرك التنين الصينى أنه لايمكن له خوض المنافسة على مقعد القوة الأعظم فى العالم إلا بالتحرر من وجود هذه الشركات داخل مجتمعه.
بَنت الصين السور المعلوماتى العظيم مثل سورها التاريخى الشهير مع بداية ظهور هذه الشركات ولم تسمح لها بالدخول إلى مجتمعها وصنعت نسخ مماثلة لكافة الخدمات التى تقدمها هذه الشركات لتخدم أكثر من مليار مواطن صينى وبعد هذا التأمين الدفاعى ومع النمو الاقتصادى تحرك اقتصاد الصين بين المرتبة الأولى والثانية على مستوى العالم، انتقل التنين لمرحلة الهجوم بإنشاء عدد من تطبيقات التواصل الاجتماعى المملوكة له لينافس العمالقة الأمريكيين فى عقر دارهم.
أمام هذا الهجوم الصينى توارت على الفور نظريات حرية السوق وتداول المعلومات لأن هذا الهجوم الصينى أصبح يهدد مصالح الشركات الأمريكية وعلى أرضها.
حظرت إدارة ترامب التطبيق وسط حملة دعائية كبيرة على الطريقة الترامبية تضررت بسببها الصورة الأمريكية المصنوعة على مدار عقود بأن الولايات المتحدة جنة حرية الاستثمار عكس منافسها المنغلق الصين.
فى الشهر الماضى ألغت إدارة بايدن القرار التنفيذى بحظر عمل التطبيقات الصينية على الأراضى الأمريكية وكان الأمر غريبًا لأن إدارة ترامب المعادية لشركات التواصل الاجتماعى تحافظ على مصالح هذه الشركات وتأتى إدارة بايدن التى خرجت من رحم شركات المعلومات تمويلا وأعضاءً وعلى رأس هؤلاء الأعضاء نائبة الرئيس كاملا هاريس وتلغى قرار الحظر!.
الحقيقة أن إدارة بايدن لم تلغ قرار الحظر لكنها اتبعت الطريقة الأمريكية المعتادة التى تحافظ على صورة الولايات المتحدة البراقة فمع قرار الإلغاء وضعت شروطًا خاصة بتقييم وجود هذه التطبيقات ووضعها تحت المراقبة مع تقديم تقارير من مدير المخابرات ووزير الأمن الداخلى ووزارة التجارة حول عملها، بمعنى آخر تم تحجيمها ثم يأتى حظرها ولكن بصورة أكثر ذكاءً بعيدًا عن فوضى ترامب التى تسبب هزات فى الصورة الأمريكية البراقة أمام العالم.
أكثر من شعر بالهزيمة فى هذه الحرب بعيدًا عن الصراع المستعر بين الكاوبوى الأمريكى والتنين الصينى على كافة الجبهات هو الرئيس الأمريكى الأسبق دونالد ترامب الذى لو كان يعرف اللغة العربية لقال المثل الشهير أنه تلقى جزاء سنمار، فهو من أصدر قرار حظر التطبيقات الصينية لحماية مصالح هذه الشركات، لكن شركات التواصل الاجتماعى الرئيسية فيسبوك وتويتر وجوجل مالكة يوتيوب حظرته نهائيًا من على منصاتها، أما الشركات الأخرى كـ أبل وأمازون فمولت حملة منافسيه حتى أسقطوه فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة. الحقيقة أن ترامب مهما قدم من قرابين لهذه الشركات حتى ترضى عنه أو على الأقل تكون على الحياد فى معاركه التى خاضها وما زال يخوضها فهى ماكانت ستتركه ينفذ سياساته لأن الخلاف أكثر عمقًا بين الجبهتين الترامبية والمعلوماتية الجديدة وأساس الخلاف هو كيف تدار الولايات المتحدة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيا ومن بعد الولايات المتحدة العالم كله وعلى رأس هذا العالم الصين.
بلع ترامب هزيمته الأولى فى الانتخابات لأنه علم مدى قوة هذه الشركات التى تتجاوز ميزانياتها التريليونات وتتحكم فى عقول الأمريكيين وغير الأمريكيين، والأهم أنها استطاعت التحالف بقوة مع الإدارة الجديدة أو إدارة بايدن ومدت أذرع هذا التحالف مع كافة القوى السياسية على مستوى العالم التى تهاجم مفهوم وجود الدولة الوطنية، لأن امبراطورية هذه الشركات ترى فى بقاء مفهوم الدولة الوطنية الخطر الأكبر على صعودها لأنها تريد التحرك والسيطرة على المجتمع البشرى دون أى قواعد أو قوانين تفرضها الدول عليها لحماية سيادتها ومجتمعاتها فهى تعلمت الدرس الصينى جيدًا ولا تريد أن يتكرر مرة أخرى فى أى مكان بالعالم حتى لو كان داخل الولايات المتحدة وأوروبا الحليفة لها.
حطمت هذه الشركات كافة الدعاوى القانونية الأمريكية التى كانت تطالب بتحجيم احتكارها ونفوذها والتى حركها المناوؤن لسياساتها فى إدارة ترامب، والآن تمنع إدارة بايدن الحليفة للشركات المعلوماتية أى مساس بهذه الشركات فى أوروبا، فاعتبرت أن مايفكر فيه الأوروبيون واتحادهم من فرض ضرائب على أنشطتها وهو حق طبيعى لأى دولة ذات سيادة أمر غير مقبول ولن تسمح به مطلقًا، وأصبحت الإدارة الأمريكية هى الشرطى الذى يحمى مصالح الشركات التريليونية وبدأ الشرطى الأمريكى الذى يعمل لحماية مصالح الشركات يتجه الآن بتوجيه منها لخوض المعركة الكبرى مع الصين حتى لا يصبح هناك مكان فى العالم خارج عن سيطرتها.
فى الأسبوع الماضى وعلى طريقة أفلام الغرب الأمريكى عاد ترامب لينتقم ممن هزموه فى حربه الانتخابية الكبرى فأمام مناصريه داخل نادى الجولف الذى يملكه بولاية نيوجرسى أعلن دونالد ترامب أنه تقدم بدعوى قضائية ضد عمالقة التواصل الاجتماعى الثلاث فيسبوك وجوجل وتويتر الذين حظروه وضد رؤساء الشركات الثلاث مارك زاكربرج وزسونداربيشى وجاك دورسى.
قال ترامب فى بيان حربه القضائية أن هذه الشركات تمارس رقابة غيرقانونية ومخالفة للدستور وأننا نخوض معركة سنكسبها والأخطر أن شبكات التواصل الاجتماعي منحت سلطة استثنائية لمجموعات التكنولوجيا العملاقة وأصبح رؤساء هذه الشركات يطبقون رقابة غيرقانونية وأكبر دليل على أن مجموعات التكنولوجيا العملاقة خرجت عن السيطرة أنها حظرت رئيس الولايات المتحدة أثناء ولايته من على كافة ما تقدمه وأنها والإدارة الحالية أصبحتا يعملان كأذرع لبعضهما البعض.
بالتأكيد هناك من يرى أن دعوى ترامب وتحركه القضائى سيلقى مصير ماسبقه من دعاوى وتنتصر الشركات سريعًا كما يحدث دائمًا لكن هذا التحرك الترامبى لم يكن فوضويًا كعادته فهو يتحرك الآن ويشاركه فى هذه الدعوى العديد من اللوبيات والروابط ومراكز البحث اليمينية التى تناصر سياساته وترفض هيمنة هذه الشركات على المجتمع الأمريكى وتقف ضد العولمة الجديدة بصفة عامة.
تأتى النقطة الأهم أن هذه التجمعات ليست معزولة عن الشارع الأمريكى فالتيار الترامبى يؤيد هذه الدعوى بشدة وهذا التيار ليس قليل العدد أو التأثير ويمكن ملاحظة مدى حجمه من عدد الأصوات التى حصل عليها ترامب فى الانتخابات الأخيرة والتى تجاوزت الـ 72 مليون صوت وهى أصوات لم يذهب أغلب أصحابها إلى منازلهم عقب الانتخابات فهم مصرون على إعادة ترامب إلى البيت الأبيض والقضاء على اليسار المعلوم ممثلا فى هذه الشركات وإدارة بايدن، وكما يرى التيار الترامبى فهذه العولمة وشركاتها تدمر الدولة الأمريكية الوطنية من أجل مصالحها معتبرين أنفسهم أنهم الوطنيين الأمريكيين وخصومهم يخونون أمريكا.
رغم حملة الدعاية المكثفة التى بدأتها شركات التواصل العملاقة ضد ترامب وتياره والسخرية منهم وتسفيه مايفعلونه إلا أن المجتمع السياسى والأمنى الأمريكى يستشعر الخطر من هذا الانقسام الحاد بسبب ما كشفته تحقيقات اقتحام الكونجرس من قبل أنصار ترامب فى يناير الماضى.
وصورت آلة الدعاية الأمريكية التى تخضع لأباطرة العولمة أن مقتحمى الكونجرس كانوا مجموعة من المجانين وتصدرت صور وفيديوهات أصحاب الأزياء الغريبة المشهد لتأكيد جنون المقتحمين وغرابة أطوارهم.
أتت التحقيقات لتقول أمرًا غير هذا تمامًا.. نعم كان هناك بعض غريبى الأطوار، لكن الكتلة الأكبر من هؤلاء المقتحمين كانوا من داخل المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية عاملين ومتقاعدين بل وصل الأمر إلى التأكد من وجود مساعدات قدمت لهم من داخل أعلى الدوائر العسكرية والأمنية الأمريكية المتعاطفة معهم.
لم يكن غريبًا بعد هذا أن يعلن الرئيس بايدن فى كلمة رسمية للأمة أن الخطر الأكبر الذى يهدد أمريكا لم يعد يأتى من الخارج بل أصبح يأتى من الداخل.
تبدو دعوى ترامب القضائية وأنصاره ضد شركات التواصل الاجتماعى فى ظاهرها كسابقتها لكن تصاعد حالة العنف المستمرة التى تمارسها تنظيمات أمريكية يمينية ضد السلطة الحاكمة فى الولايات المتحدة التى ترى فيها ممثلا للعولمة ومناهضة للدولة الأمريكية وتخفى آلة الدعاية الأمريكية بكل الوسائل هذه الأعمال وتعطيها صفة جنائية وليست سياسية فمع هذا المشهد العنيف تشير دعوى ترامب وأنصاره الى أن القادم فى الداخل الأمريكى أكثر عنفًا خاصة لو انتصرت امبراطورية شركات العولمة.