تتوالى التصريحات والسياسات الأمريكية التى تسعى لفرض رؤى جديدة على القضية الفلسطينية، مما يُثير تساؤلات حول مدى ارتباطها بالواقع السياسى والتاريخى فى المنطقة. ولعل أحدث تلك التصريحات تلك التى جاءت على لسان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى أثار جدلًا واسعًا بعد إعادة طرح ملف تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار، مثل مصر والأردن، تحت شعار «إيجاد حلول مؤقتة».
قوبلت التصريحات الأمريكية برفض عربى قاطع، فى مقدمته موقف مصر الرافض لأى مساس بثوابت القضية الفلسطينية. وهى تصريحات تأتى فى سياق محاولات سابقة لإدارة بايدن، التى اقترحت خلال الحرب الأخيرة فكرة نقل سكان غزة مؤقتًا، لتتجدد هذه المحاولات مرة أخرى فى عهد ترامب، الذى أبدى تصميمًا على إعادة فتح الملف، متجاهلًا التبعات الكارثية لمثل هذه السياسات.
وكان «ترامب» قد وصف قطاع غزة بأنه «موقع هدم» بعد الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس، مشيرًا إلى أن الوضع يستدعى إعادة بناء كاملة، لكن خارج القطاع. وأضاف: «كل شيء دُمر تقريبًا هناك، والناس يموتون. أفضل العمل مع بعض الدول العربية لبناء مساكن جديدة فى موقع آخر يعيشون فيه بسلام ولو لمرة واحدة».
الاقتراح تضمن نقل الفلسطينيين من غزة إلى دول الجوار كحل مؤقت، لكنه قُوبل برفض شديد من الدول العربية التى اعتبرت التهجير القسرى تجاوزًا للخطوط الحمراء، وتهديدًا وجوديًا للأمن القومى العربي.
اللافت أن إدارة «ترامب» لم تكن أول من طرح أفكارًا مشابهة خلال الحرب الأخيرة على غزة، حيث سبق وأن درست إدارة بايدن نقل السكان مؤقتًا إلى خارج القطاع لتقليل الخسائر البشرية. ومع ذلك، أكدت مصر والأردن رفضهما المطلق لهذه الخطوة، مشددتين على أنها تُشكل محاولة للالتفاف على حقوق الفلسطينيين الشرعية.
وفى سياق متصل، كشفت تقارير على شبكة «إن بى سى نيوز» عن محاولات سابقة لإدارة ترامب للعمل مع دول خارج المنطقة، مثل إندونيسيا، لاستيعاب جزء من سكان غزة، وأشارت التقارير إلى أن وزير الخارجية الإندونيسى كان قد تلقى اتصالًا من وزير الخارجية الأمريكى لمناقشة دور بلاده فى إعادة إعمار غزة بعد الحرب.
ورغم أن هذه الأفكار لم تجد طريقها إلى التنفيذ، فإن مجرد طرحها يُثير القلق بشأن خطورة التوجهات السياسية الأمريكية فى التعامل مع القضية الفلسطينية. ومع ذلك، نفت الحكومة الإندونيسية هذه التقارير، مؤكدةً أنها لم تتلقَ أى معلومات رسمية بشأن خطط لنقل سكان غزة إليها، وأعربت إندونيسيا عن رفضها لأى محاولات لتفريغ غزة، معتبرةً ذلك استمرارًا للاحتلال الإسرائيلى غير القانوني.
وبالنسبة للفلسطينيين، تذكرهم هذه الطروحات بمآسى النكبة، وتفتح جروحًا تاريخية لم تُشفى بعد. خاصة فى ظل تأييد قيادات اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية لهذه الفكرة، مما يزيد من تعقيد المشهد.
وتعليقًا على تصريحات ترامب الأخيرة، أشار الدكتور ريتشاد تشاسدي، أستاذ العلوم السياسة فى جامعة واشنطن والباحث فى مركز السلام والصراعات فى تصريح خاص لـ«المصور»، إلى أن «الاقتراح قوبل برفض قاطع من قبل العديد من الأطراف، بما فى ذلك حركة حماس، السلطة الفلسطينية، الرئيس عبدالفتاح السيسي، الملك عبدالله الثاني، بالإضافة إلى قادة إقليميين آخرين فى الشرق الأوسط ومن ثم العديد من الدول الأوروبية، فقد تكون تصريحات ترامب قد صدرت من منظور متطرف، حيث من الممكن أن تُعتبر البدائل الأخرى أقل تطرفًا وأكثر قبولًا».
وأضاف: من جانب القانون الدولي، يُحتمل أن يشكل هذا الاقتراح انتهاكًا للقانون الدولي، وبالتحديد «اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين فى وقت الحرب». المادة 49، الفقرة الثالثة، تنص على أنه «يُحظر النقل القسرى للأفراد أو الجماعات، وكذلك الترحيل من الأراضى المحتلة إلى أراضى الدولة المحتلة أو إلى أى دولة أخرى، سواء كانت محتلة أم لا، بغض النظر عن الدوافع»، لكن، المادة 49 تضيف: «قد تكون عمليات الإجلاء غير قابلة للتنفيذ خارج حدود الأراضى المحتلة إلا إذا كان من المستحيل تجنب هذا الإجلاء لأسباب مادية»، هذه العبارة تفتح المجال لتفسير واسع، ويعد تحديد ما إذا كان «من المستحيل تجنب هذا الإجلاء» أمرًا مرهونًا بتقدير من قد يكون معنيًا بتنفيذه.
وتابع: من الناحية السياسية، رغم أن الولايات المتحدة ليست «دولة محتلة»، إلا أن أى خطة يتضمن فيها الجيش الأمريكى قد تُفهم على أنها تتماشى مع المصالح الإسرائيلية وتتطلب تنسيقًا إسرائيليًا جزئيًا فى تنفيذها. بالنسبة للبعض، قد يُنظر إلى تدخل الولايات المتحدة مع إسرائيل فى هذا السياق على أنه يضفى صفة «القوة المحتلة» من الناحية العملية (وليس القانونية بالضرورة).
وعلى الرغم من أن هذا لا يُعتبر انتهاكًا صارمًا للمادة 49، إلا أن الخطة ستكون خطوة سياسية فاضحة ستجلب الكثير من التكاليف السياسية للولايات المتحدة.
من خلال هذه الرؤية، يمكن أن يُنظر إلى اقتراح ترامب على أنه مبكر جدًا وربما يزعزع استقرار المنطقة، ويزيد من القلق فى مصر والأردن ولبنان، ويُنفذ بدوافع سياسية داخلية، مدعومًا من الجناح اليمينى المتطرف فى الحكومة الإسرائيلية. إلى جانب ذلك، قد يكون الهدف منها تعزيز موقع ترامب الشخصي، لدعم الجناح اليمينى المتطرف فى الحكومة الإسرائيلية (كما يتوافق مع رفع العقوبات المفروضة على المستوطنين اليهود فى الضفة الغربية) ولإبراز مكانة ترامب الشخصية.
وفيما يخص تصريحات ترامب الأخيرة بخصوص «تطهير غزة» وتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، أشار مهدى عفيفي، الباحث والمحلل السياسى والاقتصادي، إلى أن «السياسات الخارجية للديمقراطيين والجمهوريين فى الولايات المتحدة الأمريكية متقاربة جدًا فى جوهرها، رغم اختلاف الانتماءات الحزبية».
وأوضح أن متابعة ما يقوله «ترامب»، بالإضافة إلى ما حدث أثناء زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة الأمريكية ودخوله إلى الكونجرس، تبرز بشكل واضح الدعم الكبير الذى يحظى به نتنياهو من قبل الكونجرس الأمريكي. الاستقبال الحافل والشعبى الذى لم يكن له مثيل فى التاريخ لنتنياهو فى الكونجرس يُعد مؤشرًا قويًا على مدى تأثير اللوبى الصهيونى على صناعة القرار فى الولايات المتحدة.
وأضاف «عفيفي»، أن «ترامب، حينما أمسك بالخريطة ونظر إلى فلسطين، رأى أن حجم إسرائيل صغير جدًا بالمقارنة مع محيطها، وبالتالى لا بد من الأخذ فى الاعتبار التصريحات التى تصدر من بعض الصهاينة فى الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يعلنون بصراحة عن نيتهم فى إنشاء «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات، وهذا الخطاب العلنى يعكس تمامًا ما يروج له بعض الساسة الصهاينة ومعهم الكثير من أعضاء الكونجرس الأمريكي، وبالتالي، ما يحدث اليوم هو فى الواقع جزء من المستقبل الذى كان متوقعًا لمن تابع تصريحات ترامب منذ بداية حملته الانتخابية أو ما قام به فى فترة رئاسته الأولى. ولا يجب أن ننسى ما فعله ترامب فى ولايته الأولى عندما منح إسرائيل الجولان على طبق من ذهب، وأيضًا عندما نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ما شكل تحديًا للمجتمع الدولى وخرقًا للقرارات الأممية.
وتابع «عفيفي»: ترامب قد تعهد للداعمين من الصهاينة بأنه سيتبنى سياسة تؤيد إسرائيل فى كافة القضايا، وقد بدأ بتنفيذ ذلك منذ أولى قراراته عبر رفع الحظر على المستوطنين الإسرائيليين ورفع الحظر عن القنابل التى تزن 200 رطل، وهى أسلحة قاتلة، مما ساهم فى تعزيز القوة العسكرية الإسرائيلية. واليوم، يواصل ترامب الحديث عن هذا الدعم المستمر لإسرائيل فى جميع الشؤون، فى سياق مناصب سياسية استراتيجية.
وأضاف «عفيفي» أن «ترامب يعود الآن لتنفيذ خطة كان قد فشل فى تنفيذها فى فترة رئاسته الأولى، وهى الوصول إلى اتفاقات سلام مع الدول العربية تحت ما يعرف بـ«الاتفاقات الإبراهيمية». وهذا يعد جزءًا من سعيه لتحقيق «صفقة القرن» التى لم يستطع إتمامها فى وقت سابق، وعلى الرغم من فشلها فى ذلك الوقت، فإن ترامب يسعى الآن إلى إحيائها من جديد عبر إيجاد حلول تهدف إلى استقرار إسرائيل».
وتابع قائلًا: «يجب أن نتذكر أيضًا أن صهره، جاريد كوشنر، الذى يعد من أبرز الداعمين لإسرائيل، قد أشار فى وقت سابق إلى أن «من الخسارة أن تكون أرض مثل أرض غزة ليست منتجعات سياحية»، وهذا التصريح يعكس تمامًا رؤية الإدارة الأمريكية لما يجب أن يكون عليه الوضع فى المنطقة، إذ إن التطوير الاقتصادى والتوسع الإقليمى لا يتماشى مع رغبات الفلسطينيين أو حقوقهم التاريخية.
وفى الختام، أكد عفيفى قائلًا: «كما كنت أقول دائمًا، لا نحتاج إلى تحليلات معقدة أو استنتاجات بعيدة عن الواقع. ما سيحدث هو ما يُعلنه القادة الأمريكيون والإسرائيليون بأنفسهم، فهم لا يتحدثون فقط، بل يقومون بتنفيذ هذه الخطط على الأرض». فما حدث مؤخرًا فى غزة هو مجرد بداية للمخطط الأمريكى الذى يسعى إلى تحقيق أهداف إسرائيل الكبرى، واستمرار دعمها بكل الوسائل. ونحن لا يجب أن ننسى أن الهدنة فى غزة، التى تم التوصل إليها مؤخرًا، ما هى إلا وسيلة لتخفيف الضغوط الإعلامية والسياسية، فى الوقت الذى تستمر فيه إسرائيل فى تنفيذ خططها فى الضفة الغربية وجنوب لبنان وسوريا. هذه هى الخطوات التى تعهد بها اللوبى الصهيونى منذ وقت طويل، وما يحدث الآن هو مخطط مبنى على عقيدة سياسية وعسكرية، وللأسف لن يتوقف عند هذا الحد.