"غيوم فرنسية" رواية تم تخطيطها بعقل كاتبة مشغولة بسؤال الحرية، ويبدو لي أن ما يُحسب لضحى عاصي الكاتبة الروائية أنها جعلت من الحرية سؤالا إشكاليًا يثير عقل القارئ بقدر ما يقدم له من شخصيات وعوالم روائية مدهشة.
تعتبر هذه الرواية قراءة نقدية لتاريخ مصر الحديث من منظور نسوي بامتياز، فقد اختارت ضحى عاصي أن ترصد المجتمع المصري في لحظة فارقة من لحظات تشكل هوية مصر المدنية الحديثة، وهي لحظة فشل الحملة الفرنسية في الاستمرار في مصر وتحويلها إلى امتداد فرنسي في الشرق وسحبها من دائرة التبعية للخلافة العثمانية، والأهم هنا أن هذا الفشل الفرنسي يتم الخروج منه عبر تفاوضات بين الفرنسيين والعثمانيين، الأمر الذي يجعل من الأفراد رجالاً ونساء أمام مأزق حقيقي، لأن الصراعات العسكرية يتم تسويتها ظاهريًا على الأقل بالتفاوض بين المتصارعين، لكنهم بصفتهم أفرادًا يخوضون شاءوا أم أبوا صراعات ثقافية ووجدانية لا يُعترف لهم بالحق في الانحياز لمصالحهم إذا ما تعارضت مع التصور المُهيمن في لحظة معينة لمصلحة الأمة!
الرواية فنٌ يُمكّن المتميزين من أهله أن يكتبوا تاريخ مشاعر البشر دون الوقوع في أسر التصور المُهيمن للحظة التاريخية بكل قيودها الثقافية، ومن ثم يمكنهم كتابة سيناريوهات عديدة خاضها أفراد مختلفون من أجل أن يتواءموا ويتعايشوا أو يقرروا الرحيل لأرض أخرى أو يقرروا الانتقال من تصورات لتصورات نقيضة عن الذات وعن العالم.
في "غيوم فرنسية" نحن أمام عالم زاخر بالمفارقات؛ فالمماليك غير المصريين بحكم الميلاد أخذوا يدافعون عن مصر داعمين للخلافة العثمانية الإسلامية في مواجهة الحملة الفرنسية، وفي الوقت نفسه هؤلاء غير المصريين (مماليك عثمانيين) يجورون على المصريين مسلمين ومسيحيين ليل نهار ويسلبونهم أموالهم تحت مسميات مختلفة، بل ويسلبون المصريين المسيحيين حق الدفاع عن مصر. لم يكن التشكيك في ولاء المسييحيين المصريين لحظة دخول بونابرت أرض مصر مقصورًا على المماليك والعثمانيين، فقد كان الوعي الجمعي مشكّلا على نحو يعزز هذا التشكيك ومن ثم وجد المسيحيون أنفسهم ملحقين بفريق الفرنسيين المعتدين باعتبارهم إخوتهم في المسيحية!
لنا أن نتخيل تلك التعقيدات وأثرها على تشكيل هوية طفل مسيحي وقتئذ وهو يواجه مملوك جاء مصر طفلا وصار من جنودها، ماذا لو حلم ذاك الطفل المصري المسيحي بأن يلبس ملابس المحارب ويركب الحصان ويمسك بالسلاح؟!
من هذا الموقف المُتخيل تنسج ضحى عاصي تراكمات سنوات من التمييز داخل نفس ذاك الطفل "فضل" الذي لا ينسي مقولة المملوكي له حين اكتشف أنه مسيحي يحلم بأن يكون جنديًا:"أشمل يا نصراني"!
الإقصاء أو الاحتواء سياسة ثقافية لها تبعاتها النفسية على الطفل ولا يمكن تقليصها إلى مجرد مقولة عابرة نطق بها الجندي المملوكي، أو مقولة نقيضة نطق بها القائد الفرنسي فابيان، الذي توسم في فضل أن يكون محاربا موهوبا مما جعله يشبهه بملك محارب من المصريين القدماء يقود عجلته الحربية. لذلك تتطور دلالات الاتجاه شمالاً في عبارة الجندي المملوكي الاقصائية لفضل الصبي " أشمل يا نصراني" عبر صفحات الرواية حيث نتابع رحلة فضل نحو الشمال ملتحقًا با"لفيلق القبطي" الذي أسسه المعلم يعقوب ليدعم بونابرت في مواجهة المماليك والخلافة العثمانية استنادًا لتصوره الخاص.
المعلم يعقوب موضوعًا للحجاج بين زوج وزوجة مسيحيين:
المعلم يعقوب هو الشخصية التاريخية /الروائية التي انحازت للحملة الفرنسية واستخدم ذكاءه في حماية المسيحيين في أكثر من هجمة كانت تشن عليهم من المماليك والأهالي في لحظة زمنية لم يكن فيها احتمال لحفظ الحياة دون امتلاك القوة للدفاع عن جسدك كحد أدنى للوطن الذي تنتمي إليه وينتمي إليك. أما الحد الأعلى للانتماء والولاء فلم يكن يزيد عن حماية العِرض المتمثل في الزوجة، يرصد فضل في "غيوم فرنسية" هذا السياق القاسي على النفس الإنسانية حين يقول: "هرب المماليك، الكل يهاجم الكل، الناس تخفي أشياءها، وأموالها(...) اليوم أصبح الأزميل وسراق التمساح أداتين أستخدمهما فقط لأحمي نفسي ومحبوبة"(الرواية، ص14).
في تلك اللحظة يظهر تفوق المعلم يعقوب العسكري والسياسي في نجاحه في حماية نصارى الأزبكية من موت محقق لولا حيلته في تحصين المكان والدفاع عن المسيحيين سكان هذا المكان، ومع ذلك، يختلف موقف محبوبة عن موقف زوجها من استخدام السلاح أولا، والانضمام لبونابرت للحرب ضد الأهالي والمماليك والعثمانيين. في لحظة قاسية تمر بها امرأة مصرية مسيحية كان محبوبة لازالت قادرة على الحيرة بين حائرة بين اللجوء لطلب الحماية إلى بيت زهرة ابنة الشيخ العطيفي صديقة طفولتها، أو اللجوء إلى معسكر الفرنسيين حيث تقول محبوبة وقد احتلط صوت الراوي العليم بصوتها:" القاهرة تشتعل.. يارب ارحم.. اليوم الفرنسيين في كل مكان والأهالي يحاربونهم، ولكن لماذا يدخل الأهالي بيوتنا ويستحلونها؟ حسبونا عليهم لأننا نصارى مثلهم"(الرواية ص12).
من المدهش أن تكون محبوبة قادرة على الثبات على هوية لا تزعزها الهجمة الشرسة من الأهالي والمماليك والأتراك والتي كانت تُسمى بالعكسة، وذلك على الرغم من أنها الضحية الأكثر تضررًا من تلك الهجمة، "وفي المقابل، كانت تلك الهجمة سببًا أساسيًا في التبدل الذي أصاب فضل، ليكشف عن تحول من مجرد تضرر من تمييز لفظي معتاد ثقافيًا إلى تطور يلحق بهذا الاحتقار ليكون تربة خصبة للقتل باسم الهوية الدينية أو الوطنية.
"لقد بدلتني أيام العكسة، انتبهت أن من ظننتهم أهلنا يقتلوننا ويقفون في صف الذين صارحوا بالجهاد فينا، اكتشفت أنهم لا يعتبروننا منهم، بدأت أنتبه إلى "أشمل يا نصراني، وانزل من على البغلة يا نصراني" تلك الأشياء التي اعتدتها ولم تكن تؤلمني ، الحقيقة التي كنا نتناساها حتى نستطيع أن نعيش ، لم أفهم وقتها أن من يعاملك باحتقار لن يتوانى عن قتلك في اي لحظة باسم الأرض أو باسم الله". (الرواية، ص23).
يبدو أن قرار فضل بالانضمام إلى فيلق المعلم يعقوب كان قرارًا بالانفصال الروحي بينه وبين حبيبة، وقد ترتب على ذلك الانفصال الروحي انفصالا جسديًا. فالمعلم يعقوب في نظر فضل مخلّص وحام للمسيحيين مما يحيط بهم من ظلم من المماليك والأهالي والعثمانيين وزارع لأمل فيهم بحياة أفضل في ظل حماية فرنسية لهم، وأن المسيح سوف يكافئه على نصرته للمسيحيين، بينما المعلم يعقوب في نظر محبوبة أنها تتفق مع رؤية بطريرط الكنيسة المصرية الذي رآه قبطي فاجر يتاجر بمسيحيته، وإن كانت محبوبة لا تنكر بطولته يوم عكسة الأزبكية وحمايته لأرواح المسيحيين، لكن ذلك في رأيها سيكافئه عليه المسيح، ولا يشفع له ذلك بالانضمام للفرنسيين ضد الأهالي.
وحين يتورط فضل في الاشتراك مع المعلم يعقوب تعبر محبوبة عن موقفها بتحصين جسدها من يده الملوثة بدماء القتلى. "اقتربت منها لأداعبها أبعدت يدي عنها، وقالات لا تلمسني بيدك الملوثة بدم القتلى"(الرواية، ص37). إن التقييم الديني للمعلم يعقوب وموقفه ليس وحده نقطة الخلاف بين محبوبة وفضل، فالأهم أن شهوة القتال والحرب التي اشتعلت في روح فضل الصبي وتميزه بهذه المهارة جعلت من مهارته العسكرية الفردية مركزًا لهويته المتغيرة بتغير الظروف والأحوال، فالمحارب لن يرى في موقف محبوبة سوى أنه موقف كل مسيحي يقتدي بالمسيح في تحمله للآلام. "كنت أعلم ما ستقوله لي محبوبة مسبقًا، ستقول ما يقوله كل قبطي لنفسه منذ مئات السنين، نحن طوال حياتنا نعيش والحياة تمشي وتمر، نذهب إلى كنائسنا نتاجر ونتحرك في الأسواق بحرية، لا أحد يعترضنا، لا أحد يهددنا، وما حدث (عكسة) وستنتهي وهذا قدرنا نتألم ونتحمل مثلنا مثل المسيح" (الرواية، ص22).
طبيعة المحارب شكلت هوية فضل على مر فصول الرواية، لكن طبيعة الأنثى شكلت هوية محبوبة، فكانت الفراق الجسدي بينهما مع التعلق النسبي من ناحية فضل بتغير الظروف والأحوال والتعلق التام من ناحية محبوبة لدرجة حفاظها على حمله منه بعد سفره مع المعلم يعقوب وتربية ابنه وتسميته بالاسم نفسه"فضل"، إن المرأة التي تمنع نفسها عن زوجها لحظة انضمامه لحملة بونابرت هي التي نجحت في الحفاظ على امتداد فضل في الوطن رغم الرحيل لأنها لم ترد لأبنائها أن يحرثوا أرضًا غريبة. وهنا تعيد محبوبة إنتاج ذلك الربط الثقافي بين حراثة الأرض/الوطن، وحراثة جسد الأنثى، فجسدها كان ساحة انتصاراته الوحيدة حتى جاء الفرنسيون وجعلوا من ساحة الحرب ساحة منافسة لساحة جسدها، "من وقتها لم يعد جسدها ساحة انتصاراته ولم يعد فراشها يشبع غرور المحارب الذي خلقه يعقوب بداخله"(الرواية، ص52).
إن وعي الأنثى/محبوبة بجسدها باعتباره وطنًا، وبالوطن باعتباره جسد أنثى هو الذي مكّن لها في الأرض، ومن هنا يأتي تعلقها بالوطن تعلق بوتد أشد رسوخًا من وتد فضل/الزوج، "فرض عليها فضل الله السفر معه، ولكنها رفضت، رفضت بعناد عجيب، شيء ما يربطها بتلك الأرض لا تعرفه، وتد آخر أقوى من وتد فضل الله" (الرواية، ص53).
إن هذا الوعي الأنثوي بالذات وبالوطن لا يتغافل عن رؤية الابن وهو يعبر عن وراثة شهوة الحرب من أبيه، فمع نهاية الرواية يأتي جنزال فرنسي كلفه محمد علي باشا بتأسيس جيش مصري مستقل ليخبرها بوفاة زوجها فضل الله بعد أن اصبح قائدًا كبيرًا في الجيش الفرنسي، فنجد فضل الابن يبادر بطلب الانضام للجيش، بينما محبوبة تقرأ كيف تحول العدو (الفرنسي) إلى صديق يدعوه حاكم مصر لتأسيس جيش مصر بعد أن دفعت ثمن قرار زوجها الفردي بالانضمام للفرنسيين لتتحمل وحدها مسئولية رعاية البذرة التي غرسها فضل المحارب التواق لساحة انتصارات خلاف ساحة جسدها!.