.إذا كانت الردود الرسمية لأى دولة بشأن القرارات الاقتصادية المصيرية لا بدّ وأن تتسم بضبط النفس ودراسة متأنية قبل أى تحرك، نجد أنه على الصعيد الآخر تكون التحركات الشعبية سريعة وذات تأثيرات قوية، وهو ما ينطبق على حرب التعريفات الجمركية التى أشعلها ترامب، واعتبرها العديد من شعوب العالم اعتداءً على النظام التجارى متعدد الأطراف، لذا انتشرت حملات مقاطعة عالمية واسعة عبر منصات التواصل الاجتماعى ضد علاماتٍ تجارية كبرى مثل «تسلا» و«آبل» و«كوكا كولا»، فى خطاب شعبى يعكس رفض الهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
وفى خطوة مفاجئة قررت بلدية «أرجيليه جازوت» الفرنسية الأسبوع الماضي، إلغاء مشروب «كوكاكولا» من جميع فعالياتها المحلية احتجاجا على سياسات ترامب الجمركية مع تقديم عصير التفاح المحلي، كما أكدت البلدية أن هذه المبادرة رغم تأثيرها المحدود على الأحداث العالمية، لكنها تعبير رمزى ضد السياسات التجارية الأمريكية، ولم تكن هذه الجهة الوحيدة المقاطعة، بل أشار استطلاع رأى نشرته مؤسسة «IFOP» إلى أن 32 فى المائة من الفرنسيين قرروا مقاطعة منتج أمريكى واحد على الأقل، وركزت المقاطعة على «كوكاكولا» والوجبات السريعة، بالإضافة إلى شركات التكنولوجيا مثل إكس وتسلا.
وانطلقت حملات المقاطعة منذ بداية مارس الماضى فى عدد من الدول الأوروبية وخاصة السويد والدنمارك والنرويج، وظهر عدد من حركات المقاطعة ردا على التغيرات الأخيرة فى السياسة الأمريكية، بما فى ذلك خفض الدعم لأوكرانيا وإعلان الرسوم الجمركية الأخيرة، وفى السويد ظهرت عدة مجموعات على فيسبوك تدعو إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية، وتتجاوز أعداد المشاركين بكل حملة ما لا يقل عن 70 ألف عضو، فى حين أعلنت بعض الصفحات أنها لا تريد فرض حظر صارم على المنتجات الأمريكية، بل تشجيع الاختيار الواعى للمنتجات المحلية والأوروبية، حيث قامت سلسلة متاجر سالينج للتجزئة بالدنمارك بوضع نجوم سوداء على المنتجات الأوربية لتسهيل التعرف عليها بالنسبة للمستهلكين، وانضمت إلى تلك المبادرة سلاسل أخرى مثل فوتكس، وعلى الرغم من عدم التأكد من قدرة هذه الحملات على الضغط على ترامب، فإنها تؤكد رغبة شعوب الدول الأوروبية فى التخلص من الهيمنة الأمريكية عليهم.
وفى هذا السياق، أوضح الدكتور ياسر شويتة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع، أن فرض الرسوم الجمركية الأمريكية على مختلف دول العالم أثار حفيظة كل الدول على المستوى العالمى، بما فيها الصين ودول الاتحاد الأوروبى وكندا والمكسيك واليابان وغيرها، لذلك ظهرت بعض الدعوات من داخل تلك الدول لمقاطعة المنتجات الأمريكية كوسيلة للرد والضغط على الإدارة الأمريكية، منوهًا بأن مقاطعة المنتجات الأمريكية حال تطبيقها ستؤثر بشكل سلبى على الاقتصاد الأمريكي.
وكشف «شويتة» عن أن مقاطعة البضائع الأمريكية ستؤدى إلى تقليل ناتج الصادرات الأمريكية إلى الخارج، ما سيتسبب فى حدوث حالة ركود غير مسبوقة فى الأسواق الأمريكية، وبالتالى ستساهم تلك المقاطعة فى تفاقم عجز الموازنة العامة للولايات المتحدة الأمريكية، مضيفا أن تلك المقاطعة ستكون لها انعكاسات سلبية أيضا على الاقتصاد العالمى الذى سيشهد موجة تضخم كبيرة، باعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية هى أكبر قوة اقتصادية عالميا، وبالتالى ستتأثر حركة التجارة العالمية نتيجة تلك الحرب التجارية المشتعلة بين أمريكا وبقية دول العالم.
ويرى عضو الجمعية المصرية للاقتصاد، أن كافة دول العالم ستشهد تأثرا سواء بشكل مباشر أو غير مباشر بناء على حجم التبادل التجارى مع الولايات المتحدة الأمريكية، لافتًا إلى أنه على سبيل المثال، تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أكبر دول العالم المنتجة للحبوب، وهو ما ينذر بإمكانية تفاقم أزمة سلاسل الإمداد على المستوى العالمى نتيجة لمقاطعة دول العالم للمنتجات الزراعية الأمريكية.
واستشهد «شويتة» بتراجع أسهم البورصات والأسواق المالية العالمية بشكل كبير جدا فور إعلان ترامب فرض التعريفات الجمركية الأخيرة، وكذا تراجعت قيمة الدولار الأمريكى أمام بقية عملات العالم بنسبة وصلت إلى 1.5 فى المائة، وهو ما سيتكرر حال تطبيق المقاطعة للمنتجات الأمريكية.
ووصف قرارات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بأنها كانت بمثابة خروج على قواعد منظمة التجارة العالمية، مما سينعكس سلبا على كافة أطراف العملية التجارية عالميا، مضيفا أنه من الطبيعى أن تشهد أسعار المنتجات المختلفة زيادة ملحوظة نظرا لارتفاع تكاليف الإنتاج بناء على الرسوم الجمركية الأخيرة، ما سيضعف القدرة على شراء المنتجات، وخاصة من الشركات ذات العلامات التجارية الكبيرة والمشهورة.
ووجّه «شويتة» بضرورة الاعتماد على المنتج المحلى والتوسع فى التصنيع الوطنى، فى ظل الظروف الاقتصادية العالمية الحالية مع الاعتماد على استغلال المواد الخام المحلية حتى تستطيع الدول تجاوز أزمة الرسوم الجمركية الأخيرة، وعلى المستوى المصري، لا بدّ من تفعيل الشراكات التجارية المختلفة سواء إقليميا أو عالميا للاستفادة من المزايا التى توفرها تلك الاتفاقيات والتكتلات التجارية على أرض الواقع لمجابهة التأثيرات الجانبية للرسوم الجمركية وما يتبعها من دعوات المقاطعة المنتج الأمريكي.
وبررت الإدارة الأمريكية قرارها، بهدف الحد من «الإغراق التجاري» ودعم صناعات مثل السيارات والرقائق الإلكترونية، إلا أن المراقبين رأوا فيه محاولة لتعزيز الخطاب القومى قبيل الانتخابات التشريعية المقررة فى نوفمبر 2025، فضلًا عن استهداف دول تتصدر نموًا اقتصاديًا ينافس الهيمنة الأمريكية.

وفى سياق متصل، قال الدكتور أيمن غنيم، الخبير الاقتصادى والقانونى: إن العالم يمر حاليًا بمرحلة إعادة هيكلة شاملة للعلاقات الاقتصادية الدولية، فى ظل التصعيد التجارى بين الولايات المتحدة والصين.
وأضاف «غنيم»، أن قرار الإدارة الأمريكية برفع الرسوم الجمركية على الصين إلى 145 فى المائة، مع استثناء 60 دولة لمدة 90 يومًا، يمثل تراجعًا واضحًا عن مبادئ حرية التجارة التى كانت واشنطن تنادى بها منذ التسعينيات.
وتابع «غنيم»، قائلًا: «هذه السياسات تتناقض مع ما دعت إليه الولايات المتحدة سابقًا من دعم لاتفاقيات التجارة الحرة مثل «الجات» ومنظمة التجارة العالمية»، مشيرًا إلى أن فرض رسوم جمركية مرتفعة يُعد مخالفة جوهرية لمبدأ التخصص والكفاءة فى توزيع الموارد عالميًا».
وأفاد «غنيم» بأن الاقتصاد الصينى أثبت مرونة عالية، وتمكّن من تجاوز أزمات سابقة مثل جائحة كورونا، موضحًا أن الصادرات الصينية بلغت عام 2024 مستوى تاريخيا، بقيمة 3.5 تريليون دولار، منها 440 مليار دولار للولايات المتحدة، بنسبة 12,5 فى المائة، وهى نسبة قد تسبب بعض التأثيرات، لكنها ليست مدمرة للاقتصاد الصيني.
وأردف غنيم أن الصين تسعى لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، لكن هناك تخوفات أوروبية من إغراق الأسواق ببضائع صينية منخفضة التكلفة، فى ظل تأكيد المفوضية الأوروبية أنها لن تسمح بذلك.
وأكد أن هذا التحرك يؤدى للإلغاء الفعلى لمنظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الحرة، وينذر بزيادة معدلات التضخم وارتفاع الأسعار فى الولايات المتحدة وبالتالى فى العالم، مما يقلل من قدرة البنوك المركزية على خفض الفائدة المرتفعة، مع تقليل حجم التجارة الدولية، وينتج عنه تباطؤ الاقتصاد العالمى لحد الركود، وهو ما يُعرف بالركود التضخمى.
قرار الإدارة الأمريكية برفع الرسوم الجمركية على الصين إلى 145 فى المائة واستثناء 60 دولة لمدة 90 يومًا، يمثل تراجعًا واضحًا عن مبادئ حرية التجارة التى كانت واشنطن تنادى بها منذ التسعينيات