عواصف سياسية وتداعيات اقتصادية كبيرة على العالم بأثره بعد مائة يوم من الصخب والفوضى العارمة للأسواق العالمية، وحالة من التنمر الاقتصادى والسياسى والإثارة التى ليست كأى مائة يوم، وإنما كأنها مائة عام فى حرب بدأت ولا نعرف متى تنتهى، وتحركت جغرافيا الاقتصاد العالمى، كما تتحرك الرمال؛ لتصدر البيانات الأمريكية أن الاقتصاد الأمريكى قد انكمش 03, فى المائة، وأن المؤسسات المالية تحذر من احتمالية الركود الاقتصادى للعالم.
حالة من الإرباك
وبدأت الأسواق المالية تحصد الخسائر، فلقد فرض واقعه الجديد الترامبى على اقتصاد العالم ورسم مسارا جديدا عبر أوامر تنفيذية كلها تتسم بالصدام، لقد وضع العالم فى دائرة عدم اليقين المتنامية، وقلب الطاولة وغيَّر هندسة أمريكا على الخريطة وعاد السيناريو الأسوأ للأسواق وهو احتمالية الانكماش .
لقد أدت سياسات ترامب إلى تراجعات جماعية، وأولها الأسهم التكنولوجية التى تأثرت بشدة وتباينت عوائد السندات بعد حالة انكماش الاقتصاد الأمريكى بشكل مفاجئ.
ماذا سيفعل الفيدرالى الأمريكى بعد هذه البيانات الضعيفة، فالمعنويات سلبية للأسواق والعوامل الكلية الحاكمة تغيرت، وستلجأ أمريكا إلى طباعة الدولار مع ضعف الطلب بوجه عام، فالسوق الأمريكى يحتاج إلى السيولة، هى ليست كأى مائة يوم التى جلبت للأسواق المالية احتمالات الركود إلى 50 فى المائة، الدولار يؤدى أسوأ أداء منذ عهد نيكسون، وأصبحت حالة الانكماش تسبق الصورة وتثير الجدل حول «عدم اليقين الاستراتيجي».
لقد تغير تموضع الجغرافيا الصناعية، فقد تجاوز الرئيس الأمريكى كل الأعراف والمسار الطبيعى بإحداث فوضى كاملة فى كل الملفات وجرّ العالم إلى حالة الانكماش، فقد مزق ترامب الاقتصاد العالمى.
فهل يتنفس العالم أم أن الركود يلوح فى الأفق؛ لذلك عندما تسطحت الأسواق، وأصبح المسار الصاعد مسيطراً، لذلك خشى الفيدرالى الأمريكى على السوق الأمريكى بسبب عدم اليقين وبيانات التوظيف الضعيفة، لذلك هناك سؤال يفرض نفسه أيها أسوأ للعالم التضخم أم الركود أم الانكماش، بالأصل من المفروض عدم الذهاب إلى الثلاثة.
لا شك أن التوقعات الاقتصادية وتقييم المحليين وبيوت الخبرة والتصنيف ليست دائما المفتاح لفهم ما قد يحدث فى المستقبل نظراً لأنها عادة ما تبنى على الظروف والمعطيات الحالية، والتى بطبيعة الحال ممكن أن تتغير مع تقدم الوقت والظروف، فالتضخم مثلاً وموجته الحالية لم تكن متوقعة بهذه الشدة، فقد كانت التوقعات بنمو التضخم حاضرة قبل بداية عام 2022 ولكن ساهمت عوامل تالية فى تأجيج النتائج الفعلية ومنها الأزمة الروسية الأوكرانية والحرب فى منطقة الشرق الأوسط وتقلبات سعر الصرف وأسواق السلع الأساسية واستمرار اختناق سلاسل التوريد، حتى مع اندلاع الموجة الحالية للتضخم كان العديد من الاقتصاديين بمن فيهم خبراء الفيدرالى الأمريكى ومجلسه يقولون إن التضخم سيكون مؤقتاً وسوف ينحسر عام 2025 مع حل مشكلات سلسلة التوريد وتباطؤ الإنفاق من قبل الأفراد، لكن يقيناً ما سيحدث ومتى يحدث بالطبع لا أحد يعرف، وبالتالى تظل توقعات المحليين ووكالات التصنيف ومؤشرات الفيدرالى الأمريكى وبيوت الخبرة ضرورية للاسترشاد وفقط بشأن المستقبل وتشكيل السياسات ووضع الخطط الاقتصادية، ويشمل ذلك على سبيل المثال تحريك أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية ووضع البرامج الإنفاقية للحكومات والشركات والأفراد، ولا أحد يعرف ماذا سيحدث غداً، ولكن المؤكد أن ما اتخذته البنوك المركزية على مستوى العالم يدفع بالاقتصاد فى2025 إلى تفادى حالة التضخم الاقتصادي.
ولكن مع قدوم ترامب، وقد وقع هو أولا فى براثن الانكماش بنسبة 03, فى المائة فى الربع الأول، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل الهام هل القادم أفضل؟
الإجابة الوحيدة لهذا السؤال هى ربما لأن الأفضل على صعيد التضخم ونمو الأسعار قد لا يعنى بالضرورة الأفضل على صعيد النشاط الاقتصادى. وهذه نقطة هامة فهناك فارق كبير.
فالمتوقع يقول إن معدلات التضخم ستبدأ فى الهدوء خلال العام الحالى، وستتراجع بنهايته بشكل ملحوظ، ومع ذلك لن تعود إلى طبيعتها فى مناطق كثيرة إلا بحلول عام العام القادم، وفى غضون ذلك ستساهم إلى جانب سياسة التشديد المعقولة النقدى فى تقويض النمو مع بدايات التيسير النقدى .
فصندوق النقد الدولى نفسه يقول إن النشاط الاقتصادى العالمى يشهد تباطؤاً واسع النطاق وأكثر حدة من المتوقع مع ارتفاع معدل احتمال الركود عما كان عليه منذ عقود، ويرى أن أزمة تكلفة المعيشة والأوضاع المالية المتشددة فى معظم الدول والأزمة الأوكرانية الروسية، واستمرار آثار الجائحة والأحداث الجيوسياسية وتأثيرها الضاغطة كعوامل وعليها التعريفات الجمركية تؤثر بشكل كبير على التوقعات، وشكلت نصائح صندوق النقد الدولى مسارا للسياسة النقدية فى بلدان العالم فى مسار استعادة استقرار الأسعار، وأن تهدف السياسة المالية إلى التخفيف من ضغوط تكلفة المعيشة مع الحفاظ على موقف حازم بما فيه الكفاية يتماشى مع السياسة النقدية، وتأتى أيضاً التوقعات بخبر أن العالم يواجه ركوداً فى نهاية هذا العام أو الربع الأول من العام القادم؛ حيث تؤدى تكاليف الاقتراض المرتفعة التى هى بالأساس محاولة من البنوك المركزية لمعالجة التضخم إلى «انكماش عدد من الاقتصادات فى العالم .
إن المعركة ضد التضخم لم تُحسم بعد، فمحافظو البنوك المركزية بأسلحتهم خلال عامين بالسياسات النقدية التشديدية رغم التكاليف الاقتصادية أثبتت أن تكلفة خفض التضخم إلى مستويات أكثر راحة تعنى توقعات نمو أضعف لعدد من السنوات القادمة، وقد حذر تحليل بلومبيرج ايكونوميكس أن ثلث الاقتصاد العالمى سوف ينكمش، وأن هناك فرصة بنسبة 2,4 فى المائة لنمو الناتج المحلى الإجمالى العالمى بنسبة أقل من العام الحالى، وهو ما يعرف بأنه ركود انسيابى عالمى متوسط لم يصل إلى الركود الاقتصادى الكلى الذى يلوح فى الأفق يؤثر عليه ثلاثة عوامل:
أ) صدمات الطاقة المستمرة .
ب) التضخم المتفاقم .
جـ) السياسات النقدية المتغيرة .
فكل هذه العوامل تؤثر على الأداء الاقتصادى من الولايات المتحدة إلى أوروبا مروراً بالشرق الأوسط وصولاً إلى اليابان وأستراليا، ويعانى العالم وقيادات السياسة النقدية المتشددة إلى جعل الأموال أكثر كلفة، ويتجه الجميع إلى الركود العام، الأمر الذى يعد أكيداً بعرقلة النمو الاقتصادى .
- نافلة القول تجعلنا نسأل هل العالم ذاهب إلى الانكماش بقوة أم الركود العام؟
الانكماش الاقتصادى
- عندما تنخفض الأسعار يعد ذلك شيئاً جيداً بوجه عام خاصة عندما يتعلق الأمر بوجهات التسوق المفضلة لدى الأفراد، وعندما تهبط الأسعار عبر الاقتصاد بأكمله يُعرف ذلك بالانكماش الاقتصادى، وهذه لعبة أخرى والانكماش الاقتصادى ليس خبرا جيدا لأى بلد .
- الانكماش هو الصورة العكسية للتضخم، وهو الزيادة التدريجية فى الأسعار فى مختلف قطاعات الاقتصاد .
- ورغم أن الانكماش قد يبدو أمراً طيباً، فإنه يشير إلى ركود وشيك وأوقات عصيبة اقتصادياً، وعندما يشعر الناس بأن الأسعار تتجه نحو الانخفاض فإنهم يؤجلون قرار الشراء على أمل أن يتمكنوا من شراء الأشياء بأسعار أقل فى وقت لاحق، الانخفاض فى الإنفاق على أمل أن يتمكنوا من شراء الأشياء بأسعار أقل يؤدى إلى انخفاض دخل المنتجين، وهو ما قد يؤدى إلى البطالة وارتفاع أسعار الفائدة، وهذه الحلقة من ردود الفعل السلبية تعمل على توليد مستويات أعلى من «البطالة»، وحتى أسعار أقل ومع فترات الانكماش عادة تحدث انحدارات اقتصادية حادة .
وهنا لا ينبغي أن نخلط بين الانكماش وبين خفض التضخم، رغم أن كليهما - يبدو أنه يشير إلى انخفاض الأسعار فإن انخفاض التضخم يعنى فى واقع الأمر أن الأسعار لا تزال ترتفع لكن ببطء أكبر. وهذا يدفعنا إلى التساؤل:
ما هى أسباب الانكماش؟
- هناك سببان رئيسيان للانكماش:
1) انخفاض فى الطلب.
2) نمو فى العرض .
وكل منهما مرتبط بالعلاقة الاقتصادية الجوهرية بين العرض والطلب، ويؤدى انخفاض الطلب الكلى إلى انخفاض أسعار السلع والخدمات؛ إذا لم يتغير العرض، وقد يحدث انخفاض فى الطلب الكلى نتيجة لما يلى :
1 - السياسة النقدية غير المتوازنة
2 - تراجع الثقة
قد تؤدى الأحداث الاقتصادية المعاكسة مع سياسات ترامب وحالة عدم اليقين الاستراتيجى والأحداث الجيوسياسية إلى انخفاض الطلب الكلى، وإذا كان الناس قلقين بشأن الاقتصاد أو البطالة فقد يقللون من إنفاقهم؛ إذا يصبح بوسعهم أن يدخروا المزيد.
فارتفاع العرض الكلى يعنى أن المنتجين قد يضطرون إلى خفض أسعارهم بسبب زيادة المنافسة، وقد يكون هذا الارتفاع فى إجمالى العرض بسبب انخفاض تكاليف الإنتاج، وإذا كان إنتاج السلع أقل تكلفة، فإذا الشركات كانت قادرة على تصنيع المزيد منها بنفس السعر، وقد يسفر هذا عن عرض أكثر من الطلب وانخفاض الأسعار .
عواقب الانكماش الاقتصادى
- رغم أنه قد يبدو من المفيد أن تنخفض أسعار السلع والخدمات، فقد تكون له آثار سلبية جداً على الاقتصاد :
أولها: البطالة.. فهبوط الأسعار تنخفض معه أرباح الشركات، وبالتالى قد يلجأ البعض إلى تسريح العمالة .
ثانيا: الدين.. حيث تعمل أسعار الفائدة إلى الارتفاع فى فترات الانكماش، مما يجعل كلفة الدين أكثر .
ثالثا: تأثير الدمينو الناتج عن كل جزء متداخل من الانكماش .
فقد يؤدى هبوط الأسعار إلى انخفاض الإنتاج، وقد يؤدى انخفاض الإنتاج إلى انخفاض الأجور، وقد يؤدى انخفاض الأجور إلى انخفاض الطلب، وقد يؤدى انخفاض الطلب إلى انخفاض الأسعار بصورة متزايدة، وهكذا دواليك ما من شأنه أن يزيد الموقف الاقتصادى سوءاً .
وقد لجأت إلى كل هذا السرد كى أحذر من الانكماش وأقول لماذا الانكماش أكثر ضرراً من التضخم؟
- حين ترتفع الأسعار وتهبط قوة العملة فإن الاقتصاد يشهد التضخم، وفى حين أن التضخم يعنى أن قيمة العملة التى تمتلكها ستقل قوتها الشرائية، فإنه يقلل أيضاً من قيمة الدين؛ حيث يستمر المقترضون فى الاقتراض، ويستمر المدينون فى دفع فواتيرهم.
- إن التضخم المتواضع أمر طبيعى فى الدورة الاقتصادية، فالاقتصاد يعانى عادة تضخماً يتراوح من 1 فى المائة إلى 2 فى المائة سنوياً، وينظر عموما إلى وجود تضخم برقم صغير على أنه علاقة على نمو اقتصادى صحى .
التضخم أيضاً أمر يستطيع المستهلكون أن يحموا أنفسهم منه إلى حد ما، فاستثمار أموالك مثلا ربما يساعد على نمو أرباحك أسرع من التضخم، مما يساعدك على الاحتفاظ بقوتك الشرائية وتنميتها، فى حين قد يبدو ارتفاع الأسعار أسواً مع انخفاضها، فإن الانكماش بوجه عام أقل إيجابية، ويرتبط بالانكماش الاقتصادى والركود، وهنا قد تعمل الدوامة الانكماشية على تحويل الأوقات الاقتصادية العصيبة إلى ركود ثم كساد.
إن حماية الدولة لنفسها من الانكماش أمر صعب، وأصعب من حماية نفسها من التضخم، وخلافا للتضخم فإن الديون تصبح أكثر تكلفة مع الانكماش، مما يدفع الناس والشركات إلى تجنب الاستحواذ على ديون متزايدة القيمة التى يدينون بها بالفعل .
خلال فترات الانكماش فإن أفضل مكان يستطيع الناس أن يحتفظوا فيه بأموالهم هو الاستثمارات النقدية التى لا تكسب الكثير من العائدات، وهذا إن وجدت وستكون أنواعا أخرى من الاستثمارات أكثر خطورة مثل الأسهم وسندات الشركات والاستثمارات العقارية عندما يكون هناك انكماش لأن الشركات ممكن أن تواجه أوقاتا صعبة جدا أو تفشل بالكامل .
إن الانكماش هو النقصان الشامل فى تكلفة السلع والخدمات الاقتصادية، وفى حين يحفز الانخفاض الطفيف فى الأسعار الإنفاق الاستهلاكى؛ فإن الانكماش الواسع النطاق من الممكن أن يثبط الإنفاق ويؤدى إلى قدر أعظم من الانكماش والركود الاقتصادى .
والأهم بعد هذا العرض ماذا عن مصر، فالركود سوف يزيد فى أوروبا فى الفترة القادمة وأمريكا بفعل ضغوط ترامب، فالاقتصادات فى منطقة اليورو، إما تعانى انكماشا أو ركودا بسبب آلة الحرب الدائرة، الحقيقة أن مصر تركز وبشكل مباشر على الصمود الاقتصادى والقدرة على التعامل مع الأزمات، بينما يسعى ترامب لإعادة ترتيب أوراقه هذا العام ولديه مرحلة من مراحل ترتيب الأولويات فى التجارة العالمية.
إن فرص مصر لدعم الاقتصاد كبيرة فى الفترة المقبلة بسبب قربها الجغرافى من أوروبا التى تعتبر شريكاً اقتصادياً أساسياً لمصر، وزيادة التعاون فى مجال الطاقة سيربط مصر بشكل أكبر فى عديد من الصناعات، ومصر لديها شباب قادر على الابتكار.
وعلى الرغم من تعقيدات المشهد الاقتصادى العالمى وتزايد التحديات التى فرضتها الأزمات العالمية المتتالية تظل النظرة الإيجابية من جانب المؤسسات الدولية كمؤشرات الاقتصاد المصرى خاصة فى ظل سعى الدولة لاحتواء وتجاوز تداعيات المتغيرات الخارجية الناجمة عن تلك الأزمات، عبر كفاءة سیاستها النقدية والمالية مع امتلاك رؤية واضحة وتوجه حر يفسح مجالاً أوسع لدور القطاع الخاص فى عملية التنمية بجانب وضع الخطط لزيادة الصادرات وفتح آفاق جديدة للمزيد من الاستثمارات الأجنبية وذلك بالتوازى مع اتخاذها قرارات بترشيد الإنفاق الحكومى وتمديد وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعيه للتخفيف من وطأة التداعيات الاقتصادية السلبية الناجمة عن الأزمات الدولية على المواطن المصرى وخاصة الفئات الأكثر احتياجاً .

