نحن أمام تيارين تأويليين لتفسير كيف نشأت الفلسفة اليونانية: الأول يزعم أن الفلسفة اليونانية ظهرت بدون سابق إنذار وأنها لا تدين بانبثاقها المبدئى لشيء قبلها، ولذلك يسمونها بالمعجزة.
والمعجزة تعنى إتيان الخوارق وترتبط أكثر ما ترتبط بالأنبياء والأولياء والسحرة، هذا الرأى اللاعقلانى هو ما جر البعض لتفسير النشأة بنظرة عنصرية مقيتة، تبناها العديد من المؤرخين من أمثال الفرنسيان آرثر دى جوبينو وإرنست رينان، والألمانى لودفينغ فولتمان والانجليزى هيوستن ستيورات تشامبرلين والهولندى دى بور الذين حسموا بسذاجة أفضلية الجنس الآرى الغربى على الجنس السامى الشرقي، والأفضلية عندهم ترتكز على أن العقل يسكن العرق الآرى الغربى فيجعله ينتج الفكر والعلم معًا، بينما الجنس السامى الشرقى لا يسكنه إلا العواطف فلم ينتج سوى الشعر والدين!
هذه النظرة العنصرية البغيضة المتهافتة يمكن قصفها بمنتهى البساطة لتنزاح بعيدًا عن علم التاريخ وتسقط من أذهان الجميع.
حيث تذكر كل المراجع التاريخية المعتبرة بأن طاليس (٦٢٣- ٥٤٦ ق.م) الذى هو أول فيلسوف فى التاريخ ينحدر من أصول ڤينيقية سامية شرقية!
كما أن العلم الحديث والمعاصر ابتداء من داروين يذكر أن جذور البشرية تنبع من أصول موحدة تقريبًا وبالتالى فالتفرقة على حسب العرق أو اللون لا أساس لهما، بينما علم البيولوجيا الحديث أكد مرارًا وتكرارًا على اختلاط الجينات البشرية وامتزاجها بعضًا ببعض وأن الفصل العنصرى بين الأجناس البشرية ليس من العلم فى شيء بل هو ابتداع بشرى يستند على ميزان القوة لا على متانة العقل وتجرد العلم.
أما الاتجاه الثانى فى تأويل نشأة الفلسفة اليونانية فيقول به البعض إما همسًا وتلميحًا وإما جهرًا وتصريحًا، وهو الزعم بأن الفلسفة اليونانية قامت بسرقة تراث الحضارة الفرعونية المصرية القديمة، إن هذا القول قد يتبناه البعض منا كعرب بدافع من اشتعال الحماسة الوطنية أو قد يكون باعثه العرق القومى الملتهب، وتلك نظرة عنصرية هى الأخرى.
لقد قام الكاتب الأمريكى جورج جيمس بتأليف كتابه الشهير (التراث المسروق) زاعمًا بلا أدلة دامغة على أن اليونانيين القدماء قد سرقوا تراث الحضارة الفرعونية كما سرق أرسطو كل كتب مكتبة طيبة والاسكندرية ونحلها لنفسه!
ونحن هنا لابد لنا من الاعتراف بعظمة الحضارة المصرية القديمة وأنها هى التى أنتجت للعالم أجمع أول حضارة بشرية عرفها التاريخ وأهدته الضمير والدين وشكل الدولة الحديث، لكننا بنظرة فاحصة محايدة نقول بأن الحضارة الفرعونية لم تكن تعرف الفلسفة بشكلها اليونانى القديم الذى ظهر، لأن التعاليم الفرعونية كانت مسيجة داخل سياج المعابد الكهنوتية ولم تخرج للعلن ولا للناس كما يقول د الطيب بوعزة فى كتابه الرائع (تاريخ الفكر الفلسفى الغربي: رؤية نقدية ج١)، فقد كانت هناك شروط قاسية لمن يريد الالتحاق بالتعليم الكهنوتى منها مروره بمراحل اختبار ثلاثية تمتد الواحدة لسنوات وسنوات، كما كان على المريد والذى سيصبح أخًا كهنوتيًا ألا يخرج أى شيء من هذه التعاليم السرية لخارج المعبد وإلا عوقب أشد العقاب.
إن الأفكار تموت كالزهرة الذابلة إن لم تجد لها محيطًا راعيًا وحوارًا مجتمعيًا يطورها وينميها ويستنبط منها أفكارًا جديدة، والعلوم الانسانية -والفلسفة فى القلب منها - بطبيعتها علوم تراكمية يبنى تاليها على سابقها بعكس العلوم الأخرى (الطبيعية) التى ما إن تثبت فرضية رياضية أو فيزيائية حتى يتم إلقاء الفرضية السابقة لها فى سلة التاريخ دون حاجة العودة إليها، ولذلك فالعلوم الطبيعية تقوم بعمل ما يعرف بالقطيعة المعرفية مع أفكارها الأولية، ومن هنا يمكن فهم مقولة أن تاريخ العلوم هو تاريخ الأخطاء!
ولابد لنا من ذكر شيء مهم وواقعى عن نشأة الفلسفة اليونانية هو المثاقفة مع الحضارات الأخرى والذى هو عامل رئيسى فى التأثير والتأثر واكتشاف معارف جديدة قد يستلهمها عقل فذ ويستنبط منها ما لم يستطع مجتمعها الأصلى أن يستنتجه.
إن الخريطة الجغرافية اليونانية القديمة تشير إلى أنها كانت تتكون من حوالى ستة آلاف جزيرة منفصلة، كل جزيرة كانت بمثابة دولة دون حكومة مركزية تربط هذه الجزر المتناثرة ببعضها، ولأن طبيعة التربة الزراعية لم تكن بالخصوبة المنتظرة فقد اتجه اليونانيون القدماء إلى التجارة البحرية مما أدى إلى الاختلاط بالحضارات الأخرى كالحضارة المصرية والبابلية والصينية وحتى مع الحضارة الهندية وإن كانا تزامنا فى النشأة والتطور.
لقد زار كثير من الفلاسفة اليونانيين مصر ودرسوا وتعلموا بها وربما علموا بعض أسرارها من أمثال طاليس، ديمقراطيس، فيثاغورث وأفلاطون، وعندما عادوا لبلادهم التى كانت قد ظهرت فيها الديمقراطية قاموا بالاشتغال بالفكر فى ظل بيئة حاضنة للحرية وللأفكار ليس بشكل مطلق ولكن بشكل جزئي، فوجدت أفكارهم صدى كبير بداخل كل عقل يوناني، فتنافست العقول والأفهام لإبداع ما عرف لاحقًا بالفلسفة، ولأن الفلسفة كما ذكرنا علم تراكمى بدأ طاليس بناء لبنته الأولى وسرعان ما تصاعد البناء طابقًا طابقًا حتى اكتمل شكل الفلسفة الكلاسيكية اليونانية على أيدى سقراط وأفلاطون وأرسطو، فهل يعقل أن هذا التفاعل والحراك المتتالى لفكرة تنقض سابقتها كان مسروقًا بالكلية! نحن أنشأنا أول حضارة فى التاريخ ويجب أن نفخر بذلك لكن لم يكن لدينا فلسفة وهذا لا يعيبنا ولا ينقص من قدر حضارتنا الفرعونية المدهشة.