يشهد سوق الدواء المصرى وبشكل غير مسبوق ارتفاعًا كبيرًا فى الأسعار، ولا أبالغ إذا قلت إن بعض الشركات المصنعة للأدوية قد ضاعفت أسعارها خلال عام واحد فقط، الأمر الذى مثل عبئًا ثقيلًا على كاهل أصحاب الأمراض المستعصية كالسكر والضغط والقلب والكبد والكلى، ناهيك عن مرضى الأورام الذين وقف البعض منهم عاجزًا عن توفير ثمن حقنة واحدة تجاوز سعرها الأربعة آلاف جنيه !
فيما يبدو أن شعار «إما الغلاء، وإما الاختفاء»، الذى رفعته شركات الأدوية طوال العام الماضي، قد حقق المُراد من رب العباد، فأصبحت مطالبها برفع الأسعار مُجابة من قبل هيئة الدواء المصرية، التى لم تجد مفرًا سوى الرضوخ والاستسلام، وبالفعل وافقت على زيادة أسعار حوالي 600 صنف خلال أشهر مايو ويونيو ويوليو من العام، بنسب تراوحت بين 20 و30 فى المائة للأدوية المعالجة للأمراض المزمنة، ونسب تراوحت بين 30 و50 فى المائة للأدوية غير الأساسية والموسمية المعروفة باسم «OTC، أى التى تُصرف بدون وصفة طبية كالفيتامينات والمكملات الغذائية، لكى تنهى أزمة شُح أصناف كثيرة من الأدوية، وهى الأزمة التى أثارت القلق وهددت صحة وحياة آلاف المصريين الذين حفيت أقدامهم وتقطعت أنفاسهم بحثًا عن دواء يخفف آلامهم أو يشفيهم من أمراض خطيرة قد تقودهم إلى الموت بين لحظة وأخرى!
المثير فى الأمر وبحسب تصريح رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، أن هناك 1600 مستحضر دوائى سوف تشهد زيادة جديدة فى الأسعار خلال الفترة المقبلة وربما تستمر حتى نهاية العام الحالى!
السؤال الذى يطرح نفسه وبقوة.. إذا كانت المطالبة بزيادة أسعار الأدوية فى فترة شُح الدولار وارتفاعه الجنونى مقابل الجنيه المصرى خلال النصف الأول من العام الماضى مبررة ومقبولة فى ظل استيراد 90 فى المائة من مدخلات الصناعة، فلماذا لا يتوقف قطار زيادة الأسعار الآن، بعد استقرار سعر صرف الدولار مقابل الجنيه؟
وللعلم، فإن تصريح رئيس الشعبة يتنافى مع ما أكده د. على الغمراوى، رئيس هيئة الدواء بأنه لا زيادة فى الأسعار طالما ظل سعر الدولار ثابتًا.
حقيقة أجدنى مستفزًا من تصريح أكثر استفزازًا صدر عن رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية حين «عمل نفسه من بنها» ووصف الزيادة التى اعتمدتها هيئة الدواء على أسعار الأدوية حتى الآن بأنها «غير عادلة» فى ظل الارتفاع الكبير بتكاليف إنتاج الأدوية، بعد تحرير سعر الصرف، والزيادة الأخيرة فى أسعار المحروقات، كما أنها قد لا تكون مؤثرة بشكل كبير على المواطنين !
يا «راجل حرام عليك» من أين علمت أو استنتجت أن تلك الزيادة «غير العادلة» من وجهة نظرك قد لا تكون مؤثرة بشكل كبير على المواطنين؟ دعنى فقط أذكرك بمثال واحد ينفى تماما ما وصفته بأنها «زيادة غير عادلة»، هل تعلم أن علبة دواء «ايميريل 4» الخاصة بمرضى السكر، والتى كانت تباع بـ 30 جنيهًا فى مطلع العام الماضى قد قفز سعرها إلى 80 جنيهًا منذ شهرين، ثم إلى 108 جنيهات منذ أيام!
إذن نحن نتحدث عن زيادة بلغت نسبتها 400 فى المائة، قس على ذلك بقية الأدوية مثل «الأنتينال والألفنتيرن والإنتودين والهاى بيوتك والباراسيتامول الخافض للحرارة والمطلوب بشدة لمرضى العناية المركزة، وألبان الأطفال، حتى محلول الملح ارتفع ثمنه، ناهيك عن أدوية الألبومين «البديل الطبيعى للبروتين»، والبيتاكور «المخصص لعلاج القلب»، والتروكسين «المعالج للغدة»، والسفيبيم «مضاد حيوي»، والجلوكوفاج «لعلاج السكر»، والديكابيبتيل لعلاج تضخم البروستاتا، والسيتروتايد «علاج هرموني»، والإيديميكس «المدر للبول»، وحقن الزوفيراكس المضادة للفيروسات»، والازاثيوبرين المعالج لنقص المناعة»، والميثوتركسيت المعالج للأورام»، فهل نسبة الزيادة الضخمة هذه غير مؤثرة على المواطنين؟
الخطير فى الأمر يا سادة أن 90 فى المائة من الأدوية الموجودة بالسوق المصرى من إنتاج القطاع الخاص والشركات متعددة الجنسيات فى ظل غياب شبه تام للشركات الحكومية أو القطاع العام، حسبما قال وزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، ومن ثم فإنها صاحبة الكلمة الأولى وصاحبة اليد العليا والمتحكم الأوحد فى صناعة وتسعير الدواء بمصر المصنفة بأنها من أكثر دول العالم استهلاكا له فى سوق بلغ حجمه 300 مليار جنيه سنويًا!
أعلم أن الدواء هو أحد السلع المُسعّرة جبريًا فى مصر كالمواد البترولية والخبز، يتطلب تحريك أسعاره موافقة هيئة الدواء المصرية بعد تقديم الشركات ما يثبت ارتفاع تكاليف الإنتاج، وأعلم أيضًا أن الدولة تتكلف 3 مليارات دولار كل عام فى تصنيعه، ولكن لابد أن تمتد يدها لوقف زحف أسعار الأدوية المتزايد والمستمر، خاصة تلك التى يداوم عليها أصحاب الأمراض المستعصية، الذين أُنهكوا ولم يعد باستطاعتهم تحمل أو مجاراة أي زيادة جديدة فى ظل دخولهم المحدودة، لا سيما أن معظمهم من كبار السن وأرباب المعاشات !
وعلى الرغم من الشكوى الدائمة من خسائر تصنيع الدواء، والتهديد المستمر بالخروج من السوق، فإن مصر تحظى بوجود 20 شركة دواء كبرى محلية وأجنبية، وحوالى 100 شركة دواء محلية صغيرة، هذه الشركات مجتمعة تعمل من خلال 170 مصنعًا للأدوية على مستوى الجمهورية بحسب إحصاءات عام 2022، مقابل 130 مصنعًا عام 2015، بزيادة قدرها 30.8 فى المائة، بالإضافة إلى امتلاك مصر 700 خط إنتاج عام 2022، مقابل 500 خط عام 2015 بنسبة زيادة 40 فى المائة.
وإذا كانت الشركات المصنعة للدواء فى مصر ترى أنها تمنى بخسائر كبيرة نتيجة استمرارها فى إنتاج دواء تطرحه فى السوق المحلي، فإنها فى المقابل تحقق عائدًا معتبرًا من تصدير كميات ضخمة، بعدما سمحت لها الدولة بوضع سعرين للمنتج الدوائي، أحدهما ضمن برنامج دعم المريض المصرى وهو المخصص للبيع فى السوق المحلي، والآخر أكبر بكثير، لا يتم تداوله محليًا بل يكون مخصصًا للتصدير، والدليل على ذلك بلوغ قيمة الصادرات المصرية للأدوية 1.3 مليار دولار العام الماضى! ويجب علينا أيضًا تذكيرهم بأن الدولة قد أعفتهم من ضريبة القيمة المضافة المقدرة بـ 14 فى المائة على مدخلات الصناعة وهى نسبة محترمة ومشجعة على استمرار الإنتاج وتقليل حجم الخسارة.
وأتصور أن الحكومة تدرك تمامًا حرص هذه الشركات على التواجد فى السوق المصرى الذى يبلغ حجمه 300 مليار جنيه، كما سبق أن ذكرت، وتتطلع من خلاله نحو الانطلاق لفتح أسواق خارجية وإقامة استثمارات تضمن لها توفير ما تحتاجه من دولارات تستورد بها مستلزمات الإنتاج دون الحاجة إلى تدبيرها من مصر، لهذا يجب ألا تتسرع فى الاستجابة للضغوطات التى تمارسها تلك الشركات من أجل الموافقة على تحريك أسعار الدواء كل فترة، وعلى لجنة التسعير التابعة لهيئة تصنيع الدواء أن تترفق بالمرضى خاصة أصحاب الأمراض المستعصية وتضعهم فى الاعتبار، ولا تضعف نهائيًا أمام تهديدات أشبه بطلقات «فشنك» تخرج من مسدسات الصوت!.