الأربعاء 29 مايو 2024

أحمد محمود.. ناسك الترجمة

21-5-2017 | 11:02

د. رفعت السيد علي - كاتب ومترجم مصري

تهل ابتسامته الطيبة الهادئة وهو قادم من بعيد، تسبقه ممهدة جوا يوحي بالطمأنينة والرضا. ثم تتضح راحة تسود ملامح الوجه تشيع سلاما وطيبة، على صفحة وجه أسمر بلون المصريين، قد تختلف معه في انتماء فكري أو سياسي، وما أكثر ما كنا نختلف، إلا أن ملامح الطيبة والرضا لا تفارق وجه أحمد محمود (5 سبتمبر 1951 ـ 22 مارس 2017).

   عمل أحمد محمود طوال عمره في صمت ودون أن يشعر به أحد إلى أن يفاجئ قارئ العربية بتحفة فكرية مترجمة عن الإنجليزية. في عام 1973 تخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في الترجمة من القسم ذاته عام 1987، وعمل في تدريس اللغة الإنجليزية بالمدارس المصرية والجزيرة العربية حتى عام 1990 حين ترك التدريس وتحول إلى الصحافة. بدأ العمل مترجما بالقسم الخارجي لصحيفة "العالم اليوم" حتى عام 1994 لينتقل منها للعمل رئيسا لقسم الترجمة لمجلة "كل الناس" على مدى أربعة عشر عاما، ثم رئيسا لقسم الترجمة بصحيفة "الشروق" القاهرية منذ صدورها عام 2009 حتى عام 2016.

   على مدى حياته العامرة بالعمل بالتدريس إلى العمل الصحفي لم يكف يوما عن ترجمة الكتب، يعمل بدأب ونظام كشغالات النحل، يستمد من العمل متعة وإحساسا بالوجود، انحصرت متعته في نقل الفكر من لغة حضارة سائدة ومتقدمة إلى لغة حضارة تلهث للحاق بالركب والتشبث بالوجود، وكثيرا ما كنا نطرح تلك القضية والحسرة تملأنا من هوة معرفية شاسعة تفصلنا عن عالم ينطلق في التحديث بسرعة صاروخية، ونحن نركض خلفه بسيقان عرجاء من اجتهادات فردية تفتقد للمشروع والعمل المؤسسي الذي يتعين عليه أن يرصد حجم الفجوة، كنا منشغلين دوما بقضية عشوائية الترجمة، والاجتهادات الفردية التي تفتقد للرؤية الشمولية المنهجية المنوط بها جسر الفجوة المعرفية والثقافية، وتنتهي الحوارات بمشاعر الحسرة بعد أن يتحفنا شوقي جلال بأرقام صادمة عن حركة الترجمة بإسرائيل التي تترجم سنويا خمسة أضعاف ما تترجمه كل الدول العربية مجتمعة، فتتصاعد تنهدات التحسر والمرارة من صدور مكلومة على واقع كسيح يلهث وراء عالم منطلق في صحة وحيوية. أين الداء؟ هل هو التأسيس المعرفي الذي توقف عند معطيات ألف عام مضت وكف عن تجديد ذاته؟ أم إغلاق باب الاجتهاد الذي جمد حرية صراع وتلاقح الأفكار؟ هل هو افتقاد توفر إرادة سياسية جادة في التأسيس لمشروع حضاري؟ يصخب الحوار وتعلو وتيرة الاجتهادات الفردية والرؤى ويظل الحماس ملتهبا حتى يصطدم بغياب المشروع.

   ربما مثل أحمد محمود مشروعا فرديا مصغرا في حركة الترجمة للعربية من الإنجليزية، فقد بلغ عدد ما نشر من كتب قام بترجمتها سبعة وثلاثين كتابا، أما الكتب التي ترجمها ومازالت تحت الطبع في دور نشر مختلفة فتصل إلى اثنى عشر كتابا، أي بإجمالي كتب مترجمة في مجالات متنوعة من المعارف تسعة وأربعين كتابا. عدا ذلك فقد ترجم للناشئة خمسة عشر كتابا نشرت جميعها بدار الشروق المصرية، منها: قصص من شكسبير، قصص من أنحاء العالم، الفن للجميع، موسوعة التاريخ، أسرار وعجائب العلوم، موسوعة جسم الإنسان، قصة الكهرباء، ماري كوري، مشاهد من حضارة مصر، مشاهد من حضارة اليونان، ومشاهد من حضارة روما. وتمثل تراجم الناشئة رافدا مهما من الترجمة في إعداد أجيال مؤهلة لمواكبة حضارة تنتقل بالبشر لآفاق كانت مجرد خيالات من عقود قليلة مضت.

    برصد الكتب المنشورة التي ترجمها أحمد محمود نتبين أنها تضم صنوفا مختلفة من المعرفة: علم الاجتماع، والاقتصاد، والتاريخ، والسياسة، والإعلام، والاقتصاد السياسي، والفولكلور، وغيرها من معارف، منها على سبيل المثال: "الناس في صعيد مصر"، تأليف وينفريد بلاكمان، وهو أنثروبولوجيا ثقافية عن عادات وتقاليد أهل صعيد مصر على مدى قرون. و"التراث المغدور"، تأليف روبرت دنيا وجون فاين، و"تشريح حضارة"، تأليف باري كيمب، و"صناعة الثقافة السوداء"، تأليف أليس كاشمور، و"صناعة الخبر في كواليس الصحف الأمريكية"، تأليف جون هاملتون، وجورج كريمسكي، و"التحالف الأسود: وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والمخدرات والصحافة"، تأليف كوكبرن وجيفري سانت كلير، و"الاقتصاد السياسي للعولمة"، تحرير نجير وودز، و"التنمية الإقليمية والمجتمع الباسيفيكي"، تأليف محاضر محمد، و"سجلات تاريخية من مصر القديمة"، تأليف هنري بريستد، (ثلاثة مجلدات)، و"عندما تتصادم العوالم"، تأليف جين هيك، و"الشرق الأوسط والولايات المتحدة"، تأليف ديفيد ليش، و"ما بعد الليبرالية"، تأليف جون جراي، و"الحياة بعد الرأسمالية: اقتصاد المشاركة"، تأليف مايكل ألبرت، تقديم جودة عبد الخالق، و"مصر أصل الشجرة"، تأليف سيمسون نايوفيتس، مجلد 1 ومجلد 2، و"الرقابة والتعتيم في الإعلام الأميركي"، تأليف بيتر فيلبس، و"قاهرة إسماعيل"، تأليف سينثيا منتي، و"الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: اللورد والفلاح في صنع العالم الحديث"، تأليف بارينجتون مور، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة، في بيروت عام 2008، ويتناول أسباب تطور بعض البلدان في العصر الحديث كديمقراطيات بينما يتطور بعض آخر كدكتاتوريات فاشية أو شيوعية، ويبحث في الأدوار السياسية التي قامت بها الطبقات المالكة للأراضي وطبقة الفلاحين باعتبارها مجتمعات تطورت من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية حديثة.

   وكأنما كان أحمد محمود يسعى بكل جهد ودأب لترك بصمة مضيئة من بعده، ونجح بالفعل في صنعها، ويكفيه أنه ترك للأجيال القادمة ما ينير لهم بعضا من طريق المعرفة، انكب على تفريغ عمره على صفحات أوراق صحف ومجلات وكتب، حتى انطفأ وهج الشمعة في فجر الثاني والعشرين من مارس 2017، وانتقل ضوؤها إلى عشرات الكتب التي ستبقي على اسمه في ذاكرة الأجيال.