السبت 1 يونيو 2024

ستى أم محمود.. وإحسان عبدالقدوس

16-6-2017 | 12:56

لا يمكن أن تنسى الذاكرة يوم الخامس من يونيه من عام ١٩٦٧ كنا أطفالا صغارا، شقيقتى الكبيرة هالة وأنا وكانت المدرسة بالنسبة لنا هى شيء أشبه بالسجن الحربى والمدرسون هم المعذِّبون الذين تتكسر عظامنا بمساطرهم، والدروس هى من نوع التأديب والتهذيب والإصلاح بالعافية، فلا نحن فهمنا شيئا، ولا استفدنا أى معلومة من المواد المهببة التى كنا ندرسها فى المدرسة الابتدائية الخاصة، والمادة الوحيدة التى أحببناها هى مادة التاريخ، لأن فيه حكيا وأبطالا وأساطير وحروبا ومماليك وامبراطوريات كنا نعيشها فى خيال مخملى..

 

أما حراس المدرسة فقد كانوا هم حراس السجن بأسواره  العالية.. كنا ندعو الله فى كل يوم أن تقوم كارثة تحط فوق مدرستنا وحدها، فتقتلع الأسوار من جذورها، وتهدم الفصول حتى ولو على رؤوسنا جميعًا؛ لنتخلص من الدروس ومن المدرسين، والحق أقول إن المتعة الوحيدة والمكان الذى كان أقرب إلى قلوبنا هو الملعب، حيث كنا نمارس فنون كرة القدم وأيضًا طابور الصباح، حيث كنا نؤدى التحية العسكرية لتمثال جمال عبدالناصر مع أن أحدا لم يطلب منا ذلك، ولكن جمال كان وحتى بالنسبة لنا كأطفال شخص له سحر سكن القلوب.. وذات يوم انطفأت أنوار القاهرة التى كنت أسمع من عمى سعيد صالح رحمه الله أنها أجمل بلدان الدنيا دى كلها.. وأسأله ليه يا عم سعيد.. يقول أنا سافرت بلاد كتير مافيش ناس سهرانة ولا عندها صالونات ولا مسارح ولا قهاوى ولا محلات بتسهر للصبح زى بلادنا.

وكان السعدنى الكبير محمود الولد الشقى رحمه الله يعتبر الجيزة هى أصل الكون، ولهذا أحببنا هذه المحافظة العجيبة من أرض مصر، ولكن شيئا واحدا فقط كنا نبادله كرها بكره، وهى مدرسة أبو الهول القومية الخاصة التى تقع قبل نفق الهرم مباشرة.. وذات يوم انطفأت أنوار القاهرة كما قلت.. وكانت ستى أم محمود تزورنا ولم نفهم شيئًا على الإطلاق، لماذا طلبوا من الناس أن يطفئوا كل الأنوار، وأن يصبغوا الشبابيك وفوانيس السيارات بالزهرة البيضاء، ولكن الأمر أعجبنا فقد تحولت الصورة إلى ما يقرب من الحلم.. وارتفع الحلم حتى بلغ أقصى الأمانى، فلا مدارس بعد اليوم.. اللهم صلى على النبى.. هو فى إيه يا جدعان،، وأصدر السعدنى الكبير فرمانا أسعد قلوبنا، فقد منع ستى أم محمود من العودة إلى منزلها، وهو المنزل الذى تربى فيه السعدنى الكبير، وشهد ميلاد كل عماتى رحمهم الله وأيضًا عمى الجميل صلاح.. كان البيت يحتل مكانًا رائعًا فى حارة سمكة، وهى غير حارة سمكة التى يظن بلال فضل الموهوب الجميل أنها حارة السعدنى.. حارة سمكة التى عاش فيها السعدنى فى مكان قريب من شارع سعد ومن السوق ومدرسة العهد المنير.. وكانت ستى أم محمود إحدى نوادر الحياة، إذا فتحت فمها بالكلام لا تنتهى من سرد الحكايات والروايات التى يستمع إليها الجميع بإنصات لجميل السرد وتركيب الحكايات بحيث تنتهى بإيفيهات غير متوقعة نظل نضحك لها كلما تذكرناها .. وكانت ستى رحمها الله من معالم الجيزة عندما قرر السعدنى أن تبيت معانا.. انتابنا شعور من السعادة لا مثيل له، وهو على نقيض ما كان لدى ستى الحبيبة، فهى تربى فوق سطح بيتها أسرابا من الفراخ والبط والأوز، وهى كل رأس مالها فى الحياة وكل ثروتها.. ظلت تولول طوال الليل وتسأل السعدنى عن السر وراء هذه الأشياء التى لا يفهمها أحد اللون الأزرق والظلام الذى يخيم على البلد بأكملها.. والفرمان العجيب بأنها لن تخرج إلى بيتها.. ولم يكن هناك رد من السعدنى الذى كان فى ذلك الوقت ـ لم نكن نعلم- يشغل منصبًا رفيعًا فى التنظيم الطليعى فى الجيزة.. وترددت كلمات عجيبة على الأذن فى تلك الفترة، وبدأ كل الناس من حولنا يقولون نفس الكلمة.. نكسة.. نكسة.. نكسة .. ولم نفهم شيئًا ولكن تصورنا أنها نفس الكلمة التى كانت ستى أم محمود ترددها على الدوام، إلهى تتوكس يا بعيد.. وتتوكس من الوكسة.. بعيدًا عن السامعين وكانت المرة الأولى التى أسمع فيها هذه الكلمة، كانت ستى تدعى بها على عمنا الكبير إحسان عبدالقدوس بسبب روايته “لا تطفىء الشمس”، فعندما اختاروا العم صلاح ليلعب دور ممدوح.. الذى مات قبل أن ينتهى المسلسل، ومن هذه اللحظة لم تهدأ ستى أم محمود ولم تتوقف لحظة عن الدعاء على عم إحسان..