السبت 20 ابريل 2024

عِظَامٌ نَخٍرَةٌ

مقالات12-9-2022 | 11:54

أتعجَّبُ أيَّما تعجُّبٍ عندما يتم تكريم مبدع أو أديب أو عالم بعد موته، رغم  أن التكريم الحقيقي للإنسان ينبغي  أن يكون على مرأى ومسمع الناس وعلى رؤوس الاشهاد، وهو على قيد الحياة حيٌّ يُرزق بين العباد، ويكون صاحبه واعيًا حاضرا قبل أن يصاب بالخَرَف أو الزهايمر؛ وذلك  لتتجسد أمامه ثمار عمله في عيون  مناصريه ومتابعيه.  فما أقسى أن يُكرَّم الإنسان وهو لا يعرف المحيطين ولا يقوى على مصافحتهم ولا توجيه الشكر لهم بحفاوة العين أو القلب،  وما أشد أن يُكرَّم بعد ذهابه إلى جوف الأرض أو صعوده إلى السماء.

وهنا تحضرني مقولة للمبدع يوسف السباعي- رحمه الله- في مقدمة رواية أرض النفاق عندما أهداها لنفسه،  إذ يقول" أود أن أكرم نفسي وهي على قيد الحياة،  وأشد ما أخشى ألا يكرمني الناس إلا بعد الوفاة. ونحن شعب يحب الموتى، ولا يرى مزايا الأحياء حتى يستقروا في باطن الأرض.. ما حاجتي إلى تقدير الأحياء وأنا بين الأموات.. إني أبغي المديح الآن.. فإذا ما متُ فشيعوني بألف لعنة، واحملوا كتبي فأحرقوها فوق قبري، واكتبوا عليه: هنا يرقد أكبر حمار" انتهى النص. 

ورغم السخرية اللاذعة التي بدت بين طيات كلام السباعي وثناياه؛ فإنه ينادي بالتقدير، تقدير الإنسان للإنسان في حياته وحضرته وحضوره، لذلك فإنه سعى سعيًا حثيثًا إلى تكريم نفسه بنفسه بأن أهداها المقدمة دونما غيره. وإذا كان عزوجل قال: "وقولوا للناس حُسنًا" البقرة ٨٣، وقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد صدق قوله: "والكلمة الطيبة صدقة" و"تبسمك في وجه أخيك لك صدقة" فما بالنا بتكريم الإنسان بالكلام الطيب الذي يثلج الصدور ويشعره بقيمته ومقامه في موضعه ويدفعه إلى الأمام ويحضه على الإجادة أينما حل ووقتما استقر. وهذا  الأمر لا يتنافى ولا يتناقض مطلقا مع انتظارنا الجزاء الحسن من عند رب العالمين، مع إعمال حسن الظن بالله- عز وجل-  لكنه يتكامل معه ويسيران معا في آنٍ واحد في اتجاهين متوازيين لا متعاكسين. 

ومن ثم، فعلينا إعادة النظر في آليات التكريم المُتَّبعة وبواعثها ومسبباتها. ولا أقول ولا أدعي أن يتم تكريم العاطل والباطل،  والصالح والطالح،  والكريم واللئيم، وإنما مآل حديثي وغايته هو اختيار الوقت المناسب للتكريم، قبل أن يتحول الإنسان من روح ولحم ودم إلى عظام نخرة.