قُم في فَمِ الدُنيا وَحَيِّ الأَزهَرا وَاِنثُر عَلى سَمعِ الزَمانِ الجَوهَرا
وَاِجعَل مَكانَ الدُرِّ إِن فَصَّلتَهُ في مَدحِهِ خَرَزَ السَماءِ النَيِّرا
وَاِذكُرهُ بَعدَ المَسجِدَينِ مُعَظِّماً لِمَساجِدِ اللَهِ الثَلاثَةِ مُكبِرا
وَاِخشَع مَلِيّاً وَاِقضِ حَقَّ أَئِمَّةٍ طَلَعوا بِهِ زُهراً وَماجوا أَبحُرا
كانوا أَجَلَّ مِنَ المُلوكِ جَلالَةً وَأَعَزَّ سُلطاناً وَأَفخَمَ مَظهَرا
في الحقيقة لم أجد أعظم ولا أفضل من أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي عن الأزهر وأئمته، في كتابتي لهذه السطور التى سأتناول بها أئمة مشيخة الأزهر، وعلماءه، لما قدموه من خدمة للإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فقد كان لشيوخ الأزهر مواقف لا ينساها لهم التاريخ، ونبدأ بالكتابة عن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب الذي نشأ في الصعيد، حيث الأصالة والعراقة والجذور الطيبة، التى تمتد لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث ينتمى الإمام الطيب لأسرة صوفية عريقة، وله في التسامح والدعوة إليه جولات عديدة، حيث قام بجولات مكوكية لنشر القيم التي تدعو إلى المحبة والتسامح والأخوة الإنسانية، فوهب حياته لنشر ثقافة التعايش والسلام والاندماج الإيجابي والأخُوة الإنسانية، وكان دائما -ولا يزال- مدافعًا عن قضايا الأمة الإسلامية ومواقفها الثابتة.
حفلت رحلة الإمام الطيب بالكثير من المواقف التى تكشف عن شخصيته المحبة للجميع، والتى تبرز قيم الإسلام الحقيقية، وتظهر الصورة الواضحة للمفاهيم، فعني بالحوار بين الحضارات والثقافات والأديان المختلفة، مع الإيمان بخصوصية كل منها وضرورة احترام الاختلاف بين الأمم وأتباع الديانات، وقد وضح ذلك في مواقف متعددة عندما ألقى العديد من الخطابات، مؤكدًا فيها أن الديانة المسيحية أول حاضنة للإسلام على يد ملك الحبشة فى صدر الإسلام، كما أن الإسلام أتاح حرية العقيدة وأقر التعددية، مؤكداً ضرورة نشر قيم التسامح والتعايش المشترك، وبناء حوار حضارى بين الشرق والغرب، يقوم على احترام وتقبل الآخر، مجسدًا في ذلك المنهج الأزهري الوسطي الأصيل بكل ما يحمله من إعمال للعقل وقبول للآخر وانفتاح على الحضارات والثقافات المختلفة، ولا أدل على ذلك من مقولته الشهيرة أمام البرلمان الألماني: «قضيتى إقرار السلام العالمى، وهذه يدى ممدودة إليكم، للعمل معاً من أجل الأهداف الإنسانية النبيلة.. فهل من مُجيب».
بدأت حياة الدكتور «الطيب»، الإمام الخمسين للمشيخة، والذي تولى المسئولية في التاسع عشر من مارس 2010 خلفًا للإمام الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي، حيث ولد بقرية القُرنة بالأقصر في 6 يناير عام 1946، وتربى في ساحة والده الشيخ محمد الطيب -رحمه الله-، فحَفِظ القرآن الكريم في صغره، وأتقن العديد من المتون العلميَّة على الطريقة الأزهرية الأصيلة، ثم التحق بعد ذلك بمعهد إسنا الديني، ثم بمعهد قنا الديني، ثم بشُعبة العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالقاهرة، وتخرَّج فيها بتفوق عام 1969م، ثم عُيَّن معيدًا بالكلية.
وبعد تخرج فضيلته وتعيينه معيدًا بدأ مسيرته العلمية الأكاديمية، فحصل على درجة الماجستير شعبة العقيدة والفلسفة عام 1971، ثم حصل على الدكتوراه من الشعبة نفسها عام 1977، سافر بعدها في مهمة علميَّةٍ إلى جامعة باريس بفرنسا فى 1977، وظل بها مدة ستة أشهر، ويُجِيد فضيلتُه اللغة الفرنسية إجادةً تامَّةً، ويترجم منها إلى اللغة العربية، وفي عام 1988 حصل على درجة الأستاذية.
كما انتدب فضيلة الإمام الأكبر عميدًا لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بمحافظة قنا اعتبارًا من 27 أكتوبر 1990 وحتى 31 أغسطس 1991، وانتدب عميدًا لكلية الدراسات الإسلامية بنين بأسوان مع منحه بدل العمادة اعتبارًا من 15 نوفمبر 1995، عُيِّن عميدًا لكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية العالمية بباكستان في العام الدراسي 1999 - 2000، كما عُيِّن رئيسًا لجامعة الأزهر منذ 28 سبتمبر 2003 وحتى 2010، ثم عين شيخًا للأزهر بداية من 19 مارس 2010 حتى الآن، أسس فضيلته الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، ورأس المؤتمرات الدولية التي عقدتها كما يرأس مجلس حكماء المسلمين.
ومنذ تولى فضيلة الإمام الأكبر، مشيخة الأزهر، لم تغب كل قضايا الأمة عن باله، فأولاها رعاية واهتمامًا كبيرين، لاسيما القضية الفلسطينية، والتى سخر لها جل حلقاته في الإذاعات، أو إصدار فضيلته للبيانات، وكذلك تخصيص جانب من المناهج الأزهرية لترسيخ أبعاد القضية لدى وعي الطلاب الأزهريين؛ لكي تظل القضية حية في نفوسهم، وتظل مكانة القدس والمسجد الأقصى وفلسطين دائمًا في أعماق قلوبهم، كما أنه عقد مؤتمرًا عالميًا لنصرة القضية الفلسطينية، ويجوب مشارق الأرض ومغاربها مدافعًا عن قضايا السلام كما يدافع عن قضايا التسامح والعيش المشترك ولقد كان لكلمته الشهيرة في مؤتمر القدس الذي عقد في الأزهر الشريف واقع عالمي كبير، نبهت بعض الغافلين أو المتغافلين عن القضية على أهميتها.
كذلك لم يقف فضيلته عند القضايا المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بل دافع عن مسلمي الروهينجا، واستنكر المذابح التى تحدث لهم، فلم يقف عند قضية بعينها لكنه يذهب إلى كل مكان ويستقبل ملوكًا ورؤساء وكبار مسئولين من كل دول العالم، حيث شهد العام المنقضي 2024 على نشاط فضيلته من خلال سجل الزيارات سواءٌ، ذهابًا أو استقبالًا ففتحت مشيخة الأزهر أبوابها مستقبلة ملوك وزعماء العالم، من خلال لقاء فضيلته بستة عشر ملكاً ورئيساً، جاهرًا بقولته في العديد من القضايا التي باتت تؤرق العالم والإنسانية جمعاء.
ولم يقف دور الأزهر خارجيًا فقط فكان للأزهر دور كبير في لم شمل المصريين، عقب أحداث ثورة 25 يناير، فكان المأوى الذي يجمع المصريين، وقام الأزهر بدور توحيد المصريين فأسس بيت العائلة الذي يجمع المصريين مسلمين ومسيحيين، وكذلك عندما خرج المصريون في الثلاثين من يونيو، وقف الدكتور الطيب مع إرادة المصريين، وكان ضمن المنضمين للجبهة الوطنية في بيان الثلاثين من يونيو، ليقف بعد ذلك ينكر كل الأفعال الإجرامية الإرهابية التى ترتكب من قبل الجماعة الإرهابية.
وكان للمرأة نصيب كبير في فكر فضيلة الإمام الأكبر، فدافع عنها وبين حقوقها من خلال الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام، حيث بين في مقولة شهيرة له في هذه القضية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا أن «النساء شقائقُ الرجال» وأوصى بهن خيرًا، فيجب احترامهن وتوقيرهن، مؤكدًا أن العنف ضد المرأة، أو إهانتها بأى حال دليل فَهمٍ ناقصٍ، أو جهل فاضح، أو قلة مروءة، وهو حرام شرعًا، داعيًا لإصدار تشريعات لمنع الضرب مطلقًا، وتأكيده أن «الإسلام لا يقبل بالإيذاء البدنى لأَسْرى الحرب.. فكيف تقبله للزوجات؟».
ولم يكتف الإمام الطيب بذلك فقط، بل قام بالعديد من الخطوات في مجال التجديد حيث قام بتطوير مناهج الأزهر الشريف بما يُناسِب روح العصر، ويجمع بين أصالة النص، ومعاصرة تطبيقه في واقع الناس، واستعاد دور «هيئة كبار العلماء» الرائد في تجديد الخطاب الديني، والحفاظ على الثوابت الإسلامية في كثير من القضايا المُجتمعية والثقافية، من خلال أبحاث ومُؤلفات ومُلتقيات فكرية شبابية، كما أنشأ «مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية»، ومركز الأزهر للتراث والتجديد، وتطوير برامج «الرّواق الأزهري» في الجامع الأزهر وفروعه في محافظات الجمهورية، ورواق القرآن الكريم؛ لتحفيظ أبناء المسلمين القرآن الكريم من المصريين والوافدين، ورواق التجويد والقراءات؛ لتعليم أحكام التجويد، وأوجه القراءات الصحيحة والمتواترة عن سيدنا رسول الله ﷺ، ورواق العلوم الشرعية، والمحطات في مسيرة الدكتور أحمد الطيب، كثيرة، فلا يحصيها مقال، ولكن تحتاج إلى مؤلفات، فبارك الله خطوات فضيلة الإمام الأكبر وحفظه لخدمة الإسلام والمسلمين.

