الجمعة 26 ابريل 2024

قُل العَفْو

مقالات25-6-2022 | 17:47

العديد والعديد من المكائد والجرائم أصبحت ترتكب في زماننا الحالي بدافع الانتقام، ذلك الفعل المدمر والذي تسوق شهوته صاحبها لأنكر وأحط وأسوأ الأفعال.

فالانتقام يُعد واحدًا من أقدم الدوافع الإنسانية؛ حتى أن البعض يعتبره من الغرائز الأساسية والفطرية وهو ما كان واضحًا في قصة "قابيل وهابيل"، حيث لم يكن القتل بدافع الغيرة فقط، بل الانتقام أيضًا؛ وهو ما وجه الباحثين إلى تأكيد حتمية وطبيعية التفكير بالانتقام عند التعرض للإساءة أو الأذى مع صعوبة تجنبه، ولم يختصوا مرحلة عمرية لذلك الفعل؛ بل استدلوا على شموليته لجميع المراحل السنية؛ بأن حتى الأطفال يمتلكون دوافع انتقامية واضحة من الأشخاص وحتى من الأشياء التي تزعجهم، ولكن ما يتغير من شخص لآخر هو القدرة على ضبط هذه الدوافع والتحكم بها، ثم اتخاذ القرار بالانتقام من عدمه، ثم القيام بالأفعال الانتقامية، ففي أي لحظة من اللحظات قد يتراجع المُقدم على الانتقام عن قراره بسبب تغيير بسيط في المعطيات.

للوهلة الأولى قد يبدو الانتقام مجرد ردَّة فعل غاضبة، وقد يعتقد كلٌّ منا أنه يعرف لماذا يريد أن ينتقم، ويفهم تمامًا نتائج انتقامه، لكن الأمر قد لا يكون بهذه البساطة، فالانتقام من أكثر الدوافع البشرية تعقيدًا وغموضًا، وهو من أكثر الدوافع التي تعرضت للنقد العلني من فلاسفة ومفكرين، لكنها على الرغم من ذلك لطالما حصلت على استحسان الناس ونظروا إلى المنتقم كشخص جيد!، مع أنهم قد ينظرون للانتقام نفسه غالبًا كدافع سيئ!، وهذا ما استغلَّه الكتَّاب وصنَّاع السينما جيدًا في كتابة وصناعة المزيد من قصص الانتقام المؤثرة.

وهناك العديد من الدوافع التي تؤدي لفعل الانتقام؛ أولها الانتقام بدافع الغضب نتيجة التعرض للإهانة أو الظلم أو التنمر، فمشاعر الغضب التي تهاجمنا جميعًا بدرجات متفاوتة تمثِّل المرحلة الأولى من التفكير الانتقامي تتبعه مفاهيم فلسفية أخرى أعمق تجعل الإنسان يفكر بالانتقام.

وثاني الدوافع وأخطرها هو الشعور بالعار وهو ما يتجلى في المجتمعات التي تتسم بنمط حياة جماعي كالمجتمعات العشائرية والقبلية حيث يمتلك أفرادها ميولًا انتقامية أقوى مقارنة بالمجتمعات الفردية، وحيث التنازل عن الثأر في بعض هذه المجتمعات عار اجتماعي، ومن لا يرد الإهانة بإهانة سيتعرض دائمًا لإهانات جديدة لضعفه ويعيش مكبلًا بالخزي والمعايرة.

يبدو أنَّ الانتقام غالبًا ما يتطلب منَّا مجهودًا أكثر مما تتطلب المسامحة أو الغفران، وغالبًا ما يتحول الانتقام إلى دائرة لا تنتهي من الانتقام والانتقام المضاد، لذا لابد من البحث في علاجه وكيفية كبح شهوته!!!

ووجدت الحل في قول الله عز وجل في كتابه الكريم: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ»، وهو سؤال في غاية الأهمية، لأن كثيرًا من الناس يأتي عند مسألة الإنفاق ويقف مترددًا، ويظل يفكر، حتى بات الأمر ليس بالهين على كثير من الناس في هذه الأيام، ليرد الله تعالى بقوله: «قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ»..
وبتمعننا في الآية الكريمة، سنجد الخطاب الإلهي موجه لمن صم الله أذنه، وطمس على قلبه إلا من شهوة الانتقام، والغل، والحقد، والبغضاء، الآية بالأساس كانت تتحدث عن الخمر والميسر، ولكن حينما وصل السؤال إلى ماذا ينفقون، كانت الإجابة، العفو.. لأن العفو من شيم الكبار، من شيم الأنبياء، من شيم أهل الخير، الذي لا يحملون في صدروهم إلا الخير للناس ،بعيدا عن الغل والحقد.

العفو والصفح بالأساس أمر إلهي، حث عليه في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ »، وقال تعالى أيضًا: «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

ويقول عز وجل: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»، كما يقول أيضًا: «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، إذن هو أمر إلهي لاشك، لكن مؤكد لن ينعم به إلا أصحاب القلوب الخيرة، الذين يتمنون بالأساس الخير لكل الناس.

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت إن علمت أي ليلة القدر، ما أقول فيها؟.. قال عليه الصلاة والسلام: «قولي.. اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني يارب العالمين».

ماذا لو سمعنا ونفذنا.. مؤكد سنكون من المقربين من الله عز وجل، لكن ماذا لو سمعنا وعصينا والعياذ بالله، مؤكد لن يرضى الله عنا وتقسو قلوبنا، وسنكون وقتها ممن صم الله أذانهم، كبح شهوة الانتقام يحتاج لترويض النفس؛ تلك النفس الأمارة بالسوء فتهذيب الشعور والترفع والاستعاذة بالقوي القدير؛ والتوكل على الجبار كفيل بغسل القلوب وزيادة الحسنات، فاللهم اجعلنا من عبادك العافين الراضين ولا تسلط علينا نفوسنا.

Dr.Randa
Dr.Radwa