بقلم – عبدالقادر شهيب
للمرة الثانية فى غضون أسابيع قليلة يضطر البنك المركزى لرفع أسعار الفائدة بنسبة ٢ ٪ هذه المرة على الودائع والقروض، والهدف هو الحفاظ على سعر الجنيه المصرى تجاه العملات الأجنبية للسيطرة على معدل التضخم المرشح للزيادة مجدداً بعد قرار الحكومة بزيادة أسعار البنزين والسولار والبوتاجاز والغاز وبقية المنتجات البترولية، والذى أعقبه قرار آخر بزيادة أسعار الكهرباء.
والبنك المركزى والأدوات الرئيسية التى يملكها فى إدارة السياسة النقدية تتمثل فى أسعار العملة الوطنية وتحديد أسعار الفائدة، فضلاً عما يحتفظ به من احتياطات ضرورية للنقد الأجنبى.. وبعد تعويم الجنيه لم يعد البنك المركزى يستخدم أداة تحديد سعر العملة الوطنية، لأنه ترك ذلك لآلية العرض والطلب عليها وعلى العملات الأجنبية الأخرى، وبالأخص الدولار الأمريكى.. ومنذ أن أعلن البنك المركزى تعويم الجنيه فى بداية شهر نوفمبر الماضى عام ٢٠١٦ لم يتدخل فى سوق النقد بائعا أو مشتريا للنقد الأجنبى ليؤثر على سعر الجنيه أو العملات الأجنبية.. وحتى عندما انخفض سعر الدولار الأمريكى قليلاً مؤخراً كما حدث قبل بضعة أشهر مضت لم يكن ذلك ناجما عن دور ما للبنك المركزى، وإنما نجم عن زيادة المعروض فى النقد الأجنبى، خاصة الدولار الأمريكى وتراجع الطلب عليه فى هذه الفترة، وهو كما أوضحه عدد من رؤساء البنوك العاملة فى مصر.. ولذلك صارت آلية سعر الفائدة على ودائع وقروض البنوك آلية أساسية لدى البنك المركزى يستخدمها الآن فى إطار إدارة السياسة النقدية للبلاد، خاصة بعد أن راكم زيادة فى احتياطيات النقد الأجنبى حصيلة تتجاوز لأول مرة منذ الانخفاض الذى تعرض له بعد ٢٥ يناير ٢٠١١٣١مليار دولار، وإن كان الأغلب الأعم من هذا الاحتياطى يمثل ودائع لدول عربية لدى البنك المركزى وحصيلة سندات دولارية طرحها البنك المركزى فى السوق العالمية.. وهكذا عاد البنك المركزى مجدداً لاستخدام هذه الآلية ورفع الفائدة على الودائع والقروض بنسبة ٢ ٪ ليقترب بها إلى ضعف ما كانت عليه قبل سنوات قليلة.
ويستهدف البنك المركزى برفع سعر الفائدة تحقيق هدفين... الأول امتصاص السيولة النقدية الموجودة خارج الجهاز المصرفى إلى داخله بإغراء أصحاب المدخرات بالفائدة المرتفعة، وهو ما سيترتب عليه تخفيض الطلب على السلع والخدمات، وتقليل الاستهلاك، وبالتالى يسيطر على زيادة أسعار هذه السلع والخدمات، فلا يتجه معدل التخضم للارتفاع بشكل منفلت أو غير منضبط.. أما الهدف الثانى فهو زيادة الطلب على الجنيه المصرى الذى يحقق الاحتفاظ به فى ودائع بالبنوك عائداً كبيرًا بالقياس بالعائد الذى يمكن أن يحققه الاحتفاظ بالنقد الأجنبى، وخاصة الدولار الأمريكى. فالفارق الآن كبير وضخم ما بين الفائدة على الجنيه قرابة ٪١٩ والفائدة على الدولار الأمريكى حوالى٥ -٣ ٪ وهو فارق يغرى أصحاب المدخرات بالدولار لتحويلها إلى الجنيه للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع.. وبالتالى يقل الطلب على الدولار وتجديد المعروض منه، كما سوف يؤدى إلى تحسن قيمة الجنيه المصرى تجاه الدولار الأمريكى وبقية العملات الأجنبية.
هذا عن الفوائد أو الآثار الإيجابية لرفع أسعار الفائدة كما قررها البنك المركزى بنسبة .٪٢ غير أن ذلك مرهون بأن تستجيب البنوك العاملة فى مصر لهذا القرار وتتجه إلى زيادة أسعار الفائدة المعمول بها لديها خاصة على الودائع لتسهم فى امتصاص السيولة المالية من السوق المصرية، وهو ما يلاحظ بعض الخبراء الاقتصاديين أنه لم يحدث فى المرة السابقة التى قرر فيها البنك المركزى زيادة أسعار الفائدة قبل عدة أسابيع مضت..
وحتى إذا استجابت البنوك لقرار البنك المركزى واستحدثت أوعية ادخارية جديدة بفائدة مرتفعة، فإن ذلك وإن حقق الهدف الذى ينشده وهو امتصاص السيولة النقدية فى إطار السيطرة على التضخم، فإن لقرار رفع الفائدة تأثيراً سلبياً فى المدى الطويل على التضخم.. فإذا زادت أسعار الفائدة على الودائع فإنها سوف تزيد بالضرورة على القروض وزيادة الفائدة على القروض سوف تترجم فى نهاية المطاف إلى زيادة فى تكاليف إنتاج السلع وتقديم الخدمات، وهذه التكاليف الزائدة لن يتحملها المنتجون أو المستثمرون، وإنما سوف يحملونها بالطبع للمستهلكين فى شكل زيادة فى أسعار السلع التى ينتجونها وأسعار الخدمات التى يقدمونها، مع العلم أن السوق المصرى يعانى من ظاهرة زيادة الأسعار بالعدوى، حتى وإن كانت التكاليف ثابتة ولم يطرأ عليها تغير يذكر، فقد أضحت زيادة الأسعار وسيلة الجميع لتعويض أى نقص فى دخولهم الحقيقية فى ظل ارتفاع معدل التضخم على النحو الذى نعانى منه حالياً.
والمؤكد أن البنك المركزى يدرك، ذلك لأنها من البديهيات الاقتصادية التى يدرسها دارسو علم الاقتصاد.. ولذلك يقتضى الأمر مفاضلة بين العديد من الخيارات والبدائل تشمل قرار زيادة أسعار الفائدة، ومعدل الزيادة.
والفترة التى سيتم العمل فيها بهذه الزيادة، ولعل ذلك يفسر لماذا أعلن البنك المركزى أن الزيادة فى أسعار الفائدة هى لفترة مؤقتة ومحددة، بما يفيد أنه سيتم مراجعة أسعار الفائدة مستقبلا، أو أنها سوف تشهد انخفاضاً مستقبلا عندما يجد خبراء البنك المركزى أن سلبيات قرار رفع الفائدة زادت عن إيجابياته، حتى لا يزيد الركود الذى يعانى منه الاقتصاد المصرى والذى يكبح جماح معدل النمو الاقتصادى الذى تسعى الحكومة إلى زيادته العام المقبل عن٪٤، خاصة أننا نحتاج لمعدل نمو اقتصادى لا يقل عن ٪٧ ولفترة ليست قصيرة حتى ينصلح اقتصادنا، وبالتالى تتحسن الأحوال المعيشية للمواطنين.
لكن..
ليس برفع أسعار الفائدة وحدها تتم السيطرة على التضخم.. هناك وسائل وآليات أخرى ليست فى حوزة البنك المركزى ولا تتدخل فى نطاق اختصاصاته يجب أن نستخدمها للسيطرة على التضخم.. فهى آليات مالية واقتصادية وليست نقدية، ويتعين أن تلجأ إليها من يديرون شئون اقتصادنا الوطنى، جنباً إلى جنب مع الآليات النقدية التى يستخدمها البنك المركزى وبالتنسيق معه، حتى لا تؤثر آلياته على ما تسعى الحكومة لتحقيقه وتحديدا فيما يتعلق بزيادة الاستثمارات لزيادة معدل النمو الاقتصادي.. ونحن نتذكر كيف أن البنك المركزى قام بتعويم الجنيه المصرفى فى وقت كان يتعين أن يصاحبه فيه قرارات مالية واقتصادية من قبل الذين يديرون اقتصادنا فى مقدمتها تخفيض إنفاقنا من النقد الأجنبى بتخفيض وارداتنا من الخارج وتنشيط الاستثمارات الجديدة وإزالة العقبات أمام من يريدون توسيع استثماراتهم القائمة وتنشيط الصادرات وحل مشاكل المصانع المغلقة.. ولأن ذلك لم يحدث فى حينه انخفض الجنيه المصرى بعد التعويم بنسبة فاقت المائة فى المائة ليصل الدولار إلى أكثر من ١٨ جنيهاً، بينما كانت تقديرات البنك المركزى وصندوق النقد الدولى تتوقع أن يتراوح الدولار ما بين ١٤ ، ١٦ جنيها.
إن مهمة مواجهة التضخم هى مهمة الحكومة مثلما هى مهمة البنك المركزي.. بل إنه فى حالتنا الاقتصادية الراهنة هى مهمة الحكومة قبل أن تكون مهمة البنك المركزي.. فنحن لا نعانى تضخماً عادياً وإنما نشكو من ركود تضخمي.. أى اقتران التضخم بالركود.. وبالتالى لابد من مواجهة هذا الركود أساسا، لأن مواجهة الركود ستفيدنا فى مواجهة التضخم.. وهذه المواجهة تقتضى زيادة الإنتاج.. وزيادة الإنتاج تحتاج لزيادة الاستثمارات وزيادة المدخلات المصرية فى الإنتاج، سواء كان إنتاجاً صناعياً أو زراعياً أو حتى تربية دواجن ومواش.
عندما سيزيد الإنتاج المصرى سوف يزيد المعروض من السلع والخدمات وبمعدل أكبر عن زيادة الطلب عليها سوف نسيطر على التضخم وسوف تتوقف الأسعار عن الارتفاع.. صحيح أن الحكومة وبعض المؤسسات العامة تعمل على طرح كميات من السلع الأساسية، خاصة الغذائية بأسعار أقل من مثيلاتها فى الأسواق، إلا أن تأثير ذلك سوف يظل محدوداً ما دام إنتاجنا لا يزيد بمعدلات كبيرة ومؤثرة تناسب أو تتجاوز الزيادة فى الطلب على السلع والخدمات، ولكن قبل ذلك لابد وأن تقوم الحكومة بواجبها فى إصلاح الخلل الذى يعانى منه السوق المصري، والمتمثل فى سيطرة الاحتكار عليه.. إن كل سلعة تنتج فى مصر وكل سلعة يتم استيرادها وكل سلعة يتم الاتجار فيها يسيطر عليها عدد محدود أو حفنة صغيرة من المحتكرين.. وهذا هو الذى جعل أسواقنا تنفرد دون غيرها من أسواق الدول الرأسمالية، سواء الكبيرة أو الصغيرة بارتفاع هائل فى هوامش الربح.. إن متوسط هامش الربح لدينا فى المتوسط لا يقل عن ٪١٠٠ بينما هامش الربح السائد فى أسواق الدول الرأسمالية يتراوح ما بين ٪٢٥ -٢٠ وهكذا، بينما يراكم هؤلاء المحتكرون أرباحاً ضخمة وهائلة يعانى المستهلكون من وطأة غلاء فاحش وتضخم مجنون وارتفاع متفلت فى الأسعار.
وحتى الآن لم تتخذ الحكومة أو من يديرون اقتصادنا الوطنى خطوات جادة للتصدى لهذا الاحتكار الذى ينشب مخالبه فى اقتصادنا وعطل عمل آلية العرض والطلب وجعل اتجاه حركة الأسعار لدينا واحدا وهو اتجاه الصعود.. فالأسعار ترتفع لدينا سواء زاد المعروض من السلع أو انخفض عن الطلب.!
ومواجهة الاحتكار ليست ذات طبيعة تشريعية فقط.. أى من خلال إعادة النظر فى قانون المنافسة ومنع الاحتكار لتغليظ العقوبة على المحتكرين وسد الثغرات القانونية التى يستغلونها.. قبل ذلك يجب أن تعمل الحكومة على زيادة قاعدة المنتجين بإزالة العقبات الإدارية التى تعترض انضمام منتجين جدد لقائمة المنتجين الكبار للسلع والخدمات، وزيادة قاعدة المستوردين خاصة للسلع الأساسية التى تحتاج لاستيرادها من الخارج، خاصة السلع الغذائية ووقتها لن يكون البنك المركزى مضطراً لزيادة أسعار الفائدة على هذا النحو.