ما زلنا فى رحاب شهر رمضان الفضيل.. الشهر الذى خصه الله من بين الشهور بفضائل كثر لأهميته ومكانته فى الإسلام. ومع الشهر الفضيل نستدعى سيرة الإمام الأكبر الشيخ «جاد الحق على جاد الحق» الذى رحل عن عالمنا فى 15 مارس 1996. إنه رجل المواقف العظام الشامخة والخالدة دفاعًا عن الإسلام. أجريت معه العديد من اللقاءات. كانت إحدى سماته الشجاعة، ومعها لم يقبل اتباع سياسة التنازلات..
و هنا أتذكر له موقفه الواضح القوى من رفض التطبيع مع إسرائيل، وهو ما جعله يرفض لقاء الرئيس الإسرائيلى «عيزرا وايزمان»، إبان زيارته للقاهرة فى أعقاب عقد اتفاقية «أوسلو» 1993.. أتذكر الوقائع عندما كنت بمكتبه فى مشيخة الأزهر خلال إجراء حديث معه. قطع اللقاء رنين الهاتف الأرضي، وعندما هم فضيلته بالرد رأيت وجهه وقد امتعض ولم ينطق سوى بكلمة واحدة وهى «علم» بضم العين وكسر اللام.. يومها شعرت بالقلق تجاهه فبادرته قائلة: (هل حدث مكروه يا مولاى)؟ قال: (رئاسة الجمهورية تبلغنى بموعد اللقاء مع «وايزمان» غدا). ولم يزد فضيلته يومها عن ذلك. غير أن ما حدث فى الغد كان جدا خطيرا عندما حل موعد اللقاء ولم يحضر الشيخ الجليل. وأجرت الرئاسة اتصالات بكل مكان للبحث عنه ولكن دون جدوى، اختفى عن الأنظار لأنه رفض يومها لقاء «وايزمان» وسبب ذلك حرجا شديدا للحكومة المصرية والرئيس الصهيوني.
وإذا كانت الشجاعة هى السمة الأولى لشيخنا الجليل فإن الزهد هو سمته الثاني.. تأكد لى ذلك عندما توجهت إلى منزله، حيث كان يقطن فى حى المنيل فى شقة متواضعة بالدور الرابع ولم يكن بها مصعد. أشفقت عليه من صعود الدرج. لقد عاش زاهدا فى نعيم الدنيا، وهو ما جعله نسيجا وحده متفردا، فلم يطمح فى أن يكون صاحب جاه أو مال. رفض عرضا قدمه له وزير الأوقاف «محمد على محجوب» بأن يعطيه إحدى الفيلات الخاصة بالوزارة مقابل إيجار رمزي.. إنها السيرة العطرة للإمام الأكبر الشيخ «جاد الحق» تسجل شموخ هذا الإنسان الورع الذى جسد للبشرية الدور الريادى للأزهر الشريف، حيث أعاد له مرجعيته وقدسيته. وكان مدافعا صلبا عن قضايا أمته حاملا لهمومها.
حمل على إسرائيل مواقفها فى الأرض المحتلة ووصفها بأنها تحد صارخ لكل القوانين والمواثيق الدولية، ومثال الفوضى والهمجية وشريعة الغاب. ولطالما حذر من أن إسرائيل تسعى لإحراز المكاسب، وأن ما تقوم به هو مخطط توسعى فى المنطقة يدل على سوء النية وخبث الطوية. وفى عام 1990 أدان فضيلته جريمة إسرائيل الكبرى فى المنطقة وندد بتأييد الولايات المتحدة لها فى كل تحركاتها وعربدتها فى المنطقة، مؤكدا أن الولايات المتحدة هى التى أغرت إسرائيل بغزو لبنان، وبإغراق طوائفه فى النزاعات والحروب وتكثيف المستوطنات فى الأرض المحتلة، وبإجراءات طرد الفلسطينيين من أرضهم، وأمدتها بالمال وساعدتها فى نقل اليهود الإثيوبيين. وكلها أدلة تنطق بتأييد أمريكا لإسرائيل فى عدوانها. وتجاوزت أمريكا التأييد والدعم بالتناغم مع كل ما تقدم عليه إسرائيل فى المنطقة من اختراقات. وفى المقابل لم تحاول إرغامها أو إقناعها بالالتزام داخل حدودها.
رفض فضيلته سياسة التطبيع مع إسرائيل قائلا: (لا سلام مع المغتصبين اليهود، ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية).. كما رفض زيارة المسلمين للقدس بعد عقد “اتفاقية أوسلو” عام 93 وأعلنها صريحة: (بأن من يذهب إلى القدس فهو آثم آثم).. لقد شغلت قضية القدس حيزا كبيرا من عقل وقلب الإمام الراحل، فكان يذكر بها دائما، مؤكدا أنها ستظل عربية إسلامية إلى قيام الساعة. وعندما قرر الكونجرس الأمريكى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أصدر فضيلته بيانا صريحا وواضحا أدان فيه العدوان الصهيونى المستمر على القدس، وأدان القرار الأمريكى قائلا: (تزعم أمريكا أنها صديقة كل العرب غير أنها أصدق فى صداقتها لإسرائيل تؤيدها وتدفعها نحو مزيد من العدوان على العرب وحقوقهم، بل وتساعدها فى وضع العراقيل نحو إتمام عملية السلام التى تتظاهر بدعمها.. ولكنه دعم غير عادل إذ إنه دعم للمعتدين الظالمين واستهانة وهدم لقرارات منظمة الأمم المتحدة).. وأردف قائلا: (داعية السلام صارت داعية الغدر واغتيال الأرض والعرض والمقدسات. لا ترعى حقا للغير ولا تدعو للخير وإنما تسعى فى الأرض فسادا).
تطرق فضيلة الشيخ جاد الحق إلى الحديث عن الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، والتى نجم عنها انقسام العرب حيال القضية على أساس مناصرة البعض لهذا الفريق أو ذاك، وهو ما أساء إلى القضية كمحور لمشكلة الشرق الأوسط. ومن هنا وجه فضيلته دعوة للفلسطينيين لكى يجمعوا أمرهم ويجتمعوا على كلمة سواء حتى يستطيعوا حماية البقية الباقية من أرضهم وأهلهم. حتى إذا توحدت كلمتهم أمكن حل العقد الموجودة من حولهم، وبالتالى يتبدد الانقسام. حتى إذا اتحدوا زالت كل العقد والخلافات.
وفى عام 1985 دخل على قضية الحرب العراقية الإيرانية التى اشتعلت منذ 1980، وأعرب عن استعداد الأزهر لأن يكون حكما بين العراق وإيران إذا ما تهيأت الظروف للصلح.. وطالبهم بحفظ دمائهم وأموالهم ومقدراتهم، وأن يتحلقوا حول الصلح لأنه الخير كما قال القرآن. وشدد على أن الحرب غير المعلنة بين بعض المسلمين أمر واقع، وهو مؤسف لأن الإسلام يعنى السلام والصفاء، وقد سمى المؤمنين أخوة فى قوله تعالى: «إنما المؤمنون أخوة»، والأخوة يجب أن ترتفع فوق كل الخلافات والعصبيات الإقليمية والعرقية، فهذه الحرب غير المعلنة بين دول فى المنطقة هى التى تضعف كيان الأمة وتفسد الصلة بين شعوبها، واستطرد قائلا: (ولهذا يجب أن تكون الدعوة إلى الصلح قائمة، وبالتالى يتعين على زعماء وحكام المنطقة أن يرتفعوا فوق أشخاصهم وخلافاتهم، وأن يجتمعوا على كلمة، سواء لبحث أسباب هذه الخلافات من أجل تجاوزها، وأن يكونوا كما سماهم الإسلام دار السلام).
وفى معرض حديثه عن الإسلام قال إنه دين يجمع بين العقيدة والشريعة وليس نظاما أو مذهبا اخترعه إنسان أو مجموعة من البشر، وإنما هو دين أوصى به الله سبحانه وتعالى له أصوله وقواعده الأساسية فى الحكم. وتحدث عن الشريعة الإسلامية بوصفها أساسا للأمن والاستقرار ووسيلة لقطع الطريق على أدعياء الدين وجماعاته المتطرفة.. رحم الله الإمام الراحل صاحب المواقف العظام ليظل نبراسا فى الحفاظ على مرجعية وقدسية الأزهر الشريف، وليظل نبراسا لصحيح الدين. ولا عجب أن احتل هذه المنزلة السامية فى نفوس المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها.
