بقلم : عمرو على بركات
بعد عشر سنوات من خدمته فى الأمن المركزى، عُرف بين زملائه وقياداته بأستاذ فض المظاهرات، كان محترفاً فى إطلاق الغازات المسيلة للدموع، يتقدم القوات بعصاه المنتصبة فى يده اليمنى، محتضناً درعه بيده اليسرى، يقتحم التجمعات بقامته الفارهة، ومنكبيه اللذين تجاوز عرضهما عرض درعه، يحسب بدقة متناهية اتجاه الرياح وسرعتها، فيقذف طلقة الغاز، وهى القذفة، يجرى الجميع أمامه وهو بمفرده، مهرولين، تتساقط من أيديهم شعارتهم المرفوعة، يبكون من عملاق الفض، حتى قبل أن ينزل عساكره من اللوارى، يدرب الضباط الجدد على فن الفض، وله بحث فى سيكولوجية فض المظاهرات، كان محل تقدير وإعجاب السيد اللواء القائد، لم يتزوج بعد! فباتت نشوة فضه لمظاهرة لا تعادلها نشوة فض أخرى مهما كانت، أصبح فض المظاهرات بالنسبة له من أولويات حاجياته الإنسانية الواجبة للإشباع، أدمن الفض، أصبح متوتراً نفسياً بسبب استقرار الأوضاع السياسية، ونجاح الحكومة فى حل جميع مشاكل الجماهير، فلم تعد هناك مظاهرات فئوية، ولا مطالب شعبية، ولا مظاهرات عمالية، فالأسعار مستقرة، والعلاوات تنهال على الموظفين، فبات مضطرباً سلوكياً، دائم الانفعال لأتفه الأسباب، يبحث عن شمة غاز، راحته فى سيلان دموعه، لاحظ السيد اللواء عليه فى إحدى خدمات التشريفة عنفه بدون مبرر، وعقب انتهاء المأمورية، أمره بمرافقته فى سيارته، وسأله وهما فى منتصف الطريق بعد حديث عابر عن مشاكل العمليات والتدريب، فباغته قائلاً:" هل أنت مرتبط عاطفيا؟"، فوجئ بالسؤال، فاستأنف السيد اللواء:"يعنى مفيش مزة تكون فضيت مظاهرتها قبل كده؟"، فأجاب بالنفى، وكأنه ينفى أمراً منكراً عنه، فقال اللواء:"عروستك عندى.. ابنتى أصغر منك بخمسة أعوام .. تعمل فى بنك استثمارى..وعلى رأى المثل..اخطب لبنتك ولاتخطبش لابنك"، كان السيد اللواء يعلم أنه ضابط ملتزم، ومؤدب، لم يرتكب خطأ مسلكىا واحدا، وحيد والديه، والده موظف حكومى بدرجة مدير عام، والدته ربة منزل، وسيم، مستقيم، لم يدخن فى حياته سيجارة، ولكنه استنشق غازات مسيلة للدموع ما تكفى لفض مظاهرات تاريخ مصر السياسى منذ ثورة 19، لم يكن رأى ابنة السيد اللواء القائد من قبل، ولكن والدته، ووالده عندما علما بالأمر تلقياه بإرتياح، وفرحة غامرة، وترحاب بالغ، متمنيين أن يتمم الله على خير، وتكون من قسمته ونصيبه، فقد كان يرفض كل البنات التى تعرضهن عليه والدته، وفوجئت والدته بحرم السيد اللواء تطلبها تليفونياً، وتعارفا سريعاً، وأفضت لها بأسماء زملاء ابنها الذين تقدموا لخطبة ابنتها، ولكن الباشا اللواء لم يجد فيهم من يستحقها إلا ابنها، فهو يعتبره ابنه، وعرفت من حرم السيد اللواء أن شقيق العروس الأكبر رئيساً للمباحث بالصعيد، وزوج شقيقتها الكبرى مأمور لقسم شرطة فى الوجه البحرى، وتم الاتفاق بينهما على تحديد موعد لزيارتهم فى منزل العروس للتعارف، ولكن كلما تخبرها أم العروس عن موعد للزيارة، كان يؤجل حتى تُرفع حالة الطوارئ، ويتم فتح الراحات والإجازات، ليتمكن السيد اللواء، وشقيقها، وزوج شقيقتها من الحضور، وبعد إلغاء حالة الطوارئ، وعودة الأمور لطبيعتها، جلس الجميع فى الصالون، يتناولون تحية الترحيب، لم يتمكن من النظر للعروس احتراماً للسيد اللواء، ولكنه لمح نظرة والدته والسعادة ملؤها؟ فلم يجد مفراً من الابتسامة البلهاء الدالة على الموافقة والقبول، وكانت نفس النظرات على الجهة الأخرى من الصالون، ولم يغب عن بداهة السيد اللواء، والسيد المأمور، والسيد رئيس المباحث رؤيتهم لابتسامته لأمه، وبعد صمت لم يسد لثوان، كما لو كان صمت التقاط الأنفاس لاتخاذ القرار، حتى صاح السيد اللواء، بلهجة آمرة، قاطعة، حاسمة، قائلاً:" نقرأ الفاتحة"، وعلى الفور نفذ الجميع لأمر أقدم رتبة فى الصالون، ورفعوا أيديهم يتلون الفاتحة، وكانت تلك هى المرة الأولى التى يرى فيها العروس، فتبادلا النظرات وهما يقرآن الفاتحة، فقد كانت حسناء ابنة لواء، وفجأة دوت نغمات متعددة لكل الموبيلات الموجودة فى الصالون فى وقت واحد، وكأن ثورة اتصالات قد اندلعت فجأة فى الصالون! أو تحول الصالون إلى غرفة عمليات فى مديرية أمن، فتح جميع الضباط بمخلف رتبهم، وتوزيعهم الجغرافى هواتفهم المحمولة، وأنصتوا، وكأن على رءوسهم الطير، للاتصال على الجانب الآخر، وكانت إجابتهم واحدة، وهم يغلقون الهواتف قائلين كلهم من أول اللواء إلى العريس أحدثهم:"علم.. تمام.. حاضر.. حاضر.."، أما السيد اللواء فقد قال ما يزيد علي عشر مرات"حاضر" منفرداً، وقال السيد اللواء للجميع بلهجة حادة:" الراحات قفلت.. أعلنت الوزارة حالة الطوارئ.. عندى اجتماع فى الوزارة حالاً"، وقام ابنه، وزوج ابنته، بإخباره أنهم تلقوا نفس الإشارة، وعقب سيادته قائلاً:" أنا كنت حاسس .. علشان كده قلت نقرأ الفاتحة قبل الراحات ما تتقفل"، وفى ظل هذه الأجواء المتوترة، انصرف العريس، ووالداه حتى لم يقل أحد من أهل العروس للعريس:" ألف مبروك"، وعقب هذه الزيارة توالت بسرعة إعلانات حالة الطوارئ، وخلال ثلاث مرات من إعلان وإلغاء حالة الطوارئ، تمكن الأهل من إعداد شقة الزوجية، وقرر السيد اللواء عدم إقامة حفلة خطوبة، وأن يكون كتب الكتاب يوم حفل الزفاف، نظراً للظروف التى تمر بها البلاد، ووجدت الأسرتان صعوبة فى تحديد موعد ليلة الدخلة، وكتب الكتاب، فعند كل تحديد لموعد، يتم قبله بيوم إعلان حالة الطوارئ عند السيد اللواء والعريس، بينما يكون المأمور، ورئيس المباحث فى الراحة، وفى الموعد التالى يكون السيد اللواء، والعريس، والمأمور فى الراحة، ولكن السيد رئيس المباحث عنده طوارئ، وفى الموعد التالى يكون السيد اللواء، والعريس، ورئيس المباحث فى الراحة، ولكن السيد المأمور عنده طوارئ، وفى الموعد التالى كان الجميع فى الراحة، وحالة الأمن مستقرة، ولكن والدة العروس أعلنت استحالة الدخلة لأن العروس غير مؤهلة بيولوجياً لليلة الدخلة!! وأخيراً توافقت الطبيعة البيولوجية للعروس، مع إلغاء حالة الطوارئ فى العائلة، وتم الزفاف، وكان السيد اللواء يعلم أن العريس المحترف فض المظاهرات، لا خبرة له بما هو مقدم على فضه الليلة، فهمس فى أذنه وهو على عتبة شقة الزوجية قائلاً وهو يربت على كتفه:" وحش..طول عمرك أسد..مشرف الوزارة"، وودعه الجميع وهو يدخل شقته، وفى يده عروس ابنة السيد اللواء قائده، ومثله الأعلى الذى أصبح حماه، وشقيقة السيد المقدم رئيس المباحث الذى أصبح نسيبه، والسيد العميد المأمور زوج شقيقتها الذى أصبح عديله، وفى غرفة النوم وهو يهم بأن ينفذ تعليمات السيد اللواء، مستجيباً لصيحة الطبيعة، كان كلما تذكر وجوه رتب أهل العروس التى هى تمارس الاستحياء وهى تخلع فستان فرحها، وتصارحه قائلة:" أنا كنت بحب اتفرج على سيديهاتك دايماً اللى مع بابا وانت بتفض المظاهرات"، لم يهتم، فهو غير مقتنع أنه سيفعل معها ما هو مفترض فى مثل هذا الوقت، كان كمن لو ينتظر حدثاً كونياً غيبياً يخرجه من حرج انتهاك حرمة السيد اللواء قائده الأعلى، والد عروسه ليلة دخلته عليها، فهو عجز عن إزاحة ذات الفعل من كونه حلال وحرام فى وقت واحد، وكأنه يواجه "عشماوى" ليحل مأساته فى تنفيذ حكم الإعدام دون أن يكون قاتلاً؟! لم يكن يضع فى حسابه هذا الظرف الأخلاقى، ولا أبعاده الفلسفية ليلة دخلته، تساءل بينه وبين نفسه:"ألم يمتلك السيد اللواء نصيحة أخرى لينصحنى بها فى ليلة دخلتى السودا على بنته؟ غير أنى مشرف الوزارة؟!"، العروسة بدأت تتململ فى السرير الذى لم يستعمل من قبل، أخذ يعيد على ذاكرته مواقفه الجبارة فى فض المظاهرات عبر تاريخه، قال لنفسه:" أعتبرها مظاهرة وفضها..واخلص"، حتى بدأت العروس تفقد الأمل، تولاه اليأس، عجز عن إزاحة صورة والدها السيد اللواء من ذاكرته، وصوته الجهورى فى الاجتماعات، وطرقات الإدارة، وميدان التدريب، وأثناء الخدمات، كاد يتكور على طرف السرير، وينهمر فى البكاء، تمنى أن يكون قد مات شهيداً فى إحدى المأموريات، ولا يفعل اللازم فعله مع ابنة معالى اللواء، ظل يكرر محاولاته الفاشلة مستعمل، وبالعدد، كما لو كان فى ميدان تدريب، حتى انبلج ضوء الصباح، وبات اليأس من الحياة الزوجية هو مصيره، بل ويهدد رجولته، ماذا ستقول العروس لوالدها فى الصباحية؟ وكيف ستكون فضيحته بين زملائه؟ وقبل أن يبكى، رن هاتفه المحمول، وظهر رقم غرفة عمليات الإدارة، التقطه بلهفة المستغيث الذى كان ينتظر أى نداء، واستمع للمكالمة بلهفة الغريق لقشة النجاة، ووجهه يهرب من وجه عروسه فى صبيحة ليلة الدخلة، وقال لمحدثه، ولأول مرة ينطق بصوت مسموع فى تاريخ حياته الزوجية القصير:" تحت أمرك يا فندم.. أنا جاى حالاً"، ونظر لزوجته العذراء معتذراً كالمغلوب على أمره لأسباب خارجة عن إرادته قائلاً بصوت رجولى حاد:" الراحات اتلغت.. والحالة جيم"، وفتح دولاب ملابسه فى ثلاث عدات كما كان يفعل أثناء فترة المستجدين، ليستر نفسه بالأوفرول الميرى الكاكى، وعند باب الشقة سألته العروس البائسة متهكمة:" هاترجع أمتى؟"، فقال كالمنتشى:" معرفش..فى حالة طوارئ"، وأغلق خلفه باب البيت، وانطلق يدعو الله أن تكون هناك مظاهرة يفضها على رءوس الأشهاد.