تحتل مجلة (المصور) مكانة كبيرة وموقعًا متميزًا فى تاريخ الصحافة المصرية، وهى تقف فى مقدمة المجلات وغيرها من الإصدارات الصحفية الكثيرة التى عرفتها مصر، منذ صدورها فى عام 1924م وطوال مسيرتها الإعلامية إلى اليوم، والغد بإذن الله، باعتبارها مجلة أسبوعية مصورة، تتابع الأحداث أولًا بأول، تنقلها لجمهور القراء وتجعلهم يعيشون الحدث، حيث تُقدم تحليلات متعمقة حول مختلف القضايا والموضوعات، لتُسهم بدورها فى بناء الوعى وتشكيل الهوية.
وفى أكتوبر الماضى (2024م) كان قد مر مائة عام على صدور مجلة (المصور)، كما مر «110» أعوام على رحيل جُرجى زيدان (14 ديسمبر 1861-21 يوليو 1914م) مؤسس دار الهلال، والأب الروحى لجميع إصداراتها.
جُرجى زيدان وتأسيس دار الهلال
ولد جُرجى زيدان وتعلم فى العاصمة اللبنانية بيروت، وفى نهايات القرن التاسع عشر فضل الرحيل إلى مصر، حيث عمل فى مجالات الطباعة والتأليف والترجمة والصحافة، ومن ذلك أنه أصدر العدد الأول من مجلة (الهلال) فى سبتمبر 1892م، وهى ما زالت توالى الصدور إلى اليوم، مجلة شهرية، وهى تُعد أقدم مجلة ثقافية ما زالت توالى الصدور إلى اليوم.
وحسب الكاتب والأديب اللبنانى مارون عبود (1886-1962م)، فى كتابه (رواد النهضة الحديثة)، فإن جُرجى زيدان أراد أن يكون طبيب أجساد ولكن القدر شاء أن يكون طبيب أفكار، حيث تحول من دراسة الطب إلى العمل الصحفى والأدبي.
ولعل هجرة جُرجى زيدان إلى مصر، واستقراره فيها ونجاحه على هذا النحو، تعكس قدرة مصر على استيعاب المثقفين واحتضان المفكرين، وقدرتها على احتواء كل من يفكر فى الهجرة إليها والعيش والاستقرار على أرضها، ما يؤكد أن مصر- ودون مبالغة- عاصمة دائمة للثقافة العربية.
الابنان يواصلان المسيرة
قدم جُرجى زيدان للفكر المصرى والعربى مجلة (الهلال) الثقافية الشهرية، بالإضافة إلى الكثير من المؤلفات التاريخية والإبداعات الأدبية، حتى إن الكاتب والشاعر المصرى زكى فهمى ذكره فى كتابه الشهير «صفوة العصر فى تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر».
إلا أن جرجى توفى فجأة فى القاهرة عام 1914م،عن عمر يناهز نحو ثلاثة وخمسين عامًا، وواصل العمل من بعده كل من ابنيه إميل زيدان وشكرى زيدان، حيث واصلا إصدار مجلة (الهلال) شهريًا بانتظام، كما أنهما فكرا فى تقديم إصدارات أخرى، تزامل المجلة الأم التى أسسها الأب.
مصر سنة 1924م
صدرت مجلة (المصور) نهايات عام 1924م، ولهذا العام ظروفه، التى شجعت على صدور (المصور)، إذ كان المجتمع المصرى وقتذاك فى حالة من النهضة المجتمعية على مختلف المستويات وفى كثير من المجالات..
حيث كان دستور سنة 1923م قد صدر قبل أشهر قليلة، وهو يُعد أبو الدساتير المصرية، وكان أول دستور ونص قانونى يتضمن مادة خاصة عن حرية الصحافة، وإن كانت مقيدة ببعض الضوابط.
وفى عام 1924م أيضًا جاءت أول وزارة شعبية تعرفها مصر، رأسها الزعيم سعد زغلول رئيس حزب الوفد، وقد اعتبره المواطنون آنذاك حزب الحركة الوطنية، وكان أكبر أحزاب تلك الفترة.
وعلى المستوى الصحفى فقد شهد عام 1924م نهضة صحفية كبيرة، حيث صدرت الكثير من الصحف ذات التوجهات السياسية، ومن جانب آخر فإن كثيرًا من أصحاب الصحف الأدبية والثقافية قدموا طلبات لوزارة الداخلية، باعتبارها الجهة المسئولة آنذاك عن إصدار الصحف، بأن تتحول من صحف ثقافية أدبية إلى صحف سياسية، وهو الأمر الذى تحقق لها، وكان ذلك بفضل مُناخ الحرية الذى أشاعته وزارة سعد زغلول.
وكانت ثمة حالة من المنافسة بين الصحف آنذاك، من حيث العمل على جذب جمهور القراء، ما ساعد على الارتقاء بالفن الصحفي.
فى هذا المُناخ صدرت مجلة (المصور).
العدد الأول من (المصور)
أصدر إميل وشكرى زيدان العدد الأول من مجلة (المصور) صباح يوم الجمعة 24 أكتوبر 1924م، قالت فيه «أصدرناها لتبهجك وتتحدث إليك حديث صديق، يقطف لك من كل بستان زهرة ومن كل شجرة ثمرة».
وتصدرت الغلاف صورة الملك فؤاد الأول، ما يعكس تقدير المجلة وارتباطها بالدولة بشكل أو بآخر، وعلى ظهر الغلاف صورة تمثال «نهضة مصر» للمثال الكبير محمود مختار، وهو تمثال يرمز إلى ارتباط مصر الحديثة بمصر القديمة، ما قد يعكس رغبة المجلة فى المساهمة بمحتواها الصحفى فى تحقيق النهضة المصرية آنذاك.
وتصدرت صورة الزعيم سعد زغلول غلاف العدد الثاني، الجمعة 31 أكتوبر 1924م، لتعلن المجلة الوليدة انحيازها للشعب المصري.
رؤساء التحرير
تولى رئاسة تحرير مجلة (المصور) منذ صدورها عدد من الصحفيين، ممن يمثلون قامات صحفية كبيرة، لهم دور بارز فى مسيرة الصحافة المصرية.
من بين رؤساء التحرير يبرز: إميل زيدان وشكرى زيدان، فكرى أباظة، على أمين، أحمد بهاء الدين، صالح جودت، أمينة السعيد، مكرم محمد أحمد، غالى محمد، أحمد أيوب، وصولًا إلى الزميل عبد اللطيف حامد رئيس التحرير الحالي.
الصورة الصحفية
يقولون إن «الجواب يبان من عنوانه»، حيث حملت المجلة الوليدة اسم (المصور)، ما يعنى أنها سوف تهتم اهتمامًا كبيرًا بالصورة الصحفية، ونقل الأخبار وتوثيق الأحداث من خلال الصورة، وهو الأمر الذى تحقق منذ صدور عددها الأول وإلى اليوم، خاصة أن الصورة بألف كلمة وهى أكثر تعبيرًا من الكلمات فى كثير من الأحيان، كما أن للصورة الصحفية جمهورا عريضا يبحث عنها لينتقل إلى موقع الحدث من خلالها.
ومن هنا يصح القول إن مجلة (المصور) قد حفظت ذاكرة مصر المصورة والبصرية، ليس فى الماضى فحسب ولكن فى الحاضر أيضًا، باعتبار أن اهتمام (المصور) بالصورة كان اهتمامًا قديمًا وما زال مُستمرًا إلى اليوم، نلحظه بوضوح على صفحات المجلة. وبهذه الصور التى لا يمكن الاستغناء عنها شاركت المجلة، التى تعدت حياتها المائة العام وما زالت توالى الصدور، فى كتابة تاريخ مصر والمنطقة العربية والعالم من خلال الصورة.
وإذا كانت الصورة، سواء الصور الشخصية أو الصور الموضوعية، قد نالت اهتمام الغلاف، فقد شهدت الصفحات الداخلية اهتمامًا مُماثلًا أيضًا، وعلى غلاف المجلة وصفحاتها الداخلية، على حد سواء، شاهدنا صورًا متنوعة للملوك والرؤساء والسياسيين والزعماء، بالإضافة إلى رجال الدين من مختلف الأديان، وعلى صفحاتها ظهرت صور الفنانين والمثقفين والمفكرين والرياضيين والشخصيات البارزة فى مختلف المجالات، بالإضافة إلى صور الوقائع والأحداث والشوارع والميادين، ومؤسسات الدولة، والمتاحف والحدائق والمواقع الأثرية والثقافية والمعالم الجغرافية، ومختلف الفعاليات.
وفى تقديرى أن أبناء مجلة (المصور) مُحقون حين يقولون: إن كثيرًا من الصحف استطاع أن ينافسنا فى كتابة التاريخ، لكن أيا من هذه الصحف لم يستطع منافستنا فى الصورة الصحفية.
ولعل من بين هذه الصور التى اشتهرت بها مجلة (المصور)، سواء تلك الصور التى التقطتها عدسة صحفييها أو الصور تم الحصول عليها ومعالجتها بشكل أو بآخر صور أحداث الحرب العالمية الثانية التى وقعت بين عامى 1939م و1945م، ورجال ثورة 23 يوليو 1952م، وكبار القادة والضباط والجنود فى حرب أكتوبر 1973م، ورفع العلم على طابا عام 1982م، ومظاهرات المصريين فى الشوارع والميادين أثناء ثورة 25 يناير 2011م، وثورة 30 يونيو 2013م، وافتتاح قناة السويس الجديدة عام 2015م، وافتتاح مسجد الفتاح العليم وكاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة فى 6 يناير عام 2019م، وغيرها الكثير.
مذكرات المشاهير
اشتهرت مجلة (المصور) بنشر مذكرات الكثير من الزعماء والسياسيين والمفكرين والفنانين على صفحاتها، فى صورة حلقات مُسلسلة.
ومن ذلك مثلًا أن أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد (1872-1963م)، قد كتب مذكراته على صفحات (المصور) فى أوائل الستينيات من القرن العشرين، ثم تم جمعها وصدرت فى كتاب تحت عنوان «قصة حياتي».
كُتّاب مستنيرون
عُرفت مجلة (المصور) بالتحليلات العميقة، ومقالات الرأي، فعلى صفحاتها كتب عدد كبير من كبار الكُتّاب والمثقفين الذين أثروا الحياة الثقافية بإبداعاتهم الفكرية والأدبية، منهم: الدكتور طه حسين، الدكتور حسين مؤنس، الدكتور جمال حمدان، ومن أبرز كتابها فى الوقت الراهن الكاتب والروائى يوسف القعيد، والكاتب الصحفى حلمى النمنم، والكاتب الصحفى والإعلامى حمدى رزق، وغيرهم الكثير.
موضوعات وقضايا
ناقش محررو مجلة (المصور) الكثير من القضايا الوطنية، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، مثل قضايا: التعليم، والمرأة، والشباب، بالإضافة إلى قضايا التنمية، والزراعة والصناعة والتجارة، ومواجهة العنف والإرهاب. كما اهتمت بقضايا التأمينات الاجتماعية والتأمين الصحي.
وعلى المستوى العربى أعطت المجلة اهتمامًا كبيرًا للقضية الفلسطينية، والحق العربى فى الأراضى المحتلة.
وفى معالجتها لهذه القضايا وغيرها، حملت المجلة لواء التنوير والرغبة الواضحة فى بناء وعى الإنسان/ المواطن وإعلاء المصلحة الوطنية.
أحداث عاصرتها
تابعت المجلة أحداثًا كثيرة، منذ صدورها نهايات عام 1924م وصولًا إلى اليوم، حيث استطاعت- وما زالت- أن توثق تلك الأحداث وتحفظ ذاكرة الأمة بالكلمة والصورة، ومن ذلك مثلًا لا حصرًا:
ملفات وأعداد خاصة
اهتمت (المصور) طوال مسيرتها الممتدة على مدار عشرات السنين بنشر ملفات وأعداد خاصة، بالإضافة إلى إصدار العديد من الملاحق، ومن بين أعدادها الخاصة على سبيل المثال لا الحصر:
عدد تذكارى عن الزواج الملكى (5 يناير 1938م)، زفاف الملك فاروق والملكة فريدة (1938م)، 50 عامًا على ثورة 1919 (7 مارس 1969م)، 100 سنة قناة السويس (21 نوفمبر 1969م)، 150عامًا فى البرلمان من إسماعيل إلى السيسى (12 أكتوبر 2016م)، 190 عامًا على نشأة قصر العينى (22 فبراير 2017م)، 75 عامًا اليوبيل الماسى لجامعة الإسكندرية (27 ديسمبر 2017م)، المصور العدد 5000 (5 أغسطس 2020م)، 130 عامًا دار الهلال «رسالة تنوير مستمرة» (21 ديسمبر 2022م)، البابا شنودة 100 عام «لمحات من مسيرته وصور نادرة» (2 أغسطس 2023م)، ومؤخرًا العدد الخاص بمائة عام من مجلة (المصور) الذى صدر فى العام الماضي.
متابعة حوادث الاغتيال
بطبيعة الحال تابعت مجلة (المصور) الكثير من الأحداث الكبيرة، التى هزت المجتمع، ومن ذلك حوادث الاغتيال التى تعرض لها عدد من السياسيين والمفكرين.
ومنها مثلًا حادثة اغتيال الرئيس محمد أنور السادات فى 6 أكتوبر 1981م، واغتيال الدكتور رفعت المحجوب عام 1990م، واغتيال الدكتور فرج فودة عام 1992م، ومحاولة اغتيال الروائى وصاحب جائزة نوبل الكاتب والأديب الكبير نجيب محفوظ عام 1994م.
وقد اهتمت مجلة (المصور) عقب هذه الوقائع، وغيرها من أحداث إرهابية شهدتها مصر، بأن تُشارك بنصيبها فى مواجهة الإرهاب والعنف، ومكافحة خطاب الكراهية والتمييز والتعصب، من خلال الكلمة ونشر الموضوعات المستنيرة، التى تعكس قيم الوسطية والاعتدال، وترسخ ثقافة المواطنة والحوار وقبول الآخر.
«المصور» وقيمة الوحدة الوطنية
من بين المبادئ المهمة والأسس الراسخة التى تبدو بوضوح على صفحات مجلة (المصور)، اهتمامها بدعم وترسيخ قيمة الوحدة الوطنية بين المواطنين المصريين، من المسلمين والمسيحيين، بكتابات كثيرة تؤكد هذه القيمة وتدعو لها.
«المصور» مصدر للتاريخ
تُعتبر مجلة (المصور) وبصدق مصدرًا من مصادر كتابة التاريخ الحديث والمعاصر، بالطبع مع استخدام الضوابط والمعايير العلمية التى استقر عليها المؤرخون والباحثون، من حيث إجراء النقد الداخلى والنقد الخارجى للصحيفة.
على هذا النحو فإنه يتعين على الباحثين العناية بإجراء النقد الخارجى والنقد الداخلى للصحيفة.
النقد الخارجي: تناول الأبعاد المختلفة التى عاصرتها الصحيفة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وإعلاميًا.
النقد الداخلى أو الذاتي: تناول البعد المكانى للصحيفة وكذا الأبعاد الزمنية والبشرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية والتكنولوجية للصحيفة، بالإضافة إلى مضمون المادة الإعلامية.
فى هذا الإطار فإنه يمكننا الاستفادة من محتوى مجلة (المصور) فى تأريخ مختلف الوقائع والأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكتابة جانب كبير من تاريخ الفكر المصرى وتطوره منذ عام 1924م وإلى اليوم.
مدرسة (المصور)
تمثل مجلة (المصور) مدرسة صحفية، فهى علامة مضيئة فى بلاط صاحبة الجلالة، باعتبارها مجلة رائدة ومتميزة، على مستوى الشكل والمضمون، حيث تبرز بحواراتها وتحقيقاتها، وعلى صفحتها تتنوع فنون الكتابة الصحفية، حيث تقرأ فيها مختلف الأشكال، من الأخبار والتحقيقات والحوارات، وإذا كان الخبر يقل فيها نظرًا لدوريتها الأسبوعية، فعلى صفحاتها نقرأ التحليل والتحقيق والحوار، بالإضافة إلى الاهتمام بالصورة.
وهى كذلك مدرسة تنويرية تهتم فى أعدادها بنشر الوعي، وترسيخ الهوية والانتماء للوطن، والمُساهمة فى دعم وتأكيد منظومة القيم الإيجابية، تتقدمها قيم المواطنة والحوار والتسامح والتعاون والعمل الجماعى والسلام المجتمعي، وغيرها من مبادئ وقيم، وهى من ثم تُعد مدرسة أصيلة فى الوطنية المصرية. كل الأمنيات لفريق العمل من الصحفيين والإداريين بدوام التوفيق ومواصلة العطاء الم
هنى والإنساني، والاستمرار فى تقديم كل ما ينفع ويفيد القراء، ويبنى وطننا الغالى مصر، وعالمنا الإنسانى المشترك.