«ثانوي صنايع والبخت ضايع».. مقولة يرددها أغلب طلبة وخريجو التعليم الفني في مصر نتيجة بعض المعوقات التي تواجههم وقلة الإصلاحات وتراجع مستوى التدريب في مختلف المدارس بالمحافظات، وخلال السنوات الأخيرة تغيرت نظرة المجتمع لخريجي التعليم الفني باعتباره تعليم "لا يسمن ولا يغني من جوع"، بمثابة مأوى لكل فاشل علمياً وأخلاقياً ، بعكس ما تراها الدول المتقدمة والكبرى، التي تعتبره تعليم يبني المجتمع وينعشه اقتصاديا، مثلما حدث في كوريا واليابان والصين وألمانيا الذين أولوا التعليم الفني اهتمامًا خاصًا من أجل بناء دولة قوية اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا.
في مصر، كان التعليم الفني بمختلف مدارسة يتمتع باهتمام خاص وسط إقبال كبير على تلك المدارس، وزاد الاهتمام بالتعليم الفني عقب ثورة الـ 23 يوليو من عام 1952 وسط اهتمام بتطوير الجانب العملي بالمدارس، وظل التعليم يحظى باهتمام واسع حتى تسعينات القرن الماضي، بدأ في التراجع التدريجي وأغلبه كان في الجانب الحرفي والعملي وأصبح تخرج أجيلا لا يجيدون الحرفة بل لا يجيدون معها التعليم أيضًا.
تراجع الإقبال على مدارس التعليم الفني
وأصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في 2015، دراسة تحليلية حول التعليم الثانوي الفني، كشفت فيها عن انخفاض نسبة المقيدين بالتعليم الفني بالنسبة لإجمالي التعليم الثانوي من 63.4 % خلال العام الدراسي 2007/2008 إلى 52.5 % عام 2013/2014.
ويبلغ عدد مدارس التعليم الفني في مصر ٢٩٩٤ مدرسة، يحظى التعليم الصناعي منها على 947 مدرسة، مقسمين كالتالي 750 مدرسة بالمدن، و197 بالريف، ويبلغ إجمالي عدد الفصول 24 ألفا و983 فصلا، منها 20 ألفا و482 فصلا بالمدن، في مقابل 4 آلاف و501 فصل بالمناطق الريفية.
واستحدثت الدولة في مطلع عام 2015 خلال تولي المهندس إبراهيم محلب، رئاسة الحكومة، وزارة للتعليم الفني والتدريب المهني، وتم اختيار الدكتور محمد يوسف والذي كان يشغل منصب رئيس قطاع التشغيل بشركة المقاولون العرب، على رأس الوزارة الجديدة، والتي سرعان ما تم إلغائها عقب تدشينها بـ6 أشهر، لتعود مرة أخرى قطاع في وزارة التربية والتعليم.
وكان الهدف من استحداث الوزارة المستقلة هو التأكيد على اهتمام الدولة بهذا النوع من التعليم، وكانت تهتم بتحديد احتياجات سوق العمل بالتنسيق مع الجهات المعنية كما وكيفا من المهن والحرف المختلفة، والعمل على توفير العمالة الماهرة لسد هذه الاحتياجات وللقضاء علي البطالة.
التجربة الألمانية تقهر الأزمات
خلال جولة «الهلال اليوم» بكلية التعليم الفني بشبرا، التقت بالباحث محمد الدحام، بجامعة الملك سعود بقسم الإدارة التربوية، أثناء زيارته للقاهرة، والذي قال من خلال دراسته عن التجربة الألمانية في التعليم الفني:" من خلال دراستي وجدت بالفعل أن ألمانيا بمثابة نموذجا فريدا من نوعها فعلى الرغم من الكوارث التي تعرضت لها أثناء الحرب العالمية الثانية، وما وقع بها من دمار طال جميع المؤسسات وما نتج عنه من تهجير لعلمائه ليعملوا في مختبرات وجامعات الشرق والغرب المنتصرة في الحرب إلا أنها لجأت إلى التربية الداعمة لأبنائها بالتحدي لمواجهة الصعاب لذلك تفوقت ألمانيا في جميع المجالات الاقتصادية والتقنية الصناعية، مثلما تفوقت في الميادين العسكرية أثناء حروبها".
وتابع:" أن التعليم الفني في مصر على النقيض تمامًا، حيث أصبح يشبه رجلًا عجوزًا تخلل جسده المرض والكسل مما أدى إلى تهميشه ونتج عن ذلك ضعف الإقبال وتفادي أولياء الأمور إلحاق أبنائهم به وانكسار نفسيه الطالب نتيجة ما يتعرض له من نظرات تحقير واستهوان بهذا الجانب من الدراسة".
وتابعنا في جولتنا إلقاء الضوء على مدارس التعليم الفني، وخضنا جولة داخل بعض الأقسام المختلفة وطبيعة ورشهم وكيفية التطبيق العملي.
معامل المدارس الفنية «خرابة»
بالتجول داخل إحدى المدارس الثانوية الصناعية "نظام 5 سنوات" وجدنا بها معامل لا تليق بالجانب العلمي، كانت أشبه بـ "خرابة" مهشمة من كل النواحي على الرغم من احتوائها على بعض الأدوات التي توحي بأنه يعمل منذ وقت قريب، والمخزن يظهر في الإهمال الذي يضرب بأدوات الخراطة وماكينات الخياطة والنسيج ويتخللها التراب دون صيانة دورية.
وإلى كلية "كلية التعليم الصناعي"، حيث التقينا المهندس عبد المطلب، والذي أوضح أن الحديث عن الحقيقة سيكون مرًا لأن إصلاح التعليم الصناعي صعب للغاية، باختصار يحتاج إلى إعادة هيكلة القائمين عليه قبل إصلاح المعدات والأقسام.
وقال المهندس ناصر جلال، تخصص ميكانيكا:" ما جعلنا نفقد الأمل في تطوير التعليم الفني ونظرة المجتمع له، أنه بعيد كل البعد عن مجال العمل".
وتابع:" لو بنفكر بجد ننقذ التعليم الصناعي يبقى لازم ولابد ربط المدارس والكليات الصناعية بالمصانع حتى لا يفاجئ الطالب بعد تخرجه بأنه مطالب بالتعامل مع آلات ومعدات حديثة قد لا تكون متوافرة داخل ورش المدارس لارتفاع أسعارها على الميزانية المخصص لكل مدرسة.
مدارس ذات طابع خاص
واستطرد:" هنا بالكلية الطالب يبدأ ينزل من الفرقة الثالثة وتكون في شكل زيارات وليس ممارسة مستمرة، وهناك عدد محدود من المدارس التي تدرب أبنائها على الجانب العملي من الدفع بهم إلى المصانع والورش وتدريبهم على أحدث الأجهزة مثل مدارس "مبارك كول" و مدارس "دون بوسكو" وبعض المدارس في محافظة بور سعيد التي تطبق نظام ربط الطالب بالمصانع التابعة لقناة السويس، أما غير ذلك لا يوجد تعليم فني في مصر".
ولفت إلى أنه من الضروري وجود شراكة بين القطاع العام والخاص أو بفتح التعليم الفني للشغل العام وتدوير كل المصانع التي توقفت عن العمل، منها تدوير عجلة الإنتاج مما يحدث طفرة وانتعاش اقتصادي، بالإضافة إلى القضاء على البطالة في حال عودة تدوير المصانع من جديد وربطها بطلاب وخرجين كليات ومعاهد ومدارس التعليم الفني.
تراجع الإمكانيات
محمود محمد، أحد المدرسين بالتعليم الصناعي قال:" شوفوا حال رواتبنا كمدرسين صنايع، بصراحة البخت ضايع للمدرس والطالب، نحن في مركب واحدة وغرقانة".
أما مدرسة غمرة الثانوية، فيشير لنا الطالب عبد الله إلى إن التحاقه بالتعليم الفني كان بسبب ظروفه المادية الصعبة ولولا ذلك ما التحق بالمدارس، موضحاً أن بعض أعضاء هيئة التدريس لا يقومون بواجبهم التعليمي والتدريبي تجاه الطلاب، ويقتصر دورهم على التوقيع في دفاتر الحضور والانصراف، بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات والمعدات.
ومن داخل مدرسة شبرا الثانوية، قال عمر محمد، أحد الطلاب:" المشكلة في التعليم الفني اعتقاد الناس أن التعليم الفني ليس له مستقبل، مشدداً على أنه يحلم بأن يكون مهندساً، مشيرا إلى أن كثرة الكلام عن عدم جدوى التعليم الفني يصيب بعض الطلاب الطموحين باليأس".
التعليم الذهبي
مدارس وفى جولة "الهلال اليوم" داخل مدرسة الزاوية الحمراء الفنية، وجدنا عدة معامل وورش يتدرب بها الطلاب حتى في فترة الصيف لتفعيل المشروع الاستثماري، حيث أكد الطالب خالد مصيلحي أن التعليم الفني بالمدرسة جيد للغاية ولم أكن أتصور أن يكون بهذه الإمكانيات، متابعًا :" مع بداية الفرقة الثانية بدأنا نعمل مع إدارة المدرسة في المعرض السنوي والذي يتضمن عرض غرف نوم وصالونات وأنتريهات ودولاب ودكك للمدارس المجاورة، وفى قسم النسيج نصنع زى المدارس المحيطة، كما نتقاضى أجر كتحفيز لنا بجانب دراستنا على ما ننتجه".
وأضافت تسنيم محمد:" المدرسة هنا مشتركة وأجمل حاجة روح العائلة في المشاركة لصناعة منتج معين وكل طالب له تخصصه"، مشيرةً إلى أنها فتحت ورشة خياطة تعمل بها بعد اليوم الدراسي بعد استفادتها من تخصصها في قسم النسيج وسط مساعدة زملائها الذين يروجون منتجاتنا عبر صفحات الإنترنت".
وزارة التربية والتعليم تضع خطة جديدة لتطوير المنظومة
الدكتور أحمد الجيوشي، نائب وزير التعليم الفني، قال لـ«الهلال اليوم» إن التطوير لا يقتصر على الوزارة فقط وأن المهمة لا بد تطلب تعاون الجميع بكل آلياته، مشيراً إلى أن الوزير تناول خلال مؤتمر الشباب بالإسكندرية أزمة التعليم الفني والذي يعد جزءاً كبيراً من المنظومة التعليمية في مصر، ولدى الوزارة رؤية تطوير مصر في 2030 ولدينا في العام القادم أسلوب ومناهج جديدة في التعليم وطرق تقييم حديثة قائم على إكساب الطلاب والطالبات مهارات العمل من خلال الشراكة الكاملة بين التعليم والجهات المهتمة بالصناعة والزراعة التي توظف الخارجيين.
وأضاف أنه سيكون هناك ربط حقيقي وواقعي من خلال العمل في المصانع أو الربط من خلال المناهج بحيث تكون قادرة على التوضيح الكامل للطلاب والمواصفات التي تحتاجها بعد التخرج، مؤكدًا وجود شركة تعليمية بنسبة 100% و50% مناصفة في تحمل المسئولية بين الطرفيين سواء التعليم أو جهاز التوظيف لتصبح المسئولية بالتساوي.
ولفت إلى أنه سيتم تنفيذ هذا المشروع على مستوى المدارس بمحافظات الجمهورية دون استثناء، وسيبدأ تطبيقها بداية من العام القادم، موضحًا تدريب حوالي 100 ألف مدرس على المنظومة الجديدة، وتجهيز كافة المدارس بالحد الأدنى الذي يفي بالمطلوب داخل المعامل والورش، وبالتالي ستكون منظومة مشرفة في القريب العاجل، وسنغير الوضع الحالي للأفضل.