بينما تحتفل مصر فى الخامس والعشرين من أبريل بذكرى تحرير سيناء، تطلُّ الذكرى الـ(43) هذا العام حاملةً في طياتها مزيجًا من الفخر الوطني والتفكير الاستراتيجي. فقصة التحرير، التي توجت مسيرة كفاحٍ طويلة بدأت بحرب أكتوبر المجيدة عام 1973 وانتهت باستعادة آخر شبر من الأرض المصرية عام 1982، ليست مجرد حدث تاريخي يُستعاد سرد تفاصيله، بل هي محطة تُفتح فيها أسئلة الحاضر والمستقبل: كيف تُقرأ سيناء اليوم في الخريطة الجيوسياسية؟ وما التحولات التي شهدتها منذ التحرير؟ وكيف تتعامل الدولة مع تحديات الأمن والتنمية في ظل متغيرات إقليمية ودولية معقدة؟
وانطلاقًا من «ذكرى التحرير»، تحدثت «المصور» مع عدد من الخبراء الاستراتيجيين والعسكريين، الذين سلطوا الضوء على الأبعاد المتشعبة لسيناء، من كونها «بوابة مصر الشرقية» ودرعها الأمنية، إلى سردية تحولها من ساحة صراع إلى مشروع تنموي طموح.
بداية، أوضح اللواء الدكتور محمد قشقوش، عضو المركز الاستشاري للمركز المصرى للدراسات الاستراتيجية والخبير الاستراتيجي، أنه «فى ذكرى الاحتفال بأعياد تحرير سيناء التى تحل على مصر كل عام فى الخامس والعشرين من أبريل وهو تاريخ عزيز على جميع المصريين، لأنه يعنى أن التراب الوطنى المقدس أصبح محرما حتى آخره»، مضيفًا أنه «رغم بقاء قطعة أخيرة من سيناء وهى طابا والتى بقيت للتحكيم الدولى الذي استمر فترة 7:6 سنوات، لكن فى النهاية حصلت مصر على الحكم الدولى بأن طابا ملك مصر وليست لإسرائيل.
ولفت «د. قشقوش»، إلى أنه بالعودة إلى الوراء نجد أن هذا التحرير تحقق نتيجة تراكم أحداث مهمة فى التاريخ المصرى بداية من احتلال سيناء عام 1967 ، ومن وقتها شعر كل مصرى بداخله بضرورة تحرير هذا التراب الوطنى وإعادة قناة السويس إلى وضعها الطبيعى كشريان نقل بحرى دولى وأحد الأعمدة المهمة للاقتصاد المصرى مع إنهاء كافة الآثار التى نتجت عن حرب 1967 والتى حسبت على مصر هزيمة بلا حرب حيث إن مصر لم تحارب، مشيراً إلى أنه كان أحد المشاركين فى تلك الحرب وكان موجودا فى الحدود المصرية الإسرائيلية ولم ير القوات الإسرائيلية نهائياً حتى فى أثناء الانسحاب، لذا كان يجب الإعداد والتجهيز الجيد عقب هذا الدرس الصعب وذلك استعداداً لخوض حرب الاستنزاف
«د. قشقوش»، أكد أن «مصطلح الاستنزاف يعنى الإنهاك العسكرى المتدرج للعدو من خلال أعمال القتال البسيطة تصاعد وأعمال التسليح المتزايدة وكثافة الأعمال الاستخباراتية، وتعتبر مرحلة الاستنزاف هى المحطة التى مهدت لحرب أكتوبر 1973 وذلك عن طريق الإعداد والتخطيط والتغلب على جميع المشاكل وحلها»، مشيرًا إلى أن «القوات المصرية طالما كانت لديها عقيدة قتالية وأخرى عسكرية وهى أن تراب مصر المقدس يجب أن يكون حراً وإن لم يكن حراً بالأعمال السياسية فلا مفر من أن يصبح حراً بالأعمال القتالية ،أما العقيدة القتالية فتتلخص فى “ النصر أو الشهادة “ ومازالت مترسخة فى وجدان كافة المقاتلين بالجيش المصري حتى الآن».
وكشف «د. قشقوش»، أن مرحلة الإعداد للحرب تتضمن العديد من البنود، منها إعداد القوات وإعداد مسرح العمليات وإعداد المقاتل، وكذا إعداد المسرح السياسي الإقليمي والدولي، بالإضافة إلى أن الخداع الاستراتيجي كان جزءا مهما من مراحل الإعداد وهو ما يعنى خداع العدو عن وقت ومكان وأسلوب إدارة المعركة وهو أمر ضروري فى مختلف الحروب، ولكنه كان ضروريا للقوات المصرية فى حرب أكتوبر 1973 نظرا لتفوق العدو فى المعدات والأسلحة النوعية كالقوات الجوية والدفاع الجوي المتحرك وبعض أنظمة الحرب الإلكترونية، لهذا كان من الضرورى تحقيق مفاجأة لمجابهة هذا التفوق، وقد تمكن الجيش المصرى بالفعل من تحقيق المفاجأة ليس فقط على مستوى القوات الإسرائيلية لكن أيضاً على مستوى الدولة الإسرائيلية والولايات المتحدة الأمريكية والدليل أن وزير الخارجية الأمريكي ـ آنذاك ـ هنرى كسينجر كان يستعد للقاء الدكتور الزيات وزير الخارجية المصرى فى نفس توقيت بداية الحرب، وهو دليل على نجاح خطة الخداع الاستراتيجي التى اتبعتها مصر والتى كان الهدف منها هو حرمان إسرائيل من القيام بأعمال التعبئة الكاملة.
«د. قشقوش»، شدد على أن «ما تروج له إسرائيل بأنها انتصرت فى الحرب هو تزييف ومحاولة لمحو آثار هزيمتهم، حيث إن الحرب هى عبارة عن مجموعة من المعارك ومن الممكن أن تكون إسرائيل حققت نجاحاً فى معركة أو نصف معركة، لكن القوات المصرية تمكنت من حسم ٦ معارك لصالحها خلال الحرب، بالإضافة إلى أن الدولة المصرية تمكنت من تحقيق هدفها وغايتها من الحرب وهو استرداد الأرض كاملة نتيجة للتخطيط العلمى المدروس لكافة تفاصيل الحرب»، مضيفا أن «شجاعة المقاتل المصرى قائدا وضابطا وضابط صف وجنديا كانت فارقة فى حسم المعركة لصالحه، فضلا عن اعتماد القوات المسلحة المصرية على تجنيد شباب الجامعات والمؤهلات العليا، وذلك لتدريبهم على استخدام الأسلحة المتطورة التي حققت نجاحاً خلال المعركة
«د. قشقوش»، في سياق حديثه سلط الضوء على أن «معزوفة حرب أكتوبر 1973 أفضت إلى معزوفة أخرى أكثر جمالاً وهى السلام الناشئ عن القوة، والدليل على ذلك أن إسرائيل قد رفضت جميع المبادرات التى قدمت لها قبل الحرب لكنها قبلتها بعد الحرب، وقد أدى السلام إلى استطاعة الدولة للتخطيط للمرحلة التالية وهى التنمية والتى أعاقها الإرهاب ، إلا أن القوات المصرية والشرطة المدنية والشرفاء من أبناء سيناء نجحوا فى ملحمة الحرب على الإرهاب وتجفيف منابعه تماما لتبدأ ملحمة التنمية فى سيناء الحبيبة بأقصى قوة دافعة لها لتعويض ما فاتنا من وقت وتأمين سلامة سيناء بالتعمير وتشجيع المصريين بالانتقال الطوعى لسيناء لتعميرها بالبشر وإنهاء عزلة سيناء إلى الأبد».
ومن جانبه أشار اللواء محمد الغبارى مدير كلية الدفاع الوطنى بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية الأسبق إلى أن «الدولة المصرية تمكنت من توفير مياه الشرب والمياه الصالحة للزراعة في سيناء بكميات هائلة، فضلاً عن تزويدها بشبكات طاقة كهربائية تمكنها من استيعاب حجم كبير من المصانع التى دشنت لاستغلال المواد الخام المنتشرة بسيناء والتى كان يتم تصديرها فى صورتها الأولية لسنوات طويلة، إلا أن عملية التصنيع وتحويل تلك المواد الخام لمنتجات مصنعة تضيف لها قيماً مضافة تدر عائداً اقتصادياً قوياً عند تصديره، كما أن رؤية مصر الاستراتيجية 2030 تخطط للوصول بالتعداد السكانى لسيناء من 3 : 4 ملايين مصرى وهو أمر غاية فى الأهمية والضرورة لقطع الطريق أمام كافة الطامعين فى سيناء أو المستفيدين من وضعها السابق كأرض فضاء خاوية ».
وأوضح «الغباري»، أن «الوصول إلى المرحلة الحالية من التنمية والرخاء الذي تشهده سيناء حاليا قدمت مصر أمامه عدداً كبيراً من الشهداء والمصابين عبر مختلف العصور بداية من العدوان الثلاثي على مصر وصولاً للحرب الأخيرة ضد الإرهاب، فرغم تعاقب الأجيال واختلافها إلا أنه يجمعهم عقيدة واحدة وهى النصر أو الشهادة والتى يحفظها كل مقاتل فى صفوف الجيش المصرى إلى يومنا هذا».
مدير كلية الدفاع الوطنى بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية الأسبق، ثمن الفكر الاستراتيجي لدى القيادة السياسية المصرية خلال حرب أكتوبر 1973 وخلال الحرب على الإرهاب، وقال: خلال فترة حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات سخرت كافة الإمكانيات الاستراتيجية للدولة فى سبيل تحقيق خطة الخداع الاستراتيجي، وذلك لتحقيق المفاجأة وإرباك الحسابات الإسرائيلية ، ومازالت خطة الخداع الاستراتيجية فى حرب أكتوبر إلى الآن تدرس فى كبرى الأكاديميات العسكرية على مستوى العالم، وكذلك كانت القيادة السياسية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال الحرب على الإرهاب منتبهة ويقظة للقضاء على تلك التنظيمات الإرهابية من خلال خطة محكمة للقضاء على الإرهاب وانتشاله من جذوره.

وشدد «الغبارى» على أن «سيناء كانت تواجه تهديداً بعد حرب 1967 وهو ما كان يستلزم استردادها والقضاء على هذا التهديد بشتى الطرق، وهو ما أعلنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما قال «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، بينما كانت سيناء تواجه تحديا كبيرا خلال الحرب الأخيرة على الإرهاب ونجحت الدولة المصرية فى اجتياز كليهما بفضل الإرادة المصرية القوية والإيمان الكبير بقدرات المصريين على اجتياز الصعاب.
كذلك، أشاد مدير كلية الدفاع الوطنى بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية الأسبق، بمسيرة التنمية التى تشهدها سيناء حالياً خاصة أن ميزانية التنمية التى خصصتها الدولة لإعمار سيناء حتى الآن بلغت 700 مليار جنيه كمرحلة أولى مما يعكس صدق نية الدولة المصرية فى تحقيق تنمية فعلية وحقيقية مستدامة على أرض سيناء، مختتمًا حديثه بالتأكيد على أن «الشباب المصرى لا يحب أن يحيد عن درب التوعية، وهو ما يشغل بال القيادة السياسية والحكومة وكافة مؤسسات الدولة المصرية، وقد نجحت الدولة فى مساعيها ببناء شعب واعٍ ملم بما يحاك له، وهو ما يعكسه اصطفاف الشعب المصرى خلف كافة قرارات الرئيس السيسي الأخيرة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومن قبلها القرارات الصعبة المتعلقة بقضايا الإصلاح الاقتصادي».
من المعركة إلى التنمية محاور مدروسة
وفى سياق متصل أوضح اللواء عادل العمدة، المستشار بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، أن «معركة استرداد سيناء مرت بالعديد من الأشواط والمراحل، بداية من حرب 1967 واحتلال الأرض من قبل الجيش الإسرائيلي مرورًا بحرب الاستنزاف والتى أوصلتنا لتحقيق النصر خلال حرب أكتوبر عام 1973 والعبور إلى شرق القناة، وصولاً إلى مرحلة المفاوضات الدبلوماسية التى انتهت بتحرير جميع أرجاء سيناء فى 25 أبريل 1982 عدا طابا والتى عادت إلى التراب الوطنى فى 19 مارس 1989، لتدخل سيناء تحديا جديدا وهو الحرب ضد الإرهاب الذي انتشر فى التسعينيات واستمر إلى أن زادت وتيرته بحدة كبيرة فى أعقاب عام 2011 نتيجة الانهيار الأمنى الذي نتج عن أحداث يناير إلا أن القوات المسلحة المصرية تمكنت من خلال استراتيجية أمنية لمكافحة الإرهاب من القضاء عليه».

وكشف «العمدة»، أن استراتيجية مصر في مواجهة ومكافحة الإرهاب والقضاء عليه، اعتمدت على 3 محاور «الأمنى، التنموى، والفكرى»، وقد تمثل المحور الأمنى فى 4 عمليات عسكرية، واستتبع هذه العمليات مجموعة من الأعمال الأمنية والتى أسفرت فى الأخير بالقضاء على أوكار الإرهاب وبدأت عجلة التنمية تدور بوتيرة كبيرة جدا.
وفي سياق حديثه استشهد «العمدة» بالزيارة الأخيرة التى أجراها الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى مدينة العريش بما يؤكد على النجاح فى القضاء على الإرهاب بصورة كاملة، بالإضافة إلى مسار خط السكة الحديد الذى عاد إلى العمل مرة أخرى ويصل إلى مدينة بئر العبد بشمال سيناء ومخطط أن يتم مده ليصل إلى العريش مستقبلا ثم مد اتجاه آخر من العريش حتى طابا، وهو ما يؤكد ويدلل على أنه تم القضاء على الإرهاب وأصبح تاريخاً كما ذكر الرئيس السيسي فى إحدى المناسبات.
وأوضح المستشار بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، أن محور التنمية تابعته الدولة المصرية من خلال خطة رصدت عام 1994 وتأخر تنفيذها حتى عام 2017 ولكن حالت دون تنفيذها بعض المعوقات الإدارية بالإضافة إلى وجود العناصر الإرهابية بسيناء، لافتًا إلى أن «الدولة المصرية تمكنت من خلال محاور التنمية إعادة صياغة خطة تنمية سيناء وتنتهى الخطة التنموية لسيناء هذا العام، غير أن الرئيس السيسي أوصى بمدها حتى عام 2030 مع توطين ملايين من المصريين داخل سيناء وقد كانت نتائج تلك الخطة 7 مدن سكنية، بالإضافة إلى 7 جامعات منها على سبيل المثال جامعة بورسعيد الأهلية والمئات من المعاهد الأزهرية والمدارس، بجانب 573 ألف فدان تم استصلاحها و22 محطة مياه جديدة ومجموعة من المساكن البدوية ،فضلاً عن التوجيه بإنشاء 4 مناطق صناعية، كما أن مدن سيناء تتميز بوجود إما مطارا أو ميناء أو كليهما ما يؤكد على سهولة حركة التنقلات وكذا 5000 كم طرق تم إنشاؤها (2500 إنشاء جديد و2500 رفع كفاءة) بجانب 5 أنفاق جديدة للعبور من أسفل المجرى الملاحي لقناة السويس بجانب نفق الشهيد أحمد حمدي بخلاف الكثير من المشروعات والخدمات التى تعود بالنفع على أهالى سيناء».
«العمدة» انتقل بعد ذلك للحديث عن دور القوات المسلحة في عملية تحرير وتنمية سيناء، وقال: لعبت القوات المسلحة المصرية دورًا محورياً ومهماً فى الوصول إلى ما وصلت إليه سيناء حالياً من توافر حركة آمنة لكافة المواطنين، وكذا زيارة الرئيس السيسي وماكرون إلى واحدة من أكثر المدن تضررًا من العمليات الإرهابية، وهو ما يدل على أن القوات المسلحة المصرية تمكنت من تحقيق السيطرة الأمنية على سيناء ، مع الأخذ في الاعتبار أن التجربة المصرية فى مكافحة الإرهاب تحولت إلى نموذج استعانت به فرنسا فى مرحلة ما بجانب مجموعة من الدول الأخرى لمكافحة الإرهاب على أرضها، نظراً لكونها تجربة فاعلة ومؤثرة ولها الكثير من العناصر الإيجابية ولها أيضا الكثير من التضحيات من أرواح الشهداء ودماء المصابين الذين رووا بدمائهم تراب سيناء ومن أحب أن نصل بها إلى تلك اللحظة فى ظل الاضطرابات المحيطة بنا من كافة الاتجاهات الاستراتيجية.