الثلاثاء 14 مايو 2024

فرج على فودة

22-7-2017 | 13:06

يوسف القعيد

عرفت فرج فودة فى رحاب نجيب محفوظ. وما أكثر الأحبة والأصدقاء الذين قابلتهم فى جلسات نجيب محفوظ. فى المقاهى المختلفة. وقت أن جاءنا فرج فودة كنا نجلس فى كازينو قصر النيل، بعد أن تم إغلاق مقهى ريش يوم الجمعة من كل أسبوع، فلم نعد نذهب إليه. وحتى الآن لا أعرف: هل كان إغلاق مقهى ريش مقصوداً؟ أم أن الأمر تم بالمصادفة؟.

وفى هذه الجلسات لم نكن نفعل سوى أن نتكلم، تطرح علينا قضايا الواقع ويجيب عن الأسئلة المطروحة من يملك الإجابة. كنا نجلس فى كازينو قصر النيل فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى لأننى متأكد أنه بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل فى 12 أكتوبر 1988، استضافنا الدكتور إبراهيم كامل فى مركب فرح بوت الراسية على النيل، وظللنا نذهب إليها حتى مرض نجيب محفوظ مرض الموت ودخل المستشفى التى خرج منها إلى الخلود.

لاحظت على فرج فودة عند الكلام أنه كان يتكلم بقوة وبوضوح وبدقة، وهى أمور ثلاثة من الصعب أن تلحظها عند كلام أى مثقف. فالكلام غير الكتابة، الكتابة تمسك بعنق كاتبها حتى آخر لحظة فى حياته. لا يستطيع أن يتنكر لها، ولا أن يدعى أنه لم يقلها، أو أنه كان يقصد غير ما فهمه المستمعون منها.

أما الكلام فحمال أوجه يمكن للإنسان أن يقرأ منه هذا المعنى أو ذاك. كما أن الذاكرة خوانة ومن المستحيل أن يستعيد الإنسان ما قيل بدقة متناهية. لكن فرج فودة كان يتكلم كالخط المستقيم بين نقطتين. قوى وواضح ومحدد، فى كل ما تكلم فيه. ولم يكن يتكلم كلاماً يمكن أن يندرج فى سياق النميمة المجتمعية - التى كانت وما زالت – سائدة فى أوساط المثقفين باعتبارهم جزءاً من نخبة المجتمع.

الخيط الرفيع الذى كان يربط كلامه ببعضه هو الموقف النقدى الحاد والصارم من طريقة التعامل مع ثوابت الإسلام ومتغيراته، لم تكن لديه حلول وسط فى الكلام. واكتشفت بعد ذلك عندما قرأت كتبه أن كتاباته أيضاً تخلو من أى حلول وسط. كان  صارماً فى التعامل مع تاريخ الإسلام الفكرى والدينى والسياسى.

هل أتناول بعض حبوب الشجاعة وأحاول أن أكون صريحاً بقدر ما تسمح به الظروف؟ لقد همس لى من يجلس بجوارى أن هذا الذى يتكلم لا بد أن يكون مسيحياً، ولا يمكن أن يكون مسلماً. وهذا دفعنى. بفضول جئت به من قريتى ومازلت أحافظ عليه وأحاول ألا أتخلص منه أو أتخلى عنه.

لست متأكداً أننى سألته عن ديانته فى لقاء نجيب محفوظ الأول، أو عندما زرته فى مكتبه الخاص الذى كان يدير منه عملاً خاصاً أمام كلية بنات عين شمس فى مصر الجديدة. وهو المكان الذى بدأت منه محاولة اغتياله وتمت فيه. سألته عن ديانته. مع أن هذا السؤال لا يجب أن يطرح على أحد لأن الدين هو علاقة بين الإنسان وربه. فيها أكبر قدر من الخصوصية والتفرد مما لا يجعلها مادة للسؤال والجواب.

لم يستغرب فرج فودة سؤالى ولم ينزعج منه. ولم يسألنى عن السبب فيه. ولم يقل لى إن كان مسلما أم مسيحياً لكنه ذكر لى إسمه الثلاثى: فرج على فودة. وعلى الاسم الأوسط اسم له هوية إسلامية شديدة الوضوح تقطع الشك باليقين. وقد اعتذرت له عن طرح السؤال، لكنه لم يغضب من سؤالى ولم يتوقف أمامه، وقال لى السؤال طبيعى والإجابة أيضاً دقيقة وصادقة.

نخطئ كثيراً فى حق فرج فودة إذا اعتبرنا أن موقفه من الممارسات المنسوبة للإسلام والإسلام منها بريء، إن هذا الموقف هو مشروعه. أعتقد أن مشروع فرج فودة الأساسى الخندقة وراء موقف مستنير من كل قضايا الواقع. ابتداء من الاقتصاد للعلاقات الإنسانية للزواج لكل ما يجرى فى أرض الواقع والدين جزء جوهرى من هذا الذى يجرى. موقف مستنير، وهو ما نقول عنه الآن التنوير، مع أن كلمة مستنير أدق وأفضل عند الاستخدام.

وعلى الرغم من أن السنوات التى عرفته فيها في النصف الثانى من الثمانينيات وعامين من التسعينيات لم تكن سنوات تحول كبرى فى تاريخ مصر ولا الواقع المصرى ولا الفكر المصرى الحديث. لكنها كانت سنوات طغيان نواب الله ومن يحاولون إرهاب الناس باسم الدين، وربما كانت هذه الملامح مستمرة معنا حتى هذه الأيام.

كان لفرج فودة موقف ناقد منتقد من قضية شركات توظيف الأموال، وكانت مسألة مهمة فى المجتمع المصرى، فلا يوجد بيت لم يتم تخريبه باسم وهم توظيف الأموال، ورأينا صعود من قاموا بلعبة توظيف الأموال حتى أصبحوا نجوماً فى المجتمع المصرى، والبعض منهم حاول أن يقترب من فكرة أن يكون وجهاً من وجوه صناع الرأى العام.

هذه الأيام يمر ربع قرن بالتمام والكمال على استشهاد فرج فودة. ولد فى 20/8/1945، كان يصغرنى فى العمر بأقل من سنة واحدة. واستشهد فى الثامن من يونيو سنة 1992، وكان عمره وقت اغتياله السابعة والأربعين من العمر. أى قمة العطاء، إنها الفترة التى يمكن أن يعطى فيها الإنسان أكثر مما أعطى، وتنطبق عليه عبارة ناظم حكمت شاعر تركيا الجميل عندما قال إن أجمل الكلمات هى التى لم نكتبها بعد. وأحلى الأغانى هى التى لم نغنها بعد، وأعذب الأيام هى التى لم نعشها بعد.

لن أكتب ما كنت أريد أن أكتبه عن ظروف عائلته أو ما تبقى من عائلته لكى أبتعد بنفسى عما يمكن أن يكون نميمة شخصية. رغم أن أحقية من تبقى من أسرته فى رعاية الدولة لهم فرض عين. يجب القيام به، ويجب أن نطالب بتمامه وأن نعتبره قضية مهمة بالنسبة لنا.

لكنى سأذهب إلى ما بقى من فرج فودة. كتبه ومؤلفاته التى صدرت فى حياته فى أكثر من طبعة، ونفدت كلها، ومن الصعب الآن أن تجدها فى الأسواق مهما حاولت، خصوصاً أن معظم هذه الكتب كانت تصدر من دور نشر جديدة لم يكتب لها الاستمرار ولم تعد موجودة الآن.

يقولون فى قريتى إن من أنجب لم يمت، وبعد حضورى إلى القاهرة ومعاصرتى لكثير من المبدعين والمفكرين أصبحت أقول إن من كتب لم يمت. لأن الكتابة عمر ثان، فهل نطمع فى إعادة طباعة مؤلفات فرج فودة التى صدرت على شكل كتب فى حياته؟ وهل لدينا من شباب الباحثين من يعكف على جمع مقالاته المتناثرة فى الصحف والمجلات والتى ربما لم تجمع فى كتب؟.

إن كانت هناك نية جمع الكتب، فهذه قائمة أولية تمت على أساس مجهود فردى لمؤلفات فرج فودة: قبل السقوط 1984، الحقيقة الغائبة 1984، الملعوب، قصة توظيف الأموال 1985، الطائفية إلى أين 1985، وذلك الكتاب كان بالاشتراك مع الدكتور يونان خليل رزق وخليل عبد الكريم. حوار حول العلمانية 1985، نكون أو لا نكون 1987.

كتابه الذى نشر بعد اغتياله كان عنوانه: "حتى لا يكون كلاماً فى الهواء". وقصة هذا الكتاب أن زميلنا الكبير صلاح منتصر دعاه لكتابة مقالات فى مجلة أكتوبر التى كان يرأس تحريرها مع رئاسته لمجلس إدارة دار المعارف. وكان العنوان الذى اختاره فرج فودة لمقالاته: "كلام فى الهواء". وجمعت هذه المقالات بعد اغتياله وصدرت بعد أن رحل عن عالمنا.

كان فرج على فودة كثيف الحضور، غزير الإنتاج، من المصريين الذين يمكن أن تقول عنهم إن الواحد منهم صاحب قضية. يوقف حياته عليها وكل ما يقوم به يكون فى سبيلها، وحتى من الممكن أن يدفع حياته ثمناً للدفاع عما يؤمن به.

 

    Dr.Radwa
    Egypt Air