الثلاثاء 29 يوليو 2025

مقالات

من أدبيات ثورة 23 يوليو


  • 23-7-2025 | 13:03

د. إبراهيم خليل إبراهيم

طباعة
  • د. إبراهيم خليل إبراهيم

يوم الأربعاء 23 يوليو عام 1952، وحسب جدول العمل بقسم المذيعين، كان فهمي عمر هو المذيع الذي سينفذ فترة الصباح من البرامج.

وقد بدأت ثورة 23 يوليو فجر ذلك اليوم، وكان الإرسال صباح كل يوم يبدأ في الساعة السادسة والنصف، وبالتالي كان لزامًا على فهمي عمر التواجد في استوديوهات الإذاعة حوالي الساعة السادسة صباحًا.

وأثناء ذهابه إلى الإذاعة، وفي شارع الشريفين، استرعى انتباهه الحصار المفروض حول مقر الإذاعة من رجال الجيش. وعندما حاول دخول الشارع، استوقفه ضابط من القوات المسلحة برتبة ملازم ثان، ولما عرفه بنفسه رحب به وصعد معه سلالم المبنى إلى أن وصلا إلى استراحة المذيعين، حيث كان يجلس البكباشي (أي المقدم) محمد أنور السادات. فعرفه على الفور، لأنه كان ملء السمع والبصر، وقرأ عنه الكثير، وأدرك فهمي عمر أن الضباط والجنود الذين ملأوا جنبات الإذاعة والشوارع المحيطة بها، جاءوا من أجل تحقيق الحلم الذي داعب خيال الشعب المصري سنوات طويلة، وهو جلاء المستعمر والقضاء على فساد الملك والأحزاب.

قال المقدم محمد أنور السادات للإذاعي فهمي عمر: هناك بعض التعديلات على برامج الإذاعة، وأنه سيقوم بإلقاء بيان عبر الميكروفون عقب بدء الإرسال مباشرة. ولم يتردد فهمي عمر لحظة واحدة في تلبية الطلب، وقال لأنور السادات: سأقول بعض الكلمات التي نحيي بها المستمعين.

دخل السادات الاستوديو، وكان يعتزم إذاعة البيان بعد المارش العسكري الذي يعقب افتتاح المحطة، والذي كان ينتهي في السادسة واثنتين وثلاثين دقيقة. ولكن علم فهمي عمر من المهندسين أثناء إذاعة المارش العسكري بأن الإرسال قد قُطع من محطة أبو زعبل. ولمّا علم السادات، خرج من الاستوديو وأبلغ الموقف للقيادة، وواصل فهمي عمر تقديم فقرات البرنامج اليومي وفقًا للمواعيد، رغم علمه بانقطاع الإرسال. وبعد حوالي أربعين دقيقة من انقطاع الإرسال، عاد الإرسال مرة أخرى، وكان ذلك في حوالي الساعة السابعة وثلاث عشرة دقيقة، فبادر فهمي عمر بإبلاغ السادات بعودة الإرسال، فسأله: هل يمكن إلقاء البيان؟ فقال فهمي عمر: بعد دقيقتين ستنتهي إذاعة القرآن الكريم، وسوف يتلوه حديث ديني لمدة عشر دقائق. فقال السادات: لا.. أنا سأذيع البيان بعد القرآن مباشرة. وفي الساعة السابعة والربع تمامًا، تأهب الإذاعي فهمي عمر لتقديم السادات لإذاعة البيان، وإذا بالمهندسين يبلغونه مرة أخرى بأن الإرسال قد قُطع ثانية، ولكن هذه المرة من مصلحة التليفونات وليس من (أبوزعبل). فثار السادات غاضبًا، وقال: "إيه ده تاني؟"، وأسرع إلى التليفون حيث عاود اتصاله بالقيادة.

وفي الساعة السابعة وسبع وعشرين دقيقة عاد الإرسال مرة أخرى، وكان ذلك من المصادفات الحسنة لأن نشرة الأخبار كان موعدها في السابعة والنصف صباحًا، وهو أفضل موعد يستمع فيه الناس إلى نشرة الإذاعة. وعندما دقت الساعة معلنة السابعة والنصف، تأهب الإذاعي فهمي عمر لتقديم محمد أنور السادات بالصفة التي طلبها، وهي أنه "مندوب القيادة"، فقد رفض أن يقدمه باسمه. دقت الساعة وقال فهمي عمر: "سيداتي وسادتي، أعلنت ساعة جامعة فؤاد الأول السابعة والنصف من صباح الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو، وإليكم نشرة الأخبار التي نستهلها ببيان من القيادة العامة للقوات المسلحة، يلقيه مندوب القيادة." وانساب صوت محمد أنور السادات يعلن أول بيان للثورة، واستغرقت تلاوته دقيقتين ونصفًا، واختتم القراءة بذكر موقع البيان: "اللواء أركان حرب محمد نجيب، القائد العام للقوات المسلحة".

وواصل فهمي عمر قراءة نشرة الأخبار التي كان معظمها خاصًا بمراسم تشكيل وزارة نجيب الهلالي، ومقابلات الملك مع رئيس الوزراء والوزراء. وقد سأل السادات قبل قراءة النشرة: هل يُحذف منها شيء؟ فقال: اقرأها كلها كما هي.

وما كاد السادات ينتهي من قراءة البيان، حتى تركه لأحد الضباط القائمين على حراسة الإذاعة، وعاد إلى مبنى رئاسة الجيش. ولم يتم تسجيل البيان عند إلقائه في المرة الأولى بصوت أنور السادات، لأنه لم يكن معروفًا لدى الإذاعة وقتئذ نظام التسجيل بالأشرطة البلاستيك، بل كان التسجيل يتم بأشرطة صلب بماكينات كبيرة وصغيرة بعد وصول المهندس المختص بعد الساعة التاسعة صباحًا يوميًّا.

وبعد إذاعة بيان الثورة، امتلأت الشوارع المحيطة بالإذاعة بالآلاف من المواطنين، وهم يقبلون جنود القوات المسلحة، وقدموا لهم الشاي والبسكويت مرددين: "تحيا مصر".

وبعد مغادرة محمد أنور السادات دار الإذاعة بعد إلقائه البيان الأول، كثرت الاتصالات مع الإذاعة لإعادة إذاعة البيان، نظرًا لأن فئات عديدة من الشعب لم تتح لها فرصة الاستماع إليه. وعندما استأنفت الإذاعة إرسالها في فترة الضحى، التي تبدأ في العاشرة صباحًا وتنتهي في الحادية عشرة والنصف، كان المهندس أحمد عواد المختص بالتسجيل قد وصل. وطلب المذيعون من أحد الضباط القائمين بالحراسة إلقاء البيان بصوته، ليسمعه أولئك الذين فاتهم الاستماع إليه في الفترة الصباحية. وتقدم الصاغ محيي الدين عبد الرحمن، وألقى البيان على الهواء مباشرة في العاشرة صباحًا، وتمكن المهندس أحمد عواد من تسجيله، وبدأت محطة الإذاعة تذيعه على فترات ليسمعه أكبر عدد من المواطنين. ولكن قراءة الصاغ محيي الدين عبد الرحمن كانت مليئة بالأخطاء اللغوية إلى الحد الذي أثار ثائرة الكثيرين، وجعلهم يتصلون بالقيادة لتدارك الموقف. وبالفعل اتصلت قيادة الحركة بالرائد محيي الدين عبد الرحمن وطلبت منه وقف تلاوة البيان بصوته، وتكليف واحد من المذيعين بتلاوة البيان بطريقة صحيحة. وكان أول مذيع يقرأ البيان بصوته هو المذيع صلاح زكي، كما أذاعه المذيع جلال معوض بصوته في نشرة أخبار الثامنة والنصف مساءً.

ولم يُسجل البيان بصوت أنور السادات إلا خلال الاحتفال الذي أُقيم بمناسبة مرور ستة أشهر على قيام الثورة، أي في يوم ٢٣ يناير ١٩٥٣. ولم يكن هذا البيان هو البيان الوحيد للثورة، بل كان هناك بيان ثانٍ توجه به اللواء محمد نجيب إلى القوات المسلحة، جاء فيه:

"تعلمون جميعًا الفترة العصيبة التي تجتازها البلاد، ورأيتم أصابع الخونة تتلاعب بمصالح البلاد في كل فرع من فروعها، وتجرأت حتى تدخلت في داخل الجيش وتغلغلت فيه، وهي تظن أن الجيش قد خلا من الرجال الوطنيين، وإننا في هذا اليوم التاريخي نطهر أنفسنا من الخونة والمستضعفين، ونبدأ عهدًا جديدًا في تاريخ بلدنا. وسيسجل لكم التاريخ هذه النهضة المباركة أبد الدهر، ولا أظن أن في الجيش من يتخلف عن ركب النهضة والرجولة والتضحية التي هي واجب كل ضابط منا. والسلام."

ثورة 23 يوليو خلدها الأدب بفنونه المتنوعة، مثلما خلدها الفن بروافده. ونذكر أن الأديب العالمي نجيب محفوظ كان مهمومًا بقضايا وطنه، وكان ينتظر اليوم الذي تتخلص فيه مصر من الاحتلال، ولذا وهب قلمه لأجل وطنه. فقد كتب "القاهرة 30"، حيث تحدث عن ثلاثة أصدقاء من طلاب الجامعة يعيشون في منزل واحد: علي طه، شاب مثقف يحلم بثورة تقضي على الفساد والظلم، وأحمد بدير، شاب لا يهتم بشيء يعمل في إحدى الصحف، ومحجوب عبد الدايم، أفقرهم ويعيش متسلقًا للوصول إلى هدفه. وتناول أيضًا أسلوب محجوب في التكيف مع المجتمع الفاسد حتى لا يموت جوعًا، وفي الوقت نفسه يستمر علي طه في نضاله الثوري من خلال الناس مبشرًا بفجر جديد. وتحول إبداع نجيب محفوظ إلى فيلم بعنوان "القاهرة 30"، إخراج صلاح أبو سيف، وبطولة سعاد حسني وأحمد مظهر وعبد المنعم إبراهيم وحمدي أحمد وعبد العزيز مكيوي وتوفيق الدقن. ويُعد من أهم الأفلام التي ناقشت الظروف التي مهّدت لقيام الثورة، خاصة بعد انتشار الفساد، وقد عُرض عام 1966.

وممن كتبوا عن الثورة أيضًا الأديب الكبير يوسف السباعي، الذي عُرف بأدبه الرومانسي، وكان من أبرز رموز الثقافة في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد كتب عدة أعمال ترتبط بالثورة من قريب أو بعيد، مثل روايته "العمر لحظة"، التي دارت أحداثها خلال حرب أكتوبر، لكنها حملت بداخلها إشارات للثورة ومبادئها التي تمسك بها الضباط الأحرار. وفي روايته "رد قلبي"، التي تحولت إلى فيلم سينمائي، تناول قصة الحب التي جمعت بين ابن الجنايني وابنة الباشا، وكان الفارق الطبقي حاجزًا بينهما، إلى أن جاءت الثورة وحققت العدالة الاجتماعية، فزالت الحواجز الطبقية، وبدأ الحلم يتحقق.

وقد تجسدت مبادئ الثورة كذلك في رواية "في بيتنا رجل" للكاتب إحسان عبدالقدوس، وهي من أبرز الروايات التي تحدثت عن فترة ما قبل الثورة. تحكي الرواية عن الشاب إبراهيم حمدي، الطالب المنتمي لإحدى الجماعات السرية المقاومة للاحتلال، الذي اغتال أحد رموز النظام الملكي الفاسد، فلجأ إلى بيت أحد زملائه، وهناك نشأت قصة حب بينه وبين أخت زميله. تعكس الرواية مدى كراهية الشعب المصري للفساد والاحتلال، وتُبرز الدور البطولي لشباب مصر في تمهيد الطريق للثورة.

وتُعد رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ واحدة من أبرز الروايات الرمزية التي تُشير – ضمنيًا – إلى واقع مصر السياسي والاجتماعي، وإن لم تتناول الثورة بشكل مباشر. وقد أثارت الرواية جدلًا كبيرًا، لما تحمله من رموز متعددة فسّرها النقاد بطرق مختلفة، لكنها تظل شهادة أدبية على التحولات التي عرفها المجتمع المصري عقب الثورة.

أما في الشعر، فقد كان لصوت عبد الرحمن الأبنودي حضور قوي في توثيق الثورة ومبادئها، من خلال قصائده العامية التي وصلت إلى قلوب الناس بسهولة. ومن قصائده التي عكست روح الثورة: "أنا والناس"، و"جوابات حراجى القط"، و"الأرض والعيال"، وقد مزج فيها بين الحلم الثوري وهموم البسطاء من الشعب.

كما كتب الشاعر صلاح جاهين عددًا من القصائد التي تمجد الثورة ومكتسباتها، خصوصًا في دواوينه "رباعيات صلاح جاهين" و"على اسم مصر". وقد كان جاهين من أشد المتحمسين للثورة، وكان يرى فيها باب الأمل للمصريين في مستقبل أفضل.

وفي الأغنية، خُلّدت ثورة يوليو بأصوات العمالقة، فقد غنت أم كلثوم:

"ثوار.. أحرار.. هنكمل المشوار"

وغنى عبد الحليم حافظ:

"إحنا الشعب.. إحنا الشعب.. صاحب الثورة وصاحب القرار"

وارتبط صوت عبد الحليم بالثورة ارتباطًا وثيقًا، منذ أن غنّى "إحنا كنا فين وبقينا فين"، وحتى أغنية "أحلف بسماها وبترابها"، التي أضحت نشيدًا وطنيًا غير رسمي في وجدان الشعب.

كما كتب الشاعر أحمد شفيق كامل أغنية "مصر التي في خاطري"، والتي غنتها أم كلثوم، فكانت من أبرز الأغاني التي تعبر عن حب الوطن، وترسخ لمبادئ الانتماء التي نادت بها الثورة.

وقد تناول المسرح أيضًا الثورة، وكان الكاتب الكبير توفيق الحكيم من أوائل من تناولوا التغيرات التي أحدثتها الثورة على الواقع المصري، من خلال مسرحيته "الصفقة"، التي ناقشت صراع المبادئ في زمن التغير، وكذلك في مسرحية "بنك القلق" التي عرضت التناقضات الاجتماعية والاقتصادية في مصر ما بعد الثورة.

ولم يكن الفن التشكيلي بعيدًا عن أجواء الثورة، فقد عبّر الفنانون من خلال لوحاتهم عن التغيرات الاجتماعية والسياسية. وبرزت لوحات الفنان جمال السجيني والفنان عبد الهادي الجزار، اللذين حملا الهمّ الوطني في ريشتهما، مجسدين وجوه البسطاء والعمال والفلاحين الذين كانت الثورة تنادي بحقوقهم.

لقد كانت ثورة يوليو حدثًا مفصليًا في تاريخ مصر الحديث، لم تقتصر آثاره على السياسة والاقتصاد فقط، بل تسربت روحها إلى شرايين الثقافة والفن والأدب. فتحولت من لحظة سياسية إلى لحظة إبداعية، حمل فيها المثقفون والمبدعون راية الثورة، وأخلصوا لها بقلمهم وريشتهم وصوتهم، فصار كل عمل فني أو أدبي ينبض بروح يوليو، ويسجل للذاكرة الجمعية فصولًا من الحلم الذي راود المصريين طويلًا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة