السبت 18 مايو 2024

جاذبية سري.. أيقونة الفن التشكيلي في مصر

جاذبية سري

ثقافة11-11-2021 | 10:43

مريانا سامي

رحلت أمس عن عالمنا الفنانة التشكيلية الكبيرة جاذبية سري، بعد رحلة عطاء استمرت لأكثر من سبعين عام، أثرت خلالها الفن بلوحاتها المُبهرة والمتفردة في آن واحد، وجمعت كل المدارس في لوحات واحدة تُعبر عن الواقع الوطني والاجتماعي وتجسد حياة المُهمشين وأحلام الفقراء.

وُلدت جاذبية حسن سري في الحادي عشر من أكتوبر لعام 1925 في القاهرة وتحديدًا بالحلمية القديمة في شارع "نور الظلام" التي أحبته وقضت فيه كل طفولتها تلعب على سطح منزلها الكبير وتشكل التماثيل من الطين والصابون.

انتمت جاذبية سري لعائلة أرستقراطية من الطراز الأول، فكان والدها قاضيًا ولكنه توفي وتركها وهي لازالت طفلة لا تدرك الواقع من حولها جيدًا، فتولى تربيتها مع أخوتها جدها لأبيها وكان على حسب وصفها ديكتاتور خاصة في الأمور المادية، لكن أعمامها حاولوا تعويض غياب والدها واهتموا بإطلاعها على الفنون والثقافة والكتب من مكتبة أبيها الكبيرة، كذلك كانوا هواة للفن التشكيلي فكانت من هنا نقطة انطلاقة وتكوين وعي جاذبية سري.

بتوجيه من عمها وصديق له التحقت الفنانة بالمعهد العالي للتربية الفنية لتدرس موهبتها بشكل أكاديمي ثم تخرجت منها عام 1948 لتسافر روما ثم برلين لاستكمال دراساتها العليا لتعود إلى مصر وتصبح أستاذًا للتصوير في كلية التربية الفنية.

خرجت الفنانة جاذبية سري من بوتقة الليبرالية المصرية وحركات الحقوق والحرية وكذلك الأوضاع المتغيرة تغير عنيف في تلك الفترة من الملكية للجمهورية ومعايشة حركة الضباط الأحرار والقومية والوطنية، كل هذا شكل وعي الفنانة بشكل مختلف فقد جمعت كل واقعية الشارع المصري وأحداثه ودمجتهم في المدارس الفنية لتخرج علينا بتشكيلة من اللوحات ذات الطراز الخاص.

وتقول هاجر سعيد في دراسة بعنوان الصياغات التشكيلية لأعمال جاذبية سري، إنها من أهم فناني مصر التشكيليين ولها أسلوب متفرد شعبي إنساني تعبيري ممزوج بالفانتزيا، تطور تدريجيًا حتى وصل إلى الأسلوب تعبيري ذاتي مرتبط بالأسلوب التعبيري التجريدي ويعتبر أسلوب معاصر ذا مذاق خاص.

وعن أي مدرسة خضعت أعمال الفنانة جاذبية سرى تقول في حوار لها نشر عام 2010 أجراه عبدالرحمن أبو عوف، إن كل أعمالها تخضع للمدرسة التعبيرية وإن الواقع وما وراء الواقع متداخل فيها أو ربما تسميها التعبيرية الرمزية، بصرف النظر عن المراحل أو التجسيدات في الظاهرة المختلفة التي عبر عنها البعض أنما مراحل مثل طرق موضوعات إنسانية أو سياسية أو من مناظر البيوت وأحلام وذكريات وعوالم الطفولة إلى مواقف البحث والصحراء والنوبة والنيل، فرغم هذه التجسيدات المختلفة في عدة مراحل إلا أن وراءها نسقا في المفهوم معاصرا يخضع محاولة في التعبير والرؤية الواحدة، ولا يتضمن هذا التنوع والتعدد ومحانقة الموقف المنظور التشكيلي حسب موقف حضاري، غير أني أخضع مفهوم ولغة اللوحة من نقطة انطلاق أساسية وهو ما يحدث في مصر.

وعن تجسيد ذكرياتها في اللوحات تقول :أنها بشكل طبيعي وتلقائي من أول نشأتها لديها رصيد وإحساس بتصوير البيوت المنهارة والمتساندة بعضها على بعض، فقد نشأت في حي الحلمية وعاشت في البيوت العربية القديمة المتسعة الأرجاء والتي تشكل واجهاتها تشکلات وتكوينات أثرت فيها منذ الطفولة وكانت تقدمها بمفهوم محدد قبل نكسة 1967، ولكن بعد النكسة، تقول " أنا كنت كغيري من المواطنين خائفة على الناس في هذه البيوت، لقد صورت إحساسها بأزمة الشخصية المصرية عبر ركام البيوت فاتخذت التكوينات في اللوحة وجوه غريبة غير واقعية في البيوت، عندما تنظر إليها من أية زاوية سوف تتخذ لديك ملامح الأشخاص وإحساس بالخوف عليهم من أن تنهار هذه البيوت، لقد عملت فيها فتحات مختلفة، كانت البيوت مثل الناس تكلست وأصبحت مثل الحجارة، ثم طورت اللوحة تشكيليا بحيث إن الناس في اللوحة بدأت تأخذ مواقف، هناك بيوت نراها رسمت وكانها تمشي.

ومن الغريب عند الفنانة جاذبية سرى هو تجسيدها للفقراء والمهمشين على الرغم من كونها أرستقراطية، لكن ذلك عكس علاقة حب جمعت بينها وبين المجتمع الذي تحيا فيه ويعكس إيضًا درايتها بألام وأحلام الناس وقضاياهم في الشارع فحتى آخر معرض لها كانت تقول إن كل ماتفعله هو التأمل في واقع الشارع وتحويل هذا التأمل إلى لوحات تعبيرية ترتبط بقضايا الناس. 

وقد تميزت جاذبية سرى كما ذكرنا بتنوع اتجاهاتها الفنية، على مسار حركتها الفنية التي امتدت معها منذ بداية الخمسينات وحتى وقتنا هذا، فكما تقول الدكتورة نيڤين محمد في دراستها أثر الثقافة الشعبية على الفنانات المصورات المصريات، إن الفنانة استطاعت الانتقال من التشخيصية التزينية، وكذلك ما أنتشر قبل ذلك من مداعبات للتأثيرية نحو الواقعية التعبيرية الممتدة الجذور في مصر التاريخ والتراث الحضاري وملامح المجتمع مبلورة لنفسها أسلوبا خاصا مواكبا لمستحدثات العصر الفنية التشكيلية، دون انبهار وجري وراء الموضة المبهرة، محققة بذلك لنفسها وداخل إطار حركة فن التصوير ذات الحس والروح المصرية، دورا حيويا وهائما بجوار تفردها في الشكل والمحتوى. 

وتعتبر الفنانة جاذبية سري نجحت بتفوق شديد في التوفيق بين الحداثة والواقعية التعبيرية، وعانت وأصرت علی الخروج من مأزق التحول للتجريد الخالص، إلى الاستناد للأصالة الواعية بمعطيات جوهر التراث وليس شکله. 

وقد حملت جاذبية رؤية متطورة تبحث عن علاقة الفن بالواقع غير أبعاده الاجتماعية والقومية وتقوم بترجمتها بصيغة تعبيرية حديثة تستفيد من الفنون الشعبية بفلسفتها وجماليتها وتطرح على بساط البحث أهمية الموضوع الاجتماعي والسياسي وتربطه فيها بحياة الريف ومشكلاته وجمالياته، كما تميزت كل أعمالها بالتكوينات الغنية بالألوان والحياة. 

وتعتبر لوحتها "طيارة" التي رسمتها في الستينات وكانت تجسد فتاة تلهو بطيارتها الورقية وتكاد تطير معها أول اللوحات المصرية التي حُفظت ضمن مقتنيات متحف المتروبوليتان بنيويورك وهو واحد من أهم وأكبر المتاحف العالمية المًقدرة للفنون.

درست جاذبية سرى في العديد من الجامعات المصرية والأوروبية وقد حصلت على  جائزة الدولة التشجيعية ثم جائزة الدولة التقديرية وكذلك وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وأقامت العديد من المعارض الفنية في مصر وخارج مصر، ومن أهم لوحاتها نشر الغسيل، أم عنتر، الفتاة النوبية، طيارة، أم رتيبة، الزوجان، المراجيح وغيرهم الكثير والذي لا يسعنا مقال واحد لرصدهم والحديث عنهم وعن تكويناتهم الخلابة. 

برحيل الفنانة جاذبية سري بالأمس عن عمر ناهز الـ96 عامًا، تكون مصر قد فقدت أحد أهم أعمدتها وروادها في الفنون التشكيلية ولكن سيرتها وإبداعها سيظل حاضرًا من جيل إلى جيل.

الاكثر قراءة