السبت 18 مايو 2024

المصارحة الاقتصادية والمكاشفة المالية حديث لا ينقصه الصراحة

9-2-2017 | 10:39

فى ملف هذا العدد من «المصور» يتم طرح موضوع فى غاية الأهمية والحساسية وهو حدود وضوابط المصارحة والمكاشفة بين مؤسسات الدولة وأفراد الشعب وهو موضوع شغل اهتمام العديد من الباحثين والمفكرين فى مجالات وساحات السياسة والاقتصاد القومى والإدارة العامة، وقد انعكس ذلك على تواجد العديد من المقالات والدراسات والأبحاث العلمية التى تناولت هذا الموضوع، وفى هذا المقال أتناول بعض النقاط المحددة المتعلقة بالمصارحة الاقتصادية والمكاشفة المالية فى حديث لا ينقصه الصراحة ولا ينبغى سوى مصالح الوطن العليا.

هناك دول عديدة بدأت تطبق بدايات مفهوم الديمقراطية الاقتصادية والذى يعنى ببساطة إشراك المواطنين فى تحديد التوجهات والسياسات الاقتصادية وذلك بالطبع بعد الاتفاق على الأهداف والغايات الاقتصادية المطلوب تحقيقها خلال فترة زمنية محددة، وتأتى هذه المشاركة من خلال البرلمان والاتحادات والتجمعات المهنية ومنظمات العمل المدنى وغيرها من الجهات التى تمثل المجتمع ككل.

فى إطار تطبيق الديمقراطية الاقتصادية يجب أن نشرح للشعب بالتفصيل الأوضاع الاقتصادية الحالية والأسباب التى أدت إلى تلك الأوضاع، وما هى الأساليب والسياسات المالية والاقتصادية والتشغيلية التى يمكن أن تصحح من تلك الأوضاع وتحقق تحسنا فى مستويات المعيشة من خلال زيادة المشروعات وفرص العمل المتاحة وزيادة الصادرات وخفض الواردات وكل ذلك فى إطار جدول زمنى محدد يشعر الناس بالأمل فى الإصلاح وتحسن الموقف الاقتصادى.

المصارحة الاقتصادية هى جزء لا يتجزأ من الديمقراطية الاقتصادية، ولكن هذا لا يعنى إعلان كل شيء فى أى وقت وبدون أى قيود فهذا لا يحدث فى أعتى الدول الليبرالية ذات التوجه الاقتصادى الرأسمالى، فهناك دائماً حدود لكل شيء، فمن الممكن أن تتأثر علاقة الدولة بإحدى الدول الهامة، مما يؤثر على الاقتصاد القومى فلا تذاع كل التفاصيل حرصاً على تدعيم وإصلاح هذه العلاقة بعيداً عن الشائعات وسوء الفهم إلى أن تعود الأمور إلى طبيعتها دون حدوث آثار ضارة اقتصادياً، وهناك العديد من الأمثلة التى شهدها التاريخ الاقتصادى للدول تعكس حرص الدولة على حجب بعض المعلومات السياسية والاقتصادية، تحقيقاً لمصالح الدولة العليا وللحفاظ على الأمن القومى للبلاد.

فى مصر لا يكف الرئيس السيسى عن مناشدة الحكومة أن تقوم بمصارحة الشعب بحقائق وتفاصيل الموقف الاقتصادى؛ لأن الناس عندما تفهم تبدأ فى الاقتناع وتقبل بعض المصاعب الاقتصادية فى سبيل إنجاز برنامج الإصلاح الاقتصادى واستكمال إجراءات الإصلاح الاقتصادى، ولكن للأسف نجد أن معظم أعضاء الحكومة لم يلتزموا بذلك، فالقليل من المعلومات متاح والمصارحة غائبة وتشعر أن الكل خائف من شيء ما لا ندرك ما هو ... وأقرب مثال على ذلك هو اتفاقية صندوق النقد الدولى فقد نشر الصندوق يوم ١٢ أغسطس ٢٠١٦ مجموعة من الأسئلة والإجابات عن اتفاقية الصندوق مع مصر وعندما حدثت الموافقة النهائية فى نوفمبر ٢٠١٦ قامت بإعادة نشر هذه الأسئلة والإجابات مع إضافة حقائق وأرقام جديدة وتم نشر كل ذلك على موقع صندوق النقد الدولى بشبكة الإنترنت وسؤالى هنا لماذا لم تبادر الحكومة بنشر هذه المعلومات والتى تصب فى معظمها فى صالح الاقتصاد المصرى، وأتصور أنه لو حدث وتم نشر هذه المعلومات منذ شهر أغسطس الماضى لكان له أكبر الأثر الإيجابى فى القضاء على الكثير من اللغط وسوء الفهم حول اتفاقية صندوق النقد الدولى.

وفى إطار المصارحة الاقتصادية نجد أن تصريحات العديد من الوزراء فى مصر يبتعد تماماً عن الأصول المهنية للمصارحة الاقتصادية ففى يوم نعلن أنه لا ارتفاع فى الأسعار وفى يوم آخر نقول إن هناك احتمالا لارتفاع الأسعار وفى يوم ثالث نقول إن كل شيء وارد وفى يوم رابع ترتفع الأسعار بالفعل.. هذا أمر لا يحدث فى معظم دول العالم والمفروض أن تعمل الحكومة على تحقيق الحد الأدنى من التنسيق والتكامل بين أعضاء الحكومة بحيث نلمح الموضوعية واحترام العقل فى التصريحات المعلنة بحيث نحقق مزايا المصارحة الاقتصادية مع الحفاظ على متطلبات الأمن القومى فى نفس الوقت.

ونأتى إلى المكاشفة المالية .... فهناك أدوات مالية مثل الموازنة العامة للدولة والحساب الختامى لموازنة الدولة يتم استخدامها فى الكشف عن عناصر موارد واستخدامات الجهاز الإدارى للدولة وهيئاتها الاقتصادية، فالموازنة العامة للدولة تعبر عن الإيرادات والمصروفات المتوقعة للدولة خلال عام مالى مقبل فى حين أن الحساب الختامى يعبر عن الإيرادات الفعلية والمصروفات الفعلية عن العام المالى المنقضى، وبالتالى يمكن إجراء المقارنة بين الإيرادات المخططة والإيرادات الفعلية وكذلك بين المصروفات المخططة والمصروفات الفعلية، وبالتالى يمكن إدراك العلاقة بين العجز أو الفائض المخطط من ناحية والعجز أو الفائض الفعلى من ناحية أخرى.

وفى مصر تتم مناقشة الموازنة العامة فى البرلمان على مستوى اللجان النوعية المتخصصة مثل لجنة الخطة والموازنة واللجنة الاقتصادية وكذلك على مستوى أعضاء المجلس ككل فى الجلسات العامة، وتتم مناقشة كل موازنة فرعية خاصة بالزراعة والصناعة والتعليم والصحة وغيرها من القطاعات وذلك على مستوى اللجان النوعية المتخصصة وعلى مستوى المجلس ككل، وينص الدستور على أن المجلس مسئول عن الموافقة واعتماد هذه الموازنة حتى يمكن العمل بها خلال العام المالى وتتم نفس الإجراءات على مستوى الحساب الختامى ولكن بالتعامل مع الموارد والاستخدامات الفعلية.

المكاشفة المالية تتحقق من خلال مناقشة تفاصيل الموازنة العامة للدولة وكذلك تفاصيل الحساب الختامى للموازنة، وذلك على مستوى جميع قطاعات الدولة من وجود بعض الجهات التى يتم التعبير عن الموازنات الخاصة بها فى رقم واحد بدون تفاصيل وذلك وفقاً للطبيعة الخاصة لهذه الجهات، ولكن هذه الأرقام تدخل ضمن أرقام الموازنة العامة للدولة وتخضع لنفس مستوى المناقشة والتحليل.

وعن هذه النقطة يثار الجدل حول أهمية المكاشفة عن تفاصيل موازنات الجهات ذات الرقم الواحد وهل يحقق ذلك المستوى المطلوب من الشفافية وإظهار الحقائق ..وبداية هناك دول عديدة على مستوى العالم تحتوى على موازنات ذات رقم واحد لبعض الجهات ذات الطبيعة الخاصة ودون أن يتهموا بضعف مستويات المكاشفة والشفافية ويرى المسئولية فى هذه البلاد أن العبرة بمستويات الأداء وتنفيذ البرامج والمشروعات والأنشطة وتحقيق الأهداف المطلوبة بصرف النظر عن التفاصيل طالما كان الإنفاق الفعلى فى إطار ما هو مخطط وطالما أن الكل يخضع لرقابة الأجهزة الرقابية المختلفة ... وأنا بشكل شخصى أميل إلى هذا الرأى فمع ازدياد حجم التحديات والمخاطر والتهديدات المحيطة بالدولة وإمكانية أن تسفر المكاشفة عن التفاصيل والإفصاح عن أرقام وخطط وبرامج لا ينبغى الإفصاح عنها، فإنه من الممكن الاكتفاء بالموازنة ذات الرقم الواحد لهذه الجهات مع التأكيد أن هذه الجهات تخضع بالفعل لرقابة الأجهزة الرقابية المختلفة شأنها شأن أى جهة أخرى.

ويجب التأكيد أن دول العالم المتقدم لم تصل فجأة إلى المستوى المناسب للمصارحة الاقتصادية والمكاشفة المالية إلا بعد تجارب عديدة فى دروس مستفادة وشارك فى ذلك العديد من الباحثين والسياسيين والاقتصاديين، والأمر يخضع دائماً للمراجعة المستمرة بغرض الوصول إلى المستوى الملائم للمصارحة الاقتصادية والمكاشفة المالية، الذى يساهم فى تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة، وأظن أننا فى مصر يجب أن نولى هذه القضية الاهتمام الذى تستحقه فمازال أمامنا طريق طويل للوصول إلى النضج السياسى والوعى المعرفى الذى يسمح بتحديد المستوى المقبول من المصارحة الاقتصادية والمكاشفة المالية.

 

    الاكثر قراءة