لا أعرف قصيدة فى الأدب العربى كلِّه بلغت من المكانة والقبول ما بلغته قصيدة «البردة»، التى نظمتها قريحة الإمام الأديب أبى عبد الله محمد بن سعيد البوصيرى المصرى رضى الله عنه.
لقد تواترت على «البردة» أقلام العلماء والمربِّين والشعراء، بالشرح والدراسة والمعارضة والتشطير والتخميس والتسبيع، وتناولتها ألسنة العامة حفظًا وترديدًا وتلاوةً وإنشادا، حتى جعلوها ذكرًا يُتقرَّب به إلى الله تعالى، ورُقية يُستشفَى بها ويُتبرَّك، فباتت بذلك أشهر قصائد العربية طرًّا على ألسنة الناس، وأكثرها تردادًا بين جماهير المسلمين فى الشرق والغرب، بل كان درس «البردة» من مقررات الطلاب فى الأزهر الشريف.
والإمام البوصيرى رضى الله عنه: شاعر مطبوع، وأديب بارع ذو قلم، ينظم على السجية، فى بساطة قول، وطول نفس، وقد برع فى «المديح النبوى»، فلم ينل أحد من الشعراء فيه منزلته، ولا بلغ رتبته؛ إذ هو فى مديحه صادر عن عاطفة صادقة قوية، وروح رقيقة صافية، حتى قال شوقى رحمه الله فى معارضته للبردة:
اللَهُ يَشهَدُ أَنّى لا أُعارِضُهُ .. من ذا يُعارِضُ صَوبَ العارِضِ العَرِمِ
مديحُهُ فيكَ حُبٌّ خالِصٌ وَهَوىً .. وَصادِقُ الحُبِّ يُملى صادِقَ الكَلِمِ
وَإِنَّما أَنا بَعضُ الغابِطينَ وَمَن .. يَغبِط وَلِيَّكَ لا يُذمَم وَلا يُلَمِ
ولد الإمام أبو عبد الله، شرف الدين، محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال، الصنهاجي، البوصيري، الصعيدي، المصري: فى يوم الثلاثاء، أول شهر شوال، من عام 608 هـ، بقرية «دلاص»، التابعة لمركز «ناصر» فى محافظة بنى سويف، وتربى ونشأ فى بيت أخواله بقرية «بوصير الملق»، التابعة لمركز «الواسطى» فى محافظة بنى سويف، بصعيد مصر، ولذا نسبه بعض المؤرخين إلى القريتين معًا نسبة مركبة فقال: «الدلاصيري»، ونسبه بعضهم إلى مكان ولادته فقال: «الدلاصي»، ونسبه آخرون إلى مكان نشأته فقال: «البوصيري»، وهى النسبة التى اشتهر بها بين الناس.
حفظ القرآن الكريم وتعلم أصول اللغة والخط على المعتاد بين الناس آنذاك، ثم انتظم فى حلقات العلم حتى نال حظًّا وافرًا منه فقها ولغة وسيرة وأدبا، وكان معاصراً لسلطان العاشقين عمر بن الفارض، وهو أكثر الناس أثرا فى شعره، حتى إنه نظم قصيدته «البردة» على طراز قصيدة الإمام ابن الفارض التى مطلعها:
هَلْ نارُ لَيلـى بَـدَتْ لَيلًا مِن الـحَرَمِ.. أمْ بارِقٌ لاحَ فـى الزَّوْراءِ فالعَلَمِ
ثم تاقت نفسه لسلوك طريق أهل الله، فأخذ طريق السادة الصوفية على الإمام أبى العباس المرسي، صاحب الإمام أبى الحسن الشاذلى رضى الله عنه.
ولقد أثمرت صحبته لسيدى أبى العباس فى نفسه إشراقا ونورا، وأورثه طريق القوم حسن العمل وصفاء الرُّوح، مع تقوى وإخلاص، وتولى الأعمال العامة فأظهر فيها أمانة وحزما، فتقلَّد الحسبة، والإفتاء، والقضاء، ومع ذلك كان يعانى الفقر فى طول حياته، علامة على زهده وورعه فى الدنيا رضى الله عنه.
وقد اتفق أن دخل مع رفيقيه الإمام ابن عطاء الله السكندري، والشيخ ياقوت الحبشى على سيدى أبى العباس المرسى رضى الله عنهم جميعا، فقال الإمام أبو العباس: سلوا الله ما شئتم فى هذه الساعة، فإنها ساعة إجابة!.
فأما الإمام ابن عطاء الله، فسأل الله أن يعبر بلسان أهل الشريعة عن حال أهل الحقيقة، فرزقه الله تعالى «الحكم العطائية» المشهورة، وأما سيدى ياقوت الحبشي، فسأل الله تعالى أن يعلق قلبه بالعرش، فمن يومها لقبه العامة بـ «ياقوت العرشى»، وأما الإمام البوصيري، فسأل الله تعالى الفناء فى الحضرة المحمدية، فما قال بعد ذلك شعرا إلا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان الإمام البوصيرى محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، محبة خالصة، حتى صرف خاطره كله إلى مدائحه الشريفة، وبيان خصاله وشمائله الطاهرة، فكان شيخ المادحين، وإمام المحبين، حتى إنه يخاطب النبى صلى الله عليه وسلم فى إحدى قصائده فيقول:
أمَدائحٌ لـى فيكَ أمْ تَسبيحُ لَوْلاكَ ما غَفَرَ الذُّنوبَ مَديحُ
حُدِّثْتُ أن مَدائحى فـى الـمُصطَـفى كَفَّارَةٌ لـى وَالـحَديثُ صَحيحُ
ولقد بلغت علامة المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفس الإمام البوصيرى مبلغها، واستحكمت تلك الروحانية بينه وبين الجناب الشريف صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما أصيب بالفالج، وأعيا دواؤه الأطباء، نظم قصيدته المشهورة بـ«البردة»، يتوسل بها إلى الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم فى معافاته من مرضه، فلما أتمها، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة وهو ينشد قصيدته بين يديه، والنبى صلى الله عليه وسلم يمسح جسده بيده الكريمة، ثم غطاه ببردته الشريفة، فقام معافى كأنه لم يكن به مرض من قبل، فلما خرج من بيته لقيه أحد الصالحين، فطلب منه سماعها، فتعجب، إذ لم يكن أخبر بها أحدا، فقال الرجل: رأيت النبى صلى الله عليه وآله وسلم وهى تُنشَد بين يديه أمس، وهو يتمايل طربًا مما فيها من الثناء الحسن!!.
وقد رزقت «بردة» الإمام البوصيرى قبولًا وبركة، وعمت شهرتها العالم الإسلامى كله، فكانت العائلات تقتنيها، وكان الملوك يتهادون النسخ الفاخرة منها، وكان عوام المسلمين يعظمونها ويعتزون بها، وجرب الملايين خيرها والانتفاع بها، وشاهدوا لها من البركات ما لا يخطر على بال، ولم يكن مسجد فى بلاد الإسلام يخلو من مجلس لقراءة «البردة»، حتى ضعفت روحانية الإسلام على يد المتشددين، الذين حكموا بالبدعة على كل أثر طيب من آثار المحبة لله ولرسوله، فلم ينجُ من فتنتهم إلا المتمسكون بهدى الأئمة السابقين المرضيين.
وتفنن الإمام البوصيرى فى فن المدائح النبوية، فنظم «البردة» و«الهمزية» و«البائية» و«الرائية» و«المحمدية»، وغيرها من القصائد التى ذاع صيتها فى الآفاق، وتميزت بروحها النقية، وعاطفتها الصادقة، وروعة معانيها، وجمال تصويرها، ولغتها الدقيقة، وشكلها الساحر، وبراعة نظمها، فأصبحت مدرسة لشعراء المدائح النبوية من بعده، كما صارت قصائده نماذج يحاكيها الشعراء الذين يسيرون على نهجه وأسلوبه وطريقته فى التأليف، فظهرت قصائد عديدة فى فن المدائح النبوية التى أذهلت ملايين المسلمين على مرّ العصور، ولكنها كانت دائماً تشهد بريادة الإمام البوصيرى وإتقانه لهذا الفن المتميز.
وعلى الرغم من إخلاص الإمام البوصيرى وصدقه فى مديح النبى صلى الله عليه وسلم ومحبته، فإن ذلك لم يُنجه من جهل الجاهلين، وافتراء المبطلين، الذين اتهموه بالمغالاة، حتى بلغ بعضهم حد التكفير للشيخ الإمام أو كاد، وتلك بلية قد ابتلى بها أهل الإسلام فى آخر الزمان على يد الذين قالوا «إنما نحن مصلحون»، ثم راحوا يكفرون كبار الأمة وصغارها، علماءها وعوامها، ظنا منهم أن لهم غيرة على التوحيد أكبر من أئمة الإسلام وفقهائه، وما ذاك إلا تلبيس الشياطين، وتغريره بالمخدوعين.
وبعيدًا عن اعتراض هؤلاء على كلام الإمام البوصيري، فقد تولى أهل العلم رد هذه السهام المسمومة، وبيان ما فيها من انحراف الفكرة، وزيغ التصور، ولكن الذى سيبقى خالدا على مر الزمان: هو ما أنتجته قريحة البوصيرى مدحًا وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليظل الإمام وبردته شاهد صدق على تسبيح المحبين.

