فى تطور خطير ينذر بانفجار الأوضاع فى قطاع غزة، أعلنت الحكومة الإسرائيلية رسمياً عمليتها العسكرية المعروفة باسم «عربات جدعون»، فى خطوة وصفت بأنها الأكثر دموية وتوسعية منذ بداية الحرب فى غزة، والعملية، التى تحمل أهدافًا تتجاوز الرد على هجوم السابع من أكتوبر، تكشف عن توجه استراتيجى لإعادة احتلال القطاع وتفكيك بنيته السكانية والسياسية بالكامل.
هذه التطورات دفعت وعدداً من زعماء العالم لإدانة موافقة المجلس الوزارى الأمنى الإسرائيلى المصغر (الكابنيت) على خطة توسيع الهجوم البرى إلى جنوب القطاع، مع الإبقاء على القوات الإسرائيلية فى المناطق التى يتم السيطرة عليها. وفيما تشمل الخطة نقل مئات الآلاف من سكان غزة قسريًا إلى منطقة «المواصي» جنوب القطاع، انطلقت صافرات الإنذار العالمية “إبادة جماعية محتملة” ونقص كارثى فى الغذاء والدواء، فيما عُرف بأنه تهجير قسرى داخلى لأهالى القطاع الذين يعيشون ظروفاً إنسانية صعبة. ووفقًا لما صرح به بعض الخبراء السياسيين، فإن تلك العملية تضرب عرض الحائط بالهدنة التى كانت قيد التفاوض بوساطة أمريكية وقطرية والتى تبدو الآن فى مهب الريح، بعد تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن “إسرائيل لن توقف الحرب قبل تحقيق النصر الكامل”، مضيفًا أن القطاع سيبقى تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية «إلى أجل غير مسمى».
وبينما أصدر معهد الأمن القومى ورقة بحثية تُقدر ميزانية احتلال قطاع غزة سنويًا بنحو 35 مليار شيكل، وفيما توالت التحذيرات بالتكلفة الباهظة أفادت دراسة حديثة عن إصابة ما يقرب من 12 فى المائة من جنود الاحتياط فى الجيش الإسرائيلى باضطراب ما بعد الصدمة، فى الوقت الذى يتم تداول الحديث عن استدعاء ما يقرب من 50 ألف جندى احتياط للمشاركة فى العملية المرتقبة فى القطاع. وفى تصريح له، أكد وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، إن «غزة يجب أن تُدمر»، وإن تهجير سكانها «هدف مشروع لحماية إسرائيل». ويأتى هذا التصعيد اللفظى مع خطوات فعلية، مثل إنشاء كيان إدارى إسرائيلى جديد باسم «مؤسسة غزة الإنسانية» لتوزيع المساعدات فى المناطق المحتلة، ما اعتبرته الأمم المتحدة انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني. وفى المقابل، تصاعدت الإدانات الدولية، إذ حذرت الأمم المتحدة من «كارثة غير مسبوقة»، ودعت محكمة العدل الدولية إسرائيل لوقف العملية فورًا. كما لوحت دول أوروبية، مثل فرنسا وإيرلندا، بمراجعة علاقاتها مع تل أبيب فى حال استمرار العمليات على هذا النحو.
وبحسب وسائل إعلام عبرية، تشمل الأهداف العسكرية لعملية عربات جدعون، هجومًا بريًا وجويًا وبحريًا مكثفًا، مع التركيز على تدمير البنية التحتية لحماس، وتوسيع السيطرة الإسرائيلية لتشمل معظم أراضى غزة، مع إبقاء القوات فى المناطق التى تتم السيطرة عليها، خلافًا للعمليات السابقة التى كانت تعتمد على الانسحاب بعد التوغل. كما تتضمن الخطة نقل السكان المدنيين من شمال غزة إلى الجنوب، وهو ما وصف بتعمد آلية التهجير القسري.
يرى الدكتور أشرف الشرقاوي، أستاذ الدراسات الإسرائيلية واللغة العبرية، أن اسم «عربات جدعون» هو اسم يحمل دلالات سياسية ودينية ويبعث برسائل متعددة، مشيرًا إلى أنه سبق للاحتلال الإسرائيلى استخدام اسم «جدعون» فى “عملية جدعون” خلال حرب عام 1948، التى نفذ فيها جيش الاحتلال تطهيرًا عرقيًا لقرية بيسان الفلسطينية، لتُقام مكانها مدينة “بيت شان” الإسرائيلية. وبالتالي، فإن تسمية “عربات جدعون” تحمل دلالة سياسية واضحة، مفادها أن هدف العملية هو التطهير العرقى لغزة وطرد الفلسطينيين منها.
وكشف الشرقاوي، عن أن التسمية تبعث برسالة طمأنة للداخل الإسرائيلي، الذى يشعر بالقلق من اضطرار الجيش الإسرائيلى للعودة إلى المناطق نفسها التى دخلها سابقًا، ليتكبد فيها مجددًا خسائر بشرية ويُقتل فيها بعض من الأسرى الإسرائيليين فى غزة. وهى دعوة ضمنية لهذا الجمهور إلى الاصطفاف خلف قيادته السياسية والعسكرية، تمامًا كما توحد اليهود خلف جدعون فى الحكاية التوراتية لحسم الحرب أمام “مدين”. أما اسم “جدعون” نفسه فله دلالة دينية، إذ يحيل إلى قصة جدعون وانتصاره على المديانيين، وهى قصة لا دليل تاريخيًا على صحتها، لكنها تُستخدم هنا لترميز رسالة موجهة إلى غزة وجبهات الإسناد لها. ووفق الرواية التوراتية، انتصر جدعون على المديانيين بجيش قوامه 300 مقاتل فقط، حيث تمكن من اغتيال قادة مدين وتحقيق نصرٍ غير متوقع. والرسالة الموجهة للفلسطينيين هى أن العملية تستهدف اغتيال قادة المقاومة، بينما الرسالة إلى جبهات الإسناد (فى اليمن، لبنان، الضفة الغربية، إيران، وربما سوريا وتركيا) مفادها أن الجيش الإسرائيلى قادر على هزيمة جيوشهم مجتمعة. وكذلك، تحمل التسمية رسالة موجهة إلى الجمهور المسيحى الصهيونى فى الولايات المتحدة وأوروبا، الداعم لإسرائيل فى حملتها الممنهجة للتطهير العرقى والتجويع فى غزة، تؤكد فيها أن هذه حرب دينية، وأن دعمهم المنتظر واجب دينى وتاريخي. وبحسب الشرقاوي، فإن الجنود الإسرائيليين، يدركون فحوى هذه الرسالة الدينية، التى تجعل من واجبهم اغتيال قادة المقاومة وإنهاء الحرب بـ«نصر ساحق»، وإن لم تتضح بعد ملامح هذا النصر. والخلاصة أن التسمية مليئة بشفرات دينية وسياسية موجهة لفئات مختلفة، كلٌّ منها سيفهمها وفق خلفيته.

