أعد الكاتب الصحفى والاقتصادى البارز عبد القادر شهيب، كتابًا صدر حديثًا، ضمن سلسلة «كتاب الهلال» الشهرية، يرصد آفة التضخم الاقتصادى العالمى والمحلى، وتداعياته العميقة على الفئات الأكثر فقرًا، والأشد تأثرًا من وطأة الغلاء الذى طال المجتمع المصرى.
الكتاب، الذى يحمل اسم «صناعة الغلاء فى مصر»، يتناول مشكلة انفلات التضخم وارتفاع معدلاته خلال السنوات الأخيرة، مُركّزًا على تأثيرات هذه الظاهرة فى ضوء الأزمات السياسية والاقتصادية المتتالية، مبديًا قدرة رصينة على ربط الواقع الداخلى المصرى، بالنظام الاقتصادى العالمى، كوننا جزءا لا يتجزأ من هذه المنظومة..
ويلفت «شهيب»، فى طيات الكتاب، إلى الأحداث السياسية الهامة التى عصفت بمصر، بدءًا من عام 2011، مرورًا بحرب غزة، ثم الحرب الأوكرانية الروسية، مرورًا بجائحة كوفيد 19، وصولًا إلى الاضطرابات الأخيرة فى العام المنقضى 2024، فضلًا عن أزمة الاقتصاد المصرى، الذى يعانى من ممارسات الاحتكار والمضاربات التى يزيدها كبار التجار والمستوردين تعقيدًا.
فى مقدمة الكتاب، يعمد «شهيب» إلى نقل القارئ لعمق الأجواء الاقتصادية التى شكلت الواقع المصرى، من خلال 150 صفحة وعشرة فصول، مليئة بالأرقام الدقيقة والمعلومات الموثقة، ليضع المتلقى أمام حقائق ملموسة، تُسهم فى تشكيل فهم عميق لما يحدث على الأرض، بما يوفر للمؤرخين والباحثين مصدرًا موثوقًا لأحداث وتطورات السنوات الأخيرة.
الكتاب، الذى يُعد جزءًا من سلسلة أبحاث وعناوين تناولت البلاد، منذ انتفاضة يناير حتى وصول الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الحكم، يعرض.
وفى سياق تحليله، يعبر «شهيب» عن أزمة الرهن العقارى فى الولايات المتحدة الأمريكية، التى تسببت فى الأزمة الاقتصادية العالمية منذ عام 2008، وتأثيرها الكبير على الاقتصاد الكلى، حيث انخفض معدل النمو من 7.5 فى المائة إلى 5.4 فى المائة، كما يُسلط الضوء على تأثير هذه الأزمات على مصر، والتى شهدت بدورها زيادة فى معدلات البطالة والفقر، وارتفاع التضخم الذى وصل إلى 19.1 فى المائة، ليبدأ فى الانخفاض تدريجيًا فى عام 2009، ويستقر عند 11.3 فى المائة، ثم ينخفض إلى 10.3 فى المائة فى عام 2010، مما يُعد مؤشرًا على التعافى من الأزمة الاقتصادية العالمية.
عاصفة سياسية
فى الفصل التالى، يأخذنا الكاتب إلى الاضطرابات السياسية الأهم التى نقلت مصر من واقع إلى آخر، من تنحى الرئيس الأسبق مبارك عن حكم البلاد إلى 500 يومٍ تعرض فيها الاقتصاد المحلى لضغوط عاصفة، تحملت فيها القوات المسلحة قدرًا من ميزانيتها لتوفير السلع الأساسية والضرورية مثل الخبز والمنتجات البترولية.. ومع ذلك، ظل التضخم فى حدود السيطرة عند 10.5 فى المائة، مع اهتزاز الاستقرار السياسى فى ظل استمرار الأنشطة الاحتجاجية والأنشطة الإرهابية التى مارستها الجماعة الإخوانية، لإحراز السيطرة السياسية.
وفى سنوات حكم مرسى والجماعة الإرهابية، فى الفصل الثالث، عرض الكاتب الأزمات التى عانت منها مصر من نقص الخدمات البترولية، فضلًا عن ندرة السلع والخدمات الأساسية، وهى الأزمات التى ساهمت فى ارتفاع معدل التضخم إلى 10.3 فى المائة، من 7.4 فى المائة.
غلاء وتعويم X رفع مرتبات
ويخصص الكتاب - فصلًا، لتقصى حالة التضخم والغلاء الذى اندلع بعد قرار تعويم الجنيه فى نوفمبر عام 2016، والذى تم فى إطار اتفاق مبرم مع صندوق النقد الدولى.. فبعد أن كان معدل التضخم يدور حول نسبة 10 فى المائة خلال الأعوام السابقة، بدأ فى الارتفاع ليصل إلى 14.5 فى المائة، وفى عام 2017 قفز إلى 30.7 فى المائة، حيث اقترن تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار بتخفيض الحكومة دعم الكهرباء والمنتجات البترولية.
ويتتبع الكتاب التضخم عبر سنوات من 2021 إلى 2024، وهى فترة تصاعد فيها التضخم إلى أعلى مستوياته، حيث بلغ 40 فى المائة، مما أسفر عن تدخلات حكومية لرفع الحد الأدنى للأجور وزيادة رواتب العاملين بالدولة، ورفع الحد الأدنى للإعفاء الضريبى، فضلًا عن تأجيل رفع شرائح الكهرباء لمدة عام كامل، وتثبيت سعر السولار، والتراجع عن زيادة أسعار رغيف الخبز لأصحاب البطاقات التموينية، مع رفع معدلات الفائدة للإيداع والاقتراض لعدة مرات متتالية بواقع 600 نقطة حتى مستوى 30 فى المائة، وهو ما تسبب بشكل كبير فى تراجع معدلات الاستثمار.
بروز السوق السوداء
فى خضم هذا المشهد المتصدع جاء عام 2024، بالرصد وتحليل تناول الكاتب، ظاهرة الأموال الساخنة بعد خروجها على إثر رفع الفائدة التى اتبعها الفيدرالى الأمريكى وصعودها إلى الواجهة، فضلًا عن هروب كبير للأموال جاوز 20 مليار دولار، بعد قرارات الفيدرالى برفع سعر الفائدة لكبح جماح التضخم داخل الولايات المتحدة الأمريكية، التى داهم اقتصادها موجات من التضخم من 1.5 فى المائة إلى 8.6 فى المائة.
وطوال العامين، ظل البنك المركزى الأمريكى فى رفع الفائدة، وحذا البنك المركزى المصرى حذوه، حيث رفع الفائدة من 8.25 فى المائة إلى 28.25 فى المائة فى مارس 2024، مما زاد من نقص الدولار فى السوق المحلية، وأدى إلى تزايد التضخم، هذا الهروب أثر بشدة على الاقتصاد المصرى، وأصبح من الصعب الحصول على العملة الأجنبية، مما أضر بالعديد من الشركات وزاد من تكاليف الإنتاج.
نتيجة لذلك، برزت السوق السوداء بقوة، حيث ارتفعت أسعار الدولار بشكل كبير، ووصلت قيمته إلى مستويات غير رسمية.. فى ظل تدفقات مالية غير مستقرة وظروف اقتصادية مضطربة، حتى الإعلان عن مشروع رأس الحكمة مع الشركاء الإماراتيين، حيث تدفقت التحويلات السريعة.
التضخم المستورد
يقدم المؤلف نظرة عميقة على موضوع معقد، ولكن بأسلوب سلس وجذاب، لاسيما فى تحليل ظروف التضخم فى الواقع المصرى مع قرارات البنك المركزى وحالة الأموال الساخنة وعلاقتها بالديون، فضلًا عن اختلال العرض والطلب وعلاقتها بانخفاض قيمة الجنيه.
يقدم الكتاب استنتاجات مبنية على تحليل دقيق للبيانات والمعلومات المتاحة، حول موجات الغلاء التى تتعرض لها البلاد منذ عام 2022، فى الفصل المعنون «التضخم المستورد».. ينطلق من مسؤولية المسؤلين عن إدارة اقتصادنا، يؤكد الكاتب أن هذا القول به ثمة مبالغة، لأنه يتجاهل حقيقة أخرى، وهى حقيقة السياسات والتدابير الاقتصادية وما نصنعه نحن بأيدينا..
الحروب تؤجج فاتورة التضخم
علاوة على ذلك، يبرز نجاح الموقف المصرى من الصراع العسكرى بين روسيا وأوكرانيا، وتأمين احتياجاتنا من القمح بأسعار مناسبة، مما يفيد بأن تضررنا من الحرب تم احتواؤه والحد من أضراره بعض الشيء.. إضافة إلى حرب غزة وتراجع عائدات قناة السويس وتأثيرها السلبى على قطاع السياحة.
ويؤكد الكاتب أن التضخم ليس صناعة مستوردة فقط، بل له تأثير محلى أيضًا.. يعزز ذلك بالمقارنة بين معدل التضخم فى الداخل والخارج فى خضم تلك الأحداث، ويقول: فى عام 2022، وصل معدل التضخم العالمى إلى 8.8 فى المائة، وبلغ لدينا 40 فى المائة. فى العام التالى، انخفض التضخم إلى 6.9 فى المائة، بينما بلغ المعدل لدينا 36 فى المائة، وفى منتصف العام الماضى 2024، وصل التضخم العالمى إلى 4.3 فى المائة، بينما بلغ فى مصر 27 فى المائة..
المضاربون يحددون سعر الدولار
فى الفصل ما قبل الأخير، «التضخم المصنوع محليًا»، يستهل عبدالقادر شهيب، بتصريح لنائب رئيس مجلس الوزراء، وحامل حقيبتى النقل والصناعة، كامل الوزير، باعتباره أول مسئول تنفيذى يعترف ضمنًا بأننا مسؤولون عن التضخم والغلاء الذى عانيناه منذ عام 2022.. ويقتبس «شهيب»، التصريح التليفزيونى الذى أسماه «تصنيع الدولار فى مصر»، ويقصد به تصنيع مزيد من المنتجات والسلع التى تغنينا عن الاستيراد من الخارج، وتجعلنا نزيد صادراتنا للخارج، فتزيد مواردنا من النقد الأجنبى، وبالتالى تحسين قيمة الجنيه من مستوى خمسين جنيهًا للدولار الواحد إلى 10 جنيهات.. ويكمل الكاتب فى توضيح كيفية تخفيض الأسعار والتراجع فى التضخم.
فى الفصل الذى يعالج تأثيرات التضخم، يشير الكاتب إلى أن الأزمة الاقتصادية التى تمر بها مصر تفجرت قبل قرار البنك المركزى بتحرير سعر الصرف، حيث شهد عام 2023 انتعاشًا للسوق السوداء للعملة، التى أصبحت تتحكم فى تحديد سعر الجنيه المصرى، ليصبح المضاربون هم الذين يحددون قيمته وفقًا لمصالحهم.
وفى هذا السياق، يبرز الكاتب «صناعة التضخم» التى تعامل معها البنك المركزى عبر حلول مؤقتة مثل الدعم الخارجى أو التوسع فى الاقتراض من الخارج، مما زاد من أعباء الديون الخارجية.
المستوردون يحتكرون ومنافذ الجيش تخفض التداعيات
ويتناول الكاتب فى فصل قضية الاحتكار فى السوق المصرية، حيث يشير إلى أن القوانين المعمول بها لم تكن كافية للحد من الممارسات الاحتكارية التى يمارسها بعض التجار والمستوردين، رغم زيادة العرض الحكومى.. ويشدد على ضرورة تفعيل دور جهاز حماية المنافسة وحماية المستهلك للحد من تأثير هذه الممارسات.
ويؤكد الكاتب أن التضخم لم يتراجع إلى 27 فى المائة، كما حدث منتصف العام الماضى، إلا بعد عدد من الإجراءات، مثل وقف تدهور الجنيه وتنظيم المعارض الخاصة بالسلع الغذائية فى المنافذ التابعة للقوات المسلحة والشرطة، بالإضافة إلى استيراد كميات من السلع التى ارتفعت أسعارها.