رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

سياحة الروح ونهضة الوطن


30-5-2025 | 20:02

.

طباعة
بقلم : جميل حليم حبيب

فى قلب التاريخ، وبين تضاريس مصر التى تجمع بين قداسة الأرض ووهج الشمس، يمتدّ مسار روحى لا يشبه سواه.. مسار العائلة المقدسة، ليس مجرد طريق محفور على الأرض، بل هو خطّ نور مرسوم على جبين الزمان، تخلّد فيه مصر استقبالها للسيدة العذراء مريم، وطفلها الإلهى يسوع المسيح، والقديس يوسف النجار، وهم يفرّون من بطش هيرودس، ليجدوا فى أرض الكنانة ملاذًا وأمانًا.

 

إنّ هذا المسار ليس مجرّد سردية دينية، بل هو تعبير حضارى وإنسانى بالغ الأهمية، هو رحلة توازى فى بُعدها الرمزى ما تمثله الحجّات الكبرى فى الديانات السماوية

وقد شاءت العناية الإلهية أن يكون لمصر شرف احتضان هذه العائلة المباركة، فى أكثر من خمسة وعشرين موضعًا توزّعت بين شمال سيناء وحتى صعيدها الأشم، مرورا ببلبيس، وسمنود، والمطرية، ومصر القديمة، والمعادى، ووادى النطرون، ودير المحرق بجبل قسقام.

 

فى هذا السياق، تبدو مصر وكأنها تتلقّى دعوة متجددة لصياغة مشروع حضارى إنساني، يجمع بين الإرث الروحى والاستثمار الذكي، عبر تفعيل هذا المسار كمقصد للسياحة الدينية، وهنا تتجلّى أهمية تحويله من مجرد مواقع متفرقة إلى تجربة روحية وثقافية متكاملة، تُمكِّن الزائر من إعادة استكشاف مصر، لا فقط كأرض الفراعنة، بل كوطن احتضن النبوات، ومثّل نقطة التقاء بين السماوى والأرضي، ونتناول ذلك فى النقاط الآتية:

 

الاستثمار فى القداسة: أفق اقتصادى وثقافى

 

تشغيل مسار العائلة المقدسة كمشروع سياحى متكامل يتجاوز حدود الجذب التقليدي، ليتحوّل إلى مشروع وطنى شامل. فبضخّ الموارد اللازمة -سواء من القطاع الحكومي، أو من خلال شراكات مع الكنيسة، والقطاع الخاص، والمنظمات الدولية - يمكن إحياء هذا المسار ليصبح مصدرًا متجددًا للدخل القومي، وفرصة لخلق وظائف مستدامة فى المجتمعات المحلية التى تمر بها المحطات المقدسة.

 

كما يمكن أن يشكّل هذا المشروع منصة تعليمية وثقافية تُعرّف الأجيال الجديدة بتاريخ بلادهم الغني، وتفتح آفاق الحوار بين الأديان، ويمكن إدماج التقنيات الحديثة فى تصميم تجربة الزائر، باستخدام التطبيقات الرقمية، والواقع المعزز، والخرائط التفاعلية، لإعادة سرد الحكاية بلغة العصر دون المساس بجلالها الروحي.

 

البعد الروحي: من السياحة إلى التأمل

 

الزائر لهذا المسار لا يطلب فقط معلومة أو صورة تذكارية، بل يسعى إلى تجربة روحانية تبعث السكينة فى النفس، ففى دير المحرق -حيث يُقال إن العائلة المقدسة أقامت لأطول فترة فى مصر، ما يقرب من ستة أشهر- يشعر المرء أن الزمان يركن على ضفاف الأبدية، وأن للصمت هناك نغمة لا تُسمع إلا بالقلب، وفى شجرة مريم بالمطرية، تلك الشاهدة الخضراء على التاريخ، نجد رمزًا حيًّا للتجدد، وقدرة الحياة على الازدهار فى وجه الهلاك، كل موقع فى هذا المسار يحمل فى قلبه معجزة صغيرة، وأثرًا إنسانيًّا كبيرًا: بئر شربت منها السيدة العذراء، مغارة احتمت فيها، كنيسة قامت على أنقاض ملجأ، وأيقونة نُقشت من أثر دعاء.

 

استلهام التجارب الإقليمية: الأردن نموذجًا

 

وهنا تبرز أهمية الاستفادة من تجارب إقليمية ناجحة، لعل أبرزها تجربة الأردن فى تطوير موقع «بيت عنيا عبر الأردن» - المغطس، حيث تعمّد السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان. لقد قامت الحكومة الأردنية، بالتعاون مع الكنائس العالمية، بتحويل الموقع من مجرد رمز دينى إلى مقصد عالمى يستقطب الحجاج والباحثين والمهتمين، من خلال إعادة إحياء المكان بروح الأصالة، دون إغفال معايير السياحة المستدامة والاحترام العميق للبيئة والقداسة.

 

تم توظيف الفن المعمارى المتناغم مع السياق البيئي، إلى جانب خدمات الحجاج والزوار، وتهيئة المسارات وتوفير دلائل متعددة اللغات، مما أضفى على الزيارة تجربة تأملية ومعرفية متكاملة. كذلك، حرص الأردن على تسجيل الموقع ضمن قائمة التراث العالمى لليونسكو، ما أضفى عليه بعدًا دوليًّا وشجّع على الاستثمار السياحى والثقافى فيه.

 

بالمثل، يمكن لمصر أن تُفعّل قدراتها الهائلة من خلال التعاون مع الكنائس المحلية والعالمية، والمنظمات الثقافية والدولية، لوضع مسار العائلة المقدسة على الخريطة العالمية للسياحة الروحية، مع إمكانية إدراجه على قوائم التراث العالمي، وهو أمر تدعمه مكانة مصر التاريخية والدينية، وتنوع المواقع التى يشملها المسار.

 

مصر و«المعنى»: استعادة دورها الثقافى والروحى

 

إنّ إحياء مسار العائلة المقدسة ليس فقط شأنًا دينيًا أو اقتصاديًا، بل هو استعادة لدور مصر التاريخى كملتقى للأديان، وموئلٍ للتسامح. فهو فرصة لصياغة خطاب حضارى جديد يعلى من قيمة «الضيافة الروحية»، ويعيد لمصر مكانتها كأرض تحتضن الزائر لا فقط بجمالها المادي، بل بعُمقها المعنوى أيضًا، فى زمن الاستقطاب والتشرذم، تقدم مصر من خلال هذا المسار صورة مختلفة للعالم: وطن استطاع عبر قرون أن يكون حضنًا للأنبياء، وملتقى للتجليات السماوية، وجسرًا بين الأرض والسماء.

 

حين تسير الروح على تراب مصر

 

مسار العائلة المقدسة، ليس فقط دعوة للزيارة، بل دعوة للتأمل فى معانى الأمان، والحماية، والرجاء. هو سفرٌ روحى يعيد رسم حدود مصر، لا كخريطة جغرافية، بل كقلب نابض بالإيمان والإنسانية، وتشغيل هذا المسار ليس ترفًا، بل ضرورة، ليس فقط لاقتصاد السياحة، بل لروح الوطن. فحين تتضافر القداسة مع الإرادة، وتلتقى الحكمة بالموارد، تصبح مصر مرة أخرى نقطة انطلاق للحضارة، لا من الماضي، بل نحو مستقبل يليق بعظمة تاريخها ونقاء رسالتها.

أخبار الساعة