"مبيض النحاس" واحدة من المهن القديمة التى عرفتها معظم البيوت العربية في المدن والقرى في العصر الذي راج فيه الاعتماد على النحاسيات كأوعية مختلفة الاستخدامات، وكان الاستعمال المتكرّر لهذه الأغراض يؤثّر فى لونها، فكانت نساء القرى تنتظرن مبيض النحاس الذي يشعل نارًا ويعيد للأوانى ألوانها الطبيعيّة عبر استخدام القصدير والنشادر والرماد والخيش والقطن.
ويعد "تبييض النحاس" إحدى المهن التقليدية القديمة التى توارثها الآباء عن الأجداد، فحافظت بشكل كامل على نسقها والتزامها بأدواتها على الرغم من التطور البسيط الذي طرأ عليها كدخول النار بالدرجة الأولى والمواد المنظفة القوية، ولا تزال هذه المهنة موجودة فى بعض البلدان العربية مثل سوريا والعراق وغيرها حتى وقتنا الحاضر.
وتتعدد أشكال النحاس، منها ما يستخدم لطهي الطعام، ومنها ما هو مخصص لغسيل الملابس أو للضيوف يغسلون الأيدي بعد وجبات الطعام، وبعدد وأشكال هذه الأواني يقاس ثراء الأسرة أو فقرها.
ولأن النحاس يحتاج إلى جهد كبير فى تنظيفه، وسخونته الشديدة تحتاج إلى قدرة هائلة على الاحتمال، وكان مبيض النحاس يقاوم الألم بالغناء الشجى، حتى لو كان غير مفهوم، لكنه يتوافق مع حركة جسده، ويكون فعالا فى مقاومة حرارة النحاس، وكي يحرك جسده بحرية وكأنه يؤدى رقصة، كان يقبض بيديه على شىء ثابت كشجرة، وإذا أنجز الإناء يقفز قفزتين سريعتين، ليعلن اكتمال تبييضه ليبدأ فى آخر، ولا يغادر القرية حتى يكون أعفي أهلها وخلَّص أوانيها من مخاطر الجنزار الأخضر.
وكان المبيضون يستقبلون أوعية الزبائن التى كانت تتكدس فينتظر الزبون دوره لأيام، وكان مبيضون من مناطق معينة يجولون إلى مناطق أخرى، تفتقر إلى مبيضين، يحملون معهم عدة الشغل ويمكثون لأيام حتى انتهاء خدماتهم.
ولا يزال بعض المبيضين السوريين يجوبون القرى والمناطق للعب الدور عينه، رغم شح أوعية النحاس، وفي بعض المدن كطرابلس اللبنانية، لا يزال الباقون من صناع النحاس يحترفون التبييض لحاجاتهم الخاصة، ويقدمون الخدمة للراغبين الذين يتراجع عددهم لدرجة أن التبييض لم يعد يغطي حاجات الحرفي، ومع انتشار أوانى الـ"ستانليس" والمعادن الأخرى والاستغناء عن الحطب انحسرت هذه المهنة.