مشدودون نحن للماضي بوثاق لا ينفصم أبدًا! يلهو بنا كالدمية بين يديه، فيحركنا يمينًا ويسارًا تارة وللأعلى والأسفل تارة أخرى، يطوف بنا الأنحاء الأربع للكرة الأرضية ولا يترك لنا متنفسًا لدراسة حاضرنا واستشفاف مستقبلنا.
يولد الطفل منا وعينه مثبتة على والديه وإخوته- محيطه الضيق- وتصبح كل أحلامه هو تكرار ما يقولونه وفعل ما يفعلونه، وتمنحه الأسرة الهدايا لمجرد أنه نطق مثلهم وتمثل بأفعالهم، هديتهم كانت للمباركة علي تحوله لمسخ مقلد لهم.
وعندما يكبر الطفل نسبيًا نبدأ بتلقينه الوصايا الألف عن جمال الماضي وروعة الأقدمين وطلاوة وحلاوة التراث، أما إذا بدأ المراهق في ترديد أسئلته الوجودية الذاتية المتفجرة بصدره يكون الجواب نهره عن ذاك الطريق، طريق من يذهب إليه يا ولداه لا يعود أبدًا!
يشب الشخص علي التقليد ويبحث له كأسلافه عن مثل أعلي في الماضي يتمسح به ويحاول تكرار نموذجه.
ولا يعطي التعليم الذي نتلقاه فرصة لتكوين شخصية مغايرة إلا فيما ندر، تخرج لنا المنظومة التعليمية أشخاص متشابهون مكررون منسوخون ممن قبلهم وهم ذاتهم سيستنسخون فيمن بعدهم.
لماذا نفترض دائمًا أن الماضي كان أفضل؟
وأن أجدادنا كانوا يحملون جينات الرجولة والعظمة والأمانة والخلق القويم وبوفاتهم انقطعت تلك الجينات واختفت وأبت أن تحل بأحفادهم؟
كل شيء في حياتنا يجذبنا جذبًا للماضي فنصير مقلدين، بل إن كل فرد فينا يبحث له عن قبر يحكمه!
نعم، نحن تحكمنا القبور وتسيطر علي كل جنبات حياتنا، قبور لرجال دين أو فكر أو سياسة أو حتي ترفيه وتسلية، نتخذهم لنا قدوة ونمنحهم مفاتيح حياتنا بأكملها فيسيرونها علي هواهم، يتحكمون بملبسنا ومأكلنا ومشربنا، يسيطرون علي عقولنا وياللغرابة فالأموات هم من يفكرون لنا، بعثنا في عقولهم وأرواحهم الحياة، علها حياتنا نحن، منحناها لهم بكل رضا واعتقدنا أننا أزلنا عن أنفسنا عبء الحياة ذاتها.
لماذا نفكر وطه حسين قد فكر لنا! لماذا نشرع في الدين بما يتلاءم مع عصرنا وواقعنا وقد أغلق علينا البخاري والأئمة الأربعة من قبورهم كل المنافذ، لماذا نكتب الشعر بإحساسنا وقد تكفل الشعر الجاهلى باستنفاد كل أعراض الشعر، لماذا نطرب لقطعة موسيقية جديدة وقد سدت موسيقي عبد الوهاب الآذان.
ابتلعنا الماضي وتراثه حتي كدنا نختفي، الحاضر لا قيمة له والمستقبل غامض لا حاجة لنا في رسم مسالكه، جميعنا يحن لذكرياته الماضوية، ويجلس الساعات متباكيًا علي لحظات الجمال التي كانت ولن تتكرر.
أما ما يقال ومللنا من قوله عن محاولة التجديد بدمج الأصالة مع المعاصرة فهو قول مخادع ولا يمكن لأي حضارة تنوي أن تتقدم وتتطور أن تتمسك به، الأصالة ذاتها أحد تعريفاتها أنها الذوق المنافي للعصر! فكيف بالله عليكم ندمج ما لا يدمج.
أزعم أن طبيعة تكوين عقولنا بها شيء خاطئ، الزمن ذاته غير فاعل في نشاطاتنا الذهنية، نحن نمارس حياتنا بشكل معكوس، عقولنا وأرواحنا مشدودة بقوة جذب وهمية مصطنعة للماضي وللتقليد وللتراث وللأسلاف، والحاضر في نظرنا قبيح ممجوج منحط أما المستقبل فبيد الله لا حاجة لنا في التفكير فيه!
نحن نكره التفكير كراهية التحريم كما يقول د إمام عبد الفتاح إمام وأحد استدلالاته بأن الأم المصرية عندما تريد أن تدعو لابنها تقول له " ربنا يبعد عنك الفكر "، وأن كلمة " بلاش فلسفة" المتفشية في كل الأوساط عاليها وسافلها المقصود بها "بلاش تفكير".
إذا كان لنا أن نحارب شيئًا ما من أجل تطورنا فبالتأكيد سيكون علي رأس أولوياتنا محاربة تلك الذهنية التراثية السلفية، ولن ننجح في ذلك إلا بإنشاء منهج جديد يكون قوامه الرئيسي الإيمان بقدراتنا ووجودنا ووعينا والاقتناع الكامل بحريتنا المطلقة في بناء مستقبلنا دون أن يشاركنا فيه أصحاب القبور مع كامل احترامنا ومحبتنا لتاريخهم!
يقول "براترند راسل" إن البعض يفضل الموت على التفكير، فهل كان "راسل" يشير إلينا بعبارته تلك!