علم الدراسات المستقبلية ( (Futures studies أو Futurology) ) هو علم يختص بالمحتمل والممكن فى المستقبل، وقراءة السيناربوهات المحتملة التى من الممكن حدوثها وكيف ستؤثر إيجاباً أو سلباً؟
وتقوم هذه الدراسات المجردة (دون تحيز أيدولوجى أو شخصى) على استخلاص العبرة من الماضى بدراسته دراسة عميقة ودقيقة ومتابعة التطورات على المستويات وما ينتج عن ذلك من تأثيرات، واستنتاج التهديدات والمخاطر الناجمة، بهدف تصور وضع مستقبلي، لعقدين أو ثلاثة عقود، لتحديد الأهداف والمصالح، وذلك باستخدام النماذج الرياضية الحديثة.
ومن أبرز صور هذا العلم وضع "السناريو" وهو وصف لوضع مستقبلى محتمل وكيفية إدارته.
وهدف تلك الدراسات اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها وتفادى وقوع تلك المشكلات، وبذلك تؤدى الدراسات المستقبلية وظائف الإنذار المبكر، والاستعداد المبكر للمستقبل، والتأهل للتحكم فيه، أو على الأقل للمشاركة فى صنعه.
تقوم الدول والمؤسسات فى العالم اليوم بالاعتماد على العلوم المستقبلية فى وضع الخطط المناسبة لها فى المستقبل.
وعلى المستوى الدينى والفقهى لم يتم اعتماد تلك العلوم حتى الآن، مع أن تغيرات الواقع الحضارية قد ُتحدث هزات عنيفة لدى الفقهاء والعلماء تؤثر حتماً على المجتمع بالسلب وقد تحدثت عن بعض هذه الأمور فى مقال سابق بعنوان "التحريم الفقهى بدافع الخوف ".
وذكرت كيف يسارع بعض المعممين إلى تحريم أى جديد بدافع خوفهم على الإسلام! وهم تحت تأثير الصدمة الحضارية، ثم يحللون نفس الشيء بعد ذلك والذى قد حرموه سابقاً بدافع إظهار يُسر شريعة الإسلام.
سيناريو متكرر من مائتى عام تقريباً! كل ما تظهر فى الأفق معطيات حضارية جديدة، يتم تحريمها، ثم تصبح حلالاً بعد ما يألفونها! والعجيب بين التحريم والتحليل تساق عشرات الأدلة، ويحدث الكثير من الجدل الفقهى الذى يؤثر بالسلب على العقل الجمعى.
إن دراسة العلوم المستقبلية ستساهم فى تجريد العقل العلمى والفقهى لدى علماء الأزهر الشريف، وبالتالى سيتم تفادى هذه الصدمات الحضارية والجدل حولها دينياً وفقهياً، ذلك بأن آفة المتشرعين من قديم الزمان وإلى اليوم - إلا من رحم الله - "الإنحياز العقلى والعلمى" وعدم التجرد فى التناول.
فقد قرأت طرفاً من مؤلفات زميل فاضل يتحدث عن علماء الأزهر فى العصور السابقة ومساهمتهم العلمية، فوجدته غارقاً بعقله وشعوره وعاطفته فى الإنحياز إلى كل من سبقونا من هؤلاء العلماء وبالتالى دون قصد، برر مواقفهم وكل فتاويهم وأولها بتمحك مخالف للعلم. وسوّق لفكرة أن من سبق لا يُخطيء! ورفع شعار "من كان مؤتماً فليأتم بمن قد مات فإن الحى مفتون"!
والحقيقة أن هذا الزميل يُعانى من مشكلة خطيرة، ألا وهى "عدم التجرد" وفقد العقل االنقدى وهو يقرأ فتاوى علماء سابقين وتراثهم، ذلك بأن كل ماكتب دون (القرآن والسنة الصحيحة) فى كل العلوم من تفسير وحديث وفقه إلخ... ينبغى تناوله بعقل نقدى مجرد وليس بعقل متحيز،
وهذا نهج الأئمة الكبار. كالإمام الشافعى الذى قال: رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب.
ولو عدنا بالنظر إلى المدارس الفقهية التاريخية سنجد مدرسة الرأى فى العراق ورائدها الإمام أبى حنيفة النعمان، وكانت تقوم بتوقع ما يحدث فى المستقبل ويعبرون عن ذلك بقولهم "أرأيت لو كان كذا؟".. وكان أهل الرأى يقولون إن أحكام الشرع معقولة المعني، ومشتملة على مصالح راجعة إلى الأمة، وإن العقل يمكن ان يدركها ويدرك حسنها وقبح ضدها.
فهذا الفريق من العلماء يبحث عن العلل والمقاصد فى الاحكام ويجعل الحكم دائراً معها وجوداً وعدماً.
كما تتضمن هذه الآليات الأخذ بحقائق العلم فى حسم المختلف فيه من المسائل الفقهية الفرعية والاستناد إلى حقائق العلم أثبت من الاستناد إلى آراء العلماء، وخاصة أن الفتاوى الفقهية القديمة لها حدود فى الزمان والمكان والواقع، فإذا تغير الزمان أو المكان أو الواقع تغيرت الفتوى، كما يتغير الخطاب الدينى الوعظى والفكرى حتى يناسب العقل الجمعى المعاصر،
وفى العصر الحاضر والقادم ستتطلب الضرورة الكثير من التغيير فى آليات صناعة الفتوى، وكذلك صناعة الخطاب الدينى المناسب لمداخل الشخصية المعاصرة ومداخل الشباب، وبالتالى انتهاج نهج مدرسة الرأى فى العراق وعدم الاكتفاء بنقل النصوص فقط هو الأنسب فى العصر الحاضر.
بل لابد من دراسة مدرسة ابن رشد والاستفادة منها وتدريس الفلسفة الأخلاقية واعتمادها كنسق للتفكير الدينى.
وجميعنا يعلم المعركة الفكرية بين الإمام أبى حامد الغزالى المتوفى (505 ه - 1111 م) والإمام ابن رشد المتوفى (520 ه - 1126 م) حينما رد الغزالى على ابن رشد بكتاب "تهافت الفلاسفة"، فرد عليه ابن رشد بكتابه "تهافت التهافت"، وخُيرت الأمة الإسلامية وقتها -وكان العالم يعيش العصور الوسطى - بين الاعتماد على النقل فقط (منهج الغزالى) وبين الاعتماد على العقل والنقل (منهج ابن رشد) فاختارت النقل فقط وتجاهلت العقل وعلومه فتحولت إلى الجمود ثم تخلفت.
مع أن آيات القرآن الكريم التى تدمج المسلم فى التفكير تتجاوز 2500 آية، والآيات التى تتحدث عن الأحكام الشرعية كلها فى العبادات والمعاملات لا تتجاوز 200 آية.
وبعد ما تجاهل المسلمون منهج ابن رشد اعتمدت أوروبا منهج ابن رشد فى التفكير، وكان لذلك الفضل فى إخراجهم من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، ولا تزال الرشدية اللاتينية تدرس فى الجامعات الأوروبية حتى الآن!
وليس صحيحاً الدعاوى التى أطلقها البعض أن ابن رشد قد انسلخ من الإسلام وتجاهل أحكام السماء، وللاسف أحرقت كتبه واتهم بالردة بهذه الدعاوى الباطلة.. فهل يُمكن الاستفادة من هذه التجارب السابقة للانطلاق إلى المستقبل ومعنا النقل (القرآن والسنة الصحية) والعقل وعلومه؟..
نعم يمكن وبسهولة، وإرادة الدولة المصرية فى التجديد قائمة، والإرادة هنا متمثلة فى دعوة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية لتجديد الخطاب الدينى ودعم هذا المشروع.
ولا يزال للأسف الشديد بعض من المعممين ينتهجون نهج متهمى ابن رشد فى وصم من يحاول التجديد لوقف نمو التجديد مع سبق الاصرار والترصد.
ففى شهر مارس 2020 انتشر وباء فيروس كورونا فى مصر، وتحفظ الكثير من الزملاء على الحديث عن كيفية العبادة فى زمن الوباء!
فكتبت عدة مقالات فى النصف الأول من شهر مارس أطالب بغلق دور العبادة وتعليق الصلاة فى المساجد حفاظاً على الأرواح وتطبيقاً لهدى النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام عندما وجد خطراً محتملاً على المصلين نظراً لشدة المطر وقتها أمر مناديه ينادى فى الناس "ألا صلوا فى رحالكم".. وقال فى شأن الوباء "لا يرد مريض على مصح".
فوجئت بقيام البعض بعمل بلاغ ضدى للنيابة العامة يتهمنى بإثارة الرأى العام! وكيف أتجرأ أن أطلب بغلق دور العبادة للحفاظ على الأرواح.. وقامت النيابة بحفظ الشكوى دون التحقيق فيها لأن الإدعاء فى غير محله، كما قامت الحكومة المصرية بغلق دور العبادة لعدم انتشار العدوى فى 21 مارس 2020.
كما أصدر الأزهر الشريف بياناً يؤكد ضرورة غلق دور العبادة للحفاظ على الأرواح.
أسوق ذلك للتأكيد على مقاومة بعض المعممين والذين هم فى صفوفنا لسرعة التجاوب مع التغيرات بما يناسبها ولا يتجاوبون إلا إذا فُرض عليهم التجاوب، بل يحاربون من يفعل ذلك.
كما قمت من عدة أسابيع بكتابة مقال عن الميتافيرس والتدين.. وما هو التأثير المتوقع على أخلاق الفرد والأسرة بعد شيوع استخدام الميتافيرس؟.. وهل الميتافيرس له تأثير سلبى على الولاء العقائدى والوطنى؟.. وإذا كان الأمر كذلك ما هى الحلول المقترحة لتفادى تلك المخاطر؟.. وكيف ستكون صورة مواجهة الإرهاب فكرياً بعد شيوع هذا العالم الافتراضى الجديد؟.. وبالتالى كيف ستكون صناعة الفتوى؟.. وكيف سيكون إنتاج خطاب دينى مناسب للعقل والعاطفة على تطبيق الميتافيرس؟.. وهل قمنا بالاستعداد لذلك؟
ومن هنا تكمن أهمية دراسة العلوم المستقبلية ووضع السيناريوهات والتوقعات والحلول المقترحة لتفادى المخاطر أو تقليلها.
فالتجديد بالآليات القديمة القائمة على رد الفعل للأحداث والبطيء فى التجاوب معها، وإثارة الجدل الفقهى والدينى، وإصدار الكتب بلغة متقعرة، وإقامة المؤتمرات، إلخ... لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولن يكون ذلك مجدياً مع هذا التطور الحضارى السريع والمعقد؛ ولذلك أقترح الآتى:
- حفاظاً على تجرد العقل العلمى الدينى الصانع للفتاوى المعاصرة، وأيضاً المنتج للخطاب الدينى المناسب، لابد من تدريس العلوم المستقبلية فى كليات أصول الدين والدعوة والشريعة واللغة العربية والدراسات الإسلامية، وتدريب الطلاب على صناعة السيناريو وكيفية التجاوب مع السيناريوهات المختلفة.
- تدريب أئمة المساجد والوعاظ على كيفية الاستفادة من العلوم المستقبلية فى الفتوى والخطاب الدينى.
- ضرورة وجود متخصصين فى الطب النفسى وعلم الاجتماع خاصة وكل العلوم الإنسانية عامة جنباً إلى جنب مع علماء الدين وخاصة عند الفصل فى فتاوى جديدة أو وضع سياسات لتجديد الخطاب الدينى.
بل بات ضرورياً انضمام العلماء المتخصصين فى العلوم الإنسانية إلى لجان وهيئات الفتوى وصناعة الخطاب الدينى، لأنهم وحدهم قادرون على وضع تصور علمى وواقعى لكل مسألة يراد تناولها دينيا، كما سيضعون تقاريرهم العلمية بشأن المصالح والمفاسد! والتى على أساسها تتم معرفة الأحكام الخمسة (الإباحة والحرمة والكراهة والاستحباب والوجوب) وبالتالى لم يعد يُجدى رجوع العالم الدينى للقواعد الفقهية وأصول الفقه فقط عند البت فى أى مسألة.
إنما لابد من وضع الإطار العلمى أولاً ثم الإطار الفقهى أو الوعظى بعد ذلك، وقد تحدثت عن ذلك بشيء من التفصيل فى مقالى "الحلال والحرام فى الخنزير".
إن دراسة العلوم المستقبلية كإطار دينى ضرورة واقعية بل وضرورة دينية للأسباب التى سبق ذكرها، وستعمل على تجرد العقل عند تناول أو مسألة، كما ستساهم فى الاستعداد للمستقبل.. فهل من مجيب؟
والله المستعان